سمير جريس: مع كل عمل يتقلص يقيني بشأن الترجمة المُثلى

الفائز بجائزة الملك عبد الله العالمية للترجمة لا يزال يتعلم من مشكلاتها

المترجم سمير جريس
المترجم سمير جريس
TT

سمير جريس: مع كل عمل يتقلص يقيني بشأن الترجمة المُثلى

المترجم سمير جريس
المترجم سمير جريس

بعد مسيرة متنوعة لنحو 40 عاماً في حقل الترجمة من اللغة الألمانية إلى العربية، وفي فروع الأدب المختلفة، حصل المترجم المصري سمير جريس أخيراً على جائزة الملك عبد الله العالمية للترجمة، والذي يعدّها تتويجاً لمسار طويل قطعه في هذا المجال.
يقيم جريس في ألمانيا منذ سنوات، ويرى الترجمة رحلة شاقة وممتعة. ومن أبرز ترجماته «عازفة البيانو» لإلفريده يلينك الحائزة على جائزة نوبل عام 2004، «الوعد» لفريدريش دورنمات، و«دون جوان» للكاتب النمساوي بيتر هاندكه الحائز جائزة نوبل 2019، و«الكونترباص» لباتريك زوسكيند، وصدرت له أخيراً ترجمة «اكتشاف البطء» لستن نادولني. هنا حوار معه حول الجائزة ومشاكل الترجمة.

غلاف مسرحية «الكونترباص»

> صدر لك نحو 40 عملاً مترجماً من الألمانية، كيف تتأمل بنظرة بانورامية تلك الرحلة والرصيد الحافل منذ بواكير ترجماتك إلى اليوم؟
- هي بالفعل رحلة حافلة، شاقة وممتعة في آن واحد. كانت بدايتها في أواخر الثمانينات محبطة جداً، عندما تقدمت بأول مجموعة قصصية من ترجمتي إلى هيئة الكتاب المصرية بالقاهرة، وحتى الآن ما زالت ترقد في غياهب أدراج الهيئة العتيقة، رغم الموافقة على نشرها، كانت هذه البداية المحبطة كفيلة بأن أتوقف عن الترجمة. لكني لم أفعل، وبدأت أعد مجموعة قصص أخرى لفولفجانج بورشرت، وأخرى لهاينريش بُل (نوبل 1972)، وقد تعطل نشر المجموعتين أيضاً سنوات طويلة.
في تلك الفترة انتقلت لأواصل دراسة علم الترجمة في جامعة ماينتس. وكانت فترة الدراسة في ألمانيا فترة خصبة جداً بالنسبة إليّ، حيث تعرفت على نظريات الترجمة المختلفة، وتعمقت في دراسة مشاكل الترجمة الأدبية نظرياً وعملياً، واستفدت كثيراً من عدد كبير من المراجع المكتوبة بالألمانية، ومنها الدراسة التي كتبها بالألمانية عبده عبود عن «تلقي الرواية الألمانية في المنطقة العربية»، ونال بها درجة الدكتوراه من جامعة فرانكفورت. فيها قام عبود بعمل مسح شامل للروايات الألمانية التي ترجمت للعربية من أوائل القرن العشرين حتى عام 1975، وقدم تقييماً نقدياً للترجمات.


غلاف «شتيلر» لـماكس فريش

تعلمت من هذه الدراسة النقد الموضوعي للترجمات. ثم اختتمت دراستي في جامعة ماينتس برسالة نلت عنها درجة الماجستير بتقدير امتياز، وكان عنوانها «إشكاليات ترجمة الأدب الألماني إلى اللغة العربية - هاينريش بـُل مثالاً»، وفيها ترجمت قصة طويلة نسبياً لهاينريش بُل بعنوان «ميزان آل باليك»، ثم قمت بعرض وتحليل للمشاكل التي تعترض المترجم العربي عند نقلها من الألمانية، وقدمت اقتراحات لمواجهة هذه المشاكل. ولعل هذه الرسالة هي حجر الأساس في كل عملي اللاحق في مجال الترجمة الأدبية.
> قدمت أعمالاً من ألمانيا والنمسا وسويسرا للقارئ العربي، كيف تختار أعمالك، هل تحكمها ذائقتك الأدبية فقط، أم أن هناك معايير أخرى تراعيها في اختياراتك؟
- معاييري في الاختيار يختلط فيها الشخصي بالموضوعي. أحاول البحث عن أعمال ذات صبغة إنسانية عامة (مثل مسرحية «مدرسة المستبدين» لإيريش كستنر، ورواية «حياة» لديفيد فاجنر)، أو أعمال لها أهميتها أو شهرتها في السياق الألماني، وأراها جديرة بأن يتعرف إليها القارئ العربي (مثل رواية «عازفة البيانو» للحائزة نوبل إلفريده يلينك ورواية «دون جوان» لبيتر هاندكه الحاصل على نوبل 2019، والنوفيلا النفسية «حلم» لأرتور شنيتسلر، ورواية «اكتشاف البطء» لستن نادولني)، أو لأنها حققت نقلة فنية أو أسلوبية وبالتالي كانت لها أهمية نقدية (مثل «مونتاوك» و«شتيلر» لماكس فريش)، أو لأنني أرى أن هذا العمل يثير اهتمام القارئ العربي (مثلاً «الحيوان الباكي» لميشائيل كليبرج والذي يتحدث فيه عن رحلته إلى لبنان وعلاقته بالشاعر عباس بيضون). وأحياناً أود أن أنقل عملاً لكاتب يجهله القارئ العربي (مثل توماس برنهارد وكتابه «صداقة»). كما أنني أهتم بأعمال الكتاب من ألمانيا الشرقية سابقاً؛ لأنها تعالج قضايا الديكتاتورية والتحول الديمقراطي، وهي قضايا ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلينا في المنطقة العربية. لهذا؛ قمت بترجمة رواية «قصص بسيطة» للكاتب إنجو شولتسه. وأخيراً، قد تكون متعة قراءة نص جيد هي الدافع للترجمة؛ كان هذا هو السبب في قيامي بترجمة أعمال مثل «الكونترباص» لباتريك زوسكيند و«العطل» و«الوعد» لفريدريش دورنمات.
> طرقت باب ترجمة باتريك زوسكند الشهير بـ«العطر» عبر «الكونترباص»، ما الذي جذبك في هذا النص؟
- قرأت «العطر» لزوسكيند بترجمة نبيل الحفار وأعجبت بها مثل ملايين من القراء في العالم كله. وفي مطلع التسعينات قدم أحد مسارح مدينة كولونيا مونودراما «الكونترباص»، فذهبت إلى لمشاهدتها، ولم أكن قرأت النص بعد.
وهناك انبهرت بهذه المسرحية، ثم قرأت النص، فزاد افتتاني به، بل اقتنيت المسرحية مسجلة على «سي دي» واستمعت إليها مرات عدة، حتى كدت أحفظ مقاطع بأكملها.
مع «الكونترباص» (1980) بدأ نجاح زوسكيند الذي جرب قلمه في أعمال نثرية عدة لم تجد من ينشرها. وقد جذبني إليها قدرته على مخاطبة الإنسان في كل مكان؛ لأن «عازفه» يجعلنا ندرك أن مشاكله الشخصية والمهنية في الأوركسترا هي صورة لمشاكلنا نحن، فالأوركسترا – بترتيبه الهرمي، وكما يقول العازف الذي يجهل المشاهد اسمه – «صورة طبق الأصل من المجتمع البشري».
> رغم القصر النسبي لنص «الكونترباص»، فإنه يحتشد بمصطلحات وآلات وسياقات موسيقية شديدة التخصص. كيف تعاملت مع تلك الخصوصية في الترجمة؟
- أشكرك على الالتفات إلى هذه التفصيلة التي تغيب عن كثيرين. في الحقيقة كانت تلك إحدى أكبر العقبات في ترجمة «الكونترباص»، ثم فيما بعد في ترجمة رواية «عازفة البيانو» لإلفريده يلينك. كثير من المصطلحات الموسيقية الواردة في «الكونترباص» لا وجود لها في القواميس الشائعة، وكان عليّ أن أبحث عن معناها بالفرنسية أو الإنجليزية، ثم ترجمتها عبر هذه اللغات الوسيطة. بعد أن فعلت ذلك، لم أكن مطمئناً تماماً، وبحثت عن متخصص في الموسيقى أراجع معه هذه المصطلحات.
وسألت عدداً من الأصدقاء، وأعطاني أحدهم رقم تليفون الدكتورة سمحة الخولي، العميدة السابقة لمعهد الكونسرفتوار في القاهرة. اتصلت بالمؤرخة الموسيقية الجليلة وكلي خجل، وعندما ردت عليّ، شرحت لها أنني ترجمت عملاً يحفل بالمصطلحات الموسيقية، وأنني أود التأكد منها من صحة الترجمة. فرحّبت ترحيباً كبيراً، ولم تبخل عليّ بالشرح والتفسير والتصحيح، كانت سخية إلى أقصى حد، كانت، رحمها الله، نموذجاً للعالم المعطاء الذي يرى رسالته في نشر علمه على الناس دون مقابل.
> يتسع «فهرس بعض الخسارات» للتاريخ والعلم والخيال، كيف كانت انطباعاتك عن ترجمة كتاب يوديت شالانسكي وفلسفة هذا التجربة؟
- هذا الكتاب من التجارب الممتعة في الترجمة، وكذلك من أشقها. هو كتاب فريد، يمزج الوقائعَ التاريخية والعلمية بالخيال الروائي، وفيه تقدم يوديت شالانسكي وجوهاً مختلفة لتراجيديا الفناء والزوال.
والحقيقة، على قدر بهجتي بهذه التجربة، كان حزني على مصير الترجمة. لقد انتهيت منها مطلع عام 2020، لكنها لم تصدر إلا في ربيع هذا العام قبيل معرض أبوظبي للكتاب. الكتاب يبدو كالشبح، لا يجده أي شخص في أي مكتبة، لا في مصر ولا خارجها. وهذا شيء محزن للغاية الحقيقة.
> عادةً ما تكون عين المترجم على النقل الأمين وجودة الترجمة من جهة وفنون الأسلوب واللغة من جهة أخرى، كيف تتحرك بين هذين الهامشين بما يدعك مطمئناً في النهاية للترجمة التي تحمل توقيعك؟
- لخصت بسؤالك إشكالية مهمة من إشكاليات الترجمة، بين الوفاء للأصل، وبين مراعاة مقتضيات اللغة الهدف.
المترجم مثل لاعب السيرك، عليه أن يسير على هذين الحبلين، ويتوازن، فلا ينبغي في رأيي أن يكون نقله أميناً إلى الدرجة التي تشعر فيها في كل سطر أنك أمام نص مترجم، بل ركيك يحاكي أحياناً بنية اللغة الأصلية، وفي الوقت نفسه عليه أن يحرص على ألا تضيع كل سمات النص الأصلي، فيصبح مسخاً بلا روح. هي إشكالية كبيرة، وكل مترجم يحاول أن «يتوازن» على الحبلين بطريقته.
> بعد مسيرة طويلة من العمل الاحترافي للترجمة، هل ترى أن مشكلات الترجمة تتقلص، أم أنها تفتح مع الوقت والتجربة مزيداً من الأسئلة التي تخص اللغة والسياق الثقافي والفني؟
- الترجمة من الأعمال التي كلما مارستها، تعرفت على مزيد من إشكالياتها. ومع كل عمل، يتقلص يقيني بشأن «الترجمة المثلى». بالطبع يكتسب المترجم خبرة تمكنه من تجاوز عديداً من العوائق، لكن المترجم –وأتكلم هنا عن نفسي - يزداد وعياً بمدى عجزه عن نقل كل شيء إلى اللغة الأخرى، فهكذا، بمرور السنين يزداد وعيي بما يفقده النص الأصلي خلال الترجمة. لكن هذا شيء في صميم عملية الترجمة، لذلك أطلق عليها الكاتب وعالم اللغويات الإيطالي أمبرتو إيكو «عملية تفاوض»، لا يمكن أن تحصل خلالها على كل شيء، بل يجب أن تتخلى عن شيء، لتكسب شيئاً آخر.
> حصلت على عدد من الجوائز آخرها جائزة «الملك عبد الله العالمية للترجمة»... ماذا تعني لك هذه الجائزة؟
- شعرت بغبطة كبيرة عندما أُعلن عن فوزي بهذه الجائزة التي تعدّ تتويجاً لمساري الطويل في الترجمة. لقد حصلت قبلها – مثلما أشرت - على جوائز عدة، إلا أنها كانت دائماً عن ترجمة عمل معين، وهذه هي الجائزة الأولى التي تكرّم منجزي كله، وتثمن، مثلما جاء في حيثيات منح الجائزة، جهودي في تشييد الجسور بين الثقافتين العربية والألمانية، وهو أمر أبهجني جدا.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الحناء تراث عربي مشترك بقوائم «اليونيسكو» 

الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)
الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)
TT

الحناء تراث عربي مشترك بقوائم «اليونيسكو» 

الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)
الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)

في إنجاز عربي جديد يطمح إلى صون التراث وحفظ الهوية، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، الأربعاء، عن تسجيل عنصر «الحناء: الطقوس، الممارسات الجمالية والاجتماعية» ضمن قوائم التراث الثقافي غير المادي لـ«اليونيسكو» على أنه تراث مشترك بين 16 دول عربية.

ويأتي الملف التراثي نتيجة تعاون مشترك بين وزارتي الثقافة والخارجية المصريتين وسائر الدول العربية التي تعد الحناء من العناصر الثقافية الشعبية المرتبطة بمظاهر الفرح فيها، كما تمثل تقليداً رئيساً لمظاهر احتفالية في هذه المجتمعات وهي: السودان، مصر، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، العراق، الأردن، الكويت، فلسطين، تونس، الجزائر، البحرين، المغرب، موريتانيا، سلطنة عمان، اليمن، وقطر.

وتعقد اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي اجتماعاً يستمر منذ الاثنين الماضي وحتى الخميس 5 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، في أسونسيون عاصمة باراغواي، للبت في إدراج 66 عنصراً جديداً رُشحَت على أنها تقاليد مجتمعية، وفق «اليونيسكو».

وذكّرت المنظمة بأن الحنّة (أو الحناء): «نبتة يتم تجفيف أوراقها وطحنها ثم تحويلها إلى عجينة تُستخدم في دق الوشوم وتحديداً تلك التي تتلقاها المدعوات في حفلات الزفاف، وتُستعمل أيضاً لصبغ الشعر أو جلب الحظ للأطفال».

الحنة تراث ينتقل بين الأجيال (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)

وعللت «اليونيسكو» إدراج الحنّة في قائمة التراث الثقافي غير المادي بأنها «ترمز إلى دورة حياة الفرد، منذ ولادته وحتى وفاته، وهي حاضرة خلال المراحل الرئيسة من حياته، وترافق طقوس استخدام الحنّة أشكال تعبير شفهية مثل الأغنيات والحكايات».

من جهته أعرب الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصري، عن اعتزازه بهذا الإنجاز، مشيراً إلى أن تسجيل الحناء يُعد العنصر التاسع الذي تضيفه مصر إلى قوائم التراث الثقافي غير المادي منذ توقيعها على اتفاقية 2003، بحسب بيان للوزارة.

وأكدت الدكتورة نهلة إمام رئيسة الوفد المصري أن الحناء ليست مجرد عنصر جمالي، بل تمثل طقساً اجتماعياً عريقاً في المجتمعات العربية؛ حيث تُستخدم في الحياة اليومية والمناسبات المختلفة، كما أشارت إلى «ارتباط استخدام الحناء بتقاليد شفهية، مثل الأهازيج والأمثال الشعبية، وممارسات اجتماعية تشمل زراعتها واستخدامها في الحرف اليدوية والعلاجية».

وسلط الملف الذي قُدم لـ«اليونيسكو» بهدف توثيقها الضوء على أهمية الحناء بأنها عنصر ثقافي يعكس الروح التقليدية في المجتمعات المشاركة، وكونها رمزاً للفرح والتقاليد المرتبطة بالمناسبات الاحتفالية وفق الدكتور مصطفى جاد، خبير التراث الثقافي اللامادي بـ«اليونيسكو»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «تمثل الحناء واحدة من أهم عناصر تراثنا الشعبي، فهي مرتبطة بمعظم مفردات التراث الشعبي المصري والعربي الأخرى؛ وهي وثيقة الارتباط بالنواحي الجمالية والتزيينية، وأغاني الحناء، فضلاً عن الأمثال والمعتقدات الشعبية، والاستخدامات والممارسات الخاصة بالمعتقدات الشعبية، وتستخدم الحناء في الكثير من طقوسنا اليومية، المتعلقة بالمناسبات السعيدة مثل الزواج والأعياد بشكل عام».

الحنة تراث عربي مشترك (بكسيلز)

وأكد جاد أن التعاون العربي تجاه توثيق العناصر التراثية يعزز من إدراج هذه العناصر على قوائم «اليونيسكو» للتراث اللامادي؛ مشيراً إلى أنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، وقال: «تثمن (اليونيسكو) عناصر التراث الشعبي المشتركة بين الدول، وقد سبق تسجيل عناصر النخلة، والخط العربي، والنقش على المعادن المشتركة بين مصر وعدة دول عربية؛ مما يؤكد الهوية العربية المشتركة».

وأضاف: «نحن في انتظار إعلان إدراج عنصر آخر مشترك بين مصر والسعودية على القوائم التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي بـ(اليونيسكو) اليوم أو غداً، وهو آلة السمسمية الشعبية المعروفة».

وكانت بداية الحناء في مصر القديمة ومنها انتشرت في مختلف الثقافات، خصوصاً في الهند ودول الشرق الأوسط، حتى صارت ليلة الحناء بمثابة حفل «توديع العزوبية» في هذه الثقافات، وفق عالم المصريات الدكتور حسين عبد البصير، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أن «الأدلة الأثرية والتحاليل العلمية وثقت دور الحنة باعتبارها مادة أساسية ذات أهمية كبيرة في الحياة اليومية للمصريين القدماء»، وتابع: «بخلاف استخدامها في الأغراض التجميلية مثل صبغ الشعر، فقد تمت الاستعانة بها في الطقوس الجنائزية؛ إذ يعتقد استخدامها في التحنيط، كما كانت جزءاً من الممارسات الروحية لتحضير المومياوات للحياة الآخرة، فضلاً عن صبغ الأقمشة والجلود».

ارتبطت الحناء بالمناسبات والأعياد (بكسيلز)

الفنان العُماني سالم سلطان عامر الحجري واحد من المصورين العرب الذين وثقوا بعدستهم استخدام الحنة في الحياة اليومية، وسجّل حرص الجدات على توريثها للأجيال الجديدة من الفتيات الصغيرات، يقول الحجري لـ«الشرق الأوسط»: «الحنة في سلطنة عمان هي رمز للفرحة، ومن أهم استخداماتها تزيين النساء والأطفال بها في عيد الفطر، حيث عرفت النساء العربيات منذ القدم دق ورق الحناء وغربلته ونخله بقطعة من القماش وتجهيزه، مع إضافة اللومي اليابس (الليمون الجاف)، لمنحها خضاب اللون الأحمر القاتم، وذلك قبل العيد بعدة أيام، ثم يقمن بعجن الحناء المضاف له اللومي الجاف بالماء، ويتركنه لفترة من الوقت، وقبل النوم يستخدمن الحناء لتخضيب اليدين والرجلين للنساء والفتيات».