تهديدات مُسبقة واتهامات مُطلقة... هل تغذي «السوشيال ميديا» القتل؟

جناة يروجون «روايتهم» عبر منصاتها ويجتذبون الشهرة والتأييد

الاستطلاعات أشارت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تُستخدم لتحريض المستخدمين على ارتكاب أعمال إرهابية (أرشيفية - رويترز)
الاستطلاعات أشارت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تُستخدم لتحريض المستخدمين على ارتكاب أعمال إرهابية (أرشيفية - رويترز)
TT

تهديدات مُسبقة واتهامات مُطلقة... هل تغذي «السوشيال ميديا» القتل؟

الاستطلاعات أشارت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تُستخدم لتحريض المستخدمين على ارتكاب أعمال إرهابية (أرشيفية - رويترز)
الاستطلاعات أشارت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تُستخدم لتحريض المستخدمين على ارتكاب أعمال إرهابية (أرشيفية - رويترز)

قبل 3 سنوات لم تجد صحيفة «التليغراف» البريطانية وصفاً مناسباً أكثر من «جريمة صُممت للسوشيال ميديا» لتعنون به تقريراً عما فعله الأسترالي برينتون تارانت، الذي قتل 51 شخصاً داخل مسجدين بنيوزيلندا، بينما كان يحمل فوق رأسه «كاميرا» تبث جريمته لمتابعيه على الهواء مباشرة مستخدماً منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي.
وخلال السنوات القليلة الماضية، تكررت الوقائع التي كانت فيها «وسائط التواصل» إحدى الأدوات التي يلجأ إليها جناة لإظهار فعلتهم وحشد المؤيدين ونيل الشهرة، وفي مصر وخلال شهرين تقريباً، صدم المتابعون لجريمتي قتل تكاد تكون متطابقتين لفتاتين ليس بينهما رابط سوى أنهما ضحيتان، وكان أحدث تلك الجرائم، أمس، عندما قتل شاب في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية (80 كيلومترا شمال شرقي القاهرة)، زميلته بـ17 طعنة وبشكل علني.
وقبل أن يسل المتهم الذي وقع في قبضة الشرطة ويخضع راهناً للتحقيقات، سكينه التي نفذ بها جريمته، لم يكن مشغولاً ربما بمدى حدتها بقدر ما كان منتبهاً لصناعة «ستوري» على حسابه على تطبيق «واتساب»، يتوعد خلاله ضحيته قبل قتلها، ويدبج «روايته» التي يظهر فيها في موقع الضحية.
وحادث «فتاة الشرقية» (سلمى) الأحدث، يكاد أن يكون نسخة مكررة من واقعة «فتاة المنصورة» (نيرة أشرف) التي راحت ضحية زميلها بالجامعة أيضاً، في يونيو (حزيران) الماضي، والذي نال حُكماً بالإعدام شنقاً (ما زالت القضية قيد الاستئناف من قبل الجاني)، وكان هو الآخر استخدم منصات مواقع التواصل لتهديد الضحية وتوعدها، ونال من خلالها فيما بعد دعماً من حسابات لأشخاص نظموا حملات لدفع كفالة لإخراجه.
على أي حال فإن الجريمة الأحدث في «الشرقية»، أظهرت سلوكاً رقمياً متشابهاً بين الجانيين، إذ تداول مستخدمون لحساب المتهم بقتل الفتاة سلمى عدداً من المنشورات من الحساب الخاص بالمتهم على «فيسبوك»، لتتكشف كواليس الجريمة.
تضمنت المنشورات تعليقا كان قد كتبه المتهم على صفحة مجموعة معنية بتقديم الاستشارات القانونية، وكشف في تعليقه عن تضرر شخص من علاقة عاطفية وعن استنزافه ماديا والتسبب في رسوبه.
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=1102012297075664&set=a.122244141719156&type=3&mibextid=keu0s2
وكذلك، تداول رواد «السوشيال ميديا» منشوراً مصدره حساب المتهم لصورة تجمعه بالضحية مدوناً عليها كلمات تهديد بالقتل، وكتب «أتى أمر الله فلا تستعجلوه وأقسم أن نهايتك ويومك قرب»، وتمت مشاركة المنشورات آلاف المرات خلال ساعات.
وأظهر استطلاع نشرته شبكة «ساينس دايركت» المعنية بالمنشورات العلمية، في يوليو (تموز) الماضي، أن وسائل التواصل الاجتماعي «تُستخدم كوسيلة للهجوم لارتكاب أعمال إجرامية مثل الاحتيال وتحريض المستخدمين على ارتكاب أعمال إرهابية».
وأوصى الاستطلاع الشركات المشغلة لوسائل التواصل الاجتماعي بـ«مراقبة مواقعها لتحديد وإزالة وحظر المستخدمين الذين يرتكبون أعمالاً إجرامية من خلال التوازن الدقيق بين حرية التعبير والنية الإجرامية».
ويعتقد متخصصون أن «نمط الجرائم السائد، أظهر أن مواقع التواصل باتت أداة في يد الجاني»، ووفق ما يرى محمد فتحي، المتخصص في شؤون مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، يقول: «أصبحت تلك المواقع أداة أصيلة بجرائم القتل حتى وإن اختفى العمد».
ويضيف فتحي لـ«الشرق الأوسط»: «مواقع التواصل الاجتماعي تشارك دون عمد في نشر جرائم العنف، وذلك، لأنها مقيدة بأدوات تعقب أثبتت عدم جدواها في الإلمام باللغات غير الإنجليزية، وبينها العربية، من ثم أدوات الذكاء الصناعي للكشف عن الكلمات التي تحرض على العنف باتت غير قادرة على استيعاب لغة الشارع، لذلك تقع في فخ المشاركة في نشر العنف».
ويردف «العكس من ذلك يتضح من الخطابات السياسية، التي لا تكل خوارزميات منصات التواصل من كشفها وحذفها على الفور».
حسب خبير الإعلام الرقمي، فإن عدد مستخدمي شركة «ميتا» وحدها بمنصاتها الثلاث للتواصل، فيسبوك وإنستغرام وواتساب، وصل إلى ثلاثة مليارات مستخدم، بينهم نحو 51 مليونا في مصر فقط، ويقول: «هؤلاء المستخدمون يتحدثون نحو 60 لغة مختلفة، ومن ثم يصعب على القوة البشرية التي تغذي أدوات الذكاء الصناعي بجميع المصطلحات التي تحض على الكراهية والعنف بشكل صريح أو مستتر».
ولا يقتصر رصد المراقبين لشواهد «بصمات وسائل التواصل في الجرائم» على الحالات العربية، إذ أظهرت عملية تحليل السلوك على الفضاء الإلكتروني لـ«روبرت كريمو»، البالغ من العمر 21 عاماً، والذي فتح النار على سبعة أشخاص في هايلاند بارك، بالولايات المتحدة الأميركية، في 4 يوليو الماضي، عن أن «آلاف الرسائل والصور ومقاطع الفيديو والأغاني التي نشرها على الإنترنت ترتكز على العنف».
وكشفت التقارير، حسب «إم بي آر» الأميركية، أنه كان مهتماً بشكل غير عادي بالعنف.
وكذلك، قال الأسترالي برينتون تارانت، ضمن اعترافاته بعد فتح النار على المصلين في مسجد في كرايستشيرش، نيوزيلندا، 2019 إن الكاميرا التي كانت مربوطة في رأسه لتبث الجريمة مباشرة للعالم، كانت «أقوى أسلحته»، حسب «التليغراف».
ليس هذا فحسب إذ ذكرت الصحيفة البريطانية أن مستخدمي تويتر وريديت قاموا بإعادة نشر بيان المتهم ولقطات الهجوم المروعة بسرعة فاقت قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على الحذف.
https://twitter.com/Telegraph/status/1106548141053149184?s=20&t=8dZkKuFSqQ_thUASZYiXRQ
يقول «فتحي» إن الكراهية شائعة في العالم الرقمي، ويوضح: «ربما نتصور أن منصات التواصل الاجتماعي وحدها تعزز العنف، لكن الناس يشاهدون محتوى يدفع للجريمة والاختيار والتحرش الجنسي عبر منصات الترفيه والألعاب، على شاكلة روبلكس، وتويتش وغير ذلك من المنصات التي توفر العنف المستتر».


مقالات ذات صلة

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

شمال افريقيا هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

حفلت الجلسة الافتتاحية لـ«الحوار الوطني»، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أكثر من عام، برسائل سياسية حملتها كلمات المتحدثين، ومشاركات أحزاب سياسية وشخصيات معارضة كانت قد توارت عن المشهد السياسي المصري طيلة السنوات الماضية. وأكد مشاركون في «الحوار الوطني» ومراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أهمية انطلاق جلسات الحوار، في ظل «قلق مجتمعي حول مستقبل الاقتصاد، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه في أعباء معيشية متصاعدة»، مؤكدين أن توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين «يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأي العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأز

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اجتماعاً، أمس (الخميس)، مع كبار قادة القوات المسلحة في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، لمتابعة دور الجيش في حماية الحدود، وبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي للبلاد. وقال المستشار أحمد فهمي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، في إفادة رسمية، إن «الاجتماع تطرق إلى تطورات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الأمن القومي في ظل الظروف والتحديات الحالية بالمنطقة». وقُبيل الاجتماع تفقد الرئيس المصري الأكاديمية العسكرية المصرية، وعدداً من المنشآت في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية. وأوضح المتحدث ب

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن واستقرار الدول». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

جدد حادث تصادم في مصر الحديث بشأن مخاطر «السرعة الزائدة» التي تتسبب في وقوع حوادث سير، لا سيما على الطرق السريعة في البلاد. وأعلنت وزارة الصحة المصرية، (الخميس)، مصرع 17 شخصاً وإصابة 29 آخرين، جراء حادث سير على طريق الخارجة - أسيوط (جنوب القاهرة).

منى أبو النصر (القاهرة)
شمال افريقيا مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

بعد 3 أيام عصيبة أمضتها المسنة السودانية زينب عمر، في معبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على


القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.