«البلاد»... ديوان جديد لعقل العويط

الشاعر عقل العويط يتصفح ديوانه
الشاعر عقل العويط يتصفح ديوانه
TT

«البلاد»... ديوان جديد لعقل العويط

الشاعر عقل العويط يتصفح ديوانه
الشاعر عقل العويط يتصفح ديوانه

بعد قصيدتيه «الرابع من آب» (شرق الكتاب، 2020) و«آب أقسى الشهور يُشعل الليلك في الأرض الخراب» (دار نلسن، 2021)، يختم الشاعر عقل العويط ثلاثية شعرية عن هول مذبحة مرفأ بيروت بضلع أخير، هو قصيدة «البلاد» الصادرة قبل أيام عن دار «هاشيت أنطوان/ نوفل» بالعربية والفرنسية (ترجمة رنيه أسمر هربوز).
وما بين افتتاح يعلن التنصل من البلاد «هذه ليست بلادي»، وبين ختام يُجدد الاتحاد بها «هذه هي البلاد»، تحضر 17 رؤيا شعرية إنسانية مضرجة بالأعطال، «أعطال في الروح، أعطال في القلب، وأعطال في التاريخ»، فيما تشير لوحة شوقي شمعون على غلاف المجموعة، بسوادها وشق البياض خارق الظلمة، إلى وجوه وأشكال في حالة من التبعثُر، إلى أن ما ينتظر في الداخل هو «تابوت ومقبرة ومقبرة وتابوت» في بلاد يراها الشاعر كما تراه، «متناثرة». القصيدة مسرحُها النفق، بالكاد يمر شعاع في افتتاحيتها، سوداء كفحم هو اختزال الروح المقتولة بعد انفجار المرفأ. يخاطبها باللغتين، تلك البلاد وليدة الأمطار الموحلة والهامات على الحضيض وفي الأكوام المُهملة. البلاد الخارجة على السكة، «ذلك سبب الضجر الوجودي».
هل يعزي عقل العويط البلاد ليُتمها وانسلاخها عن الحياة؟ لعله يفعل، غارساً مسماراً أخيراً في النعش. ينطلق من «خراب العقل» كمؤجج لجثة المكان وعويل أمهاته. فهذا الليل الطويل، هو جزء من اختناق النفق، وتأكيد حسي لإحباط يعم الشاعر، فيفتح له نافذة ليتنفس في نهاية القصيدة، فيما طوال متنها، يمتد ويتسلل بحيث «ماء البحر لن ينشق ولن تعود الزوارق إلى بيوتها».
مسعى القصيدة جدي في إدانة القتل، الجريمة، التفجير، قدراً للبلاد. «يا لأقدارنا يا لأقدارنا»، يكررها كدندنة في مقبرة. يتساوى في شعر العويط وجع العقل بوجع الفجيعة. تعرض العقل، أو «مولاي العقل» كما يصر على التسمية، لاغتيال يقترب بوحشيته من اغتيال بحر المدينة ومرفأها، يجعل من الوحش «يسير غريزته المتخثرة في شرايين المدن، في الأرياف»؛ وها هنا، «يُنحَر نبعٌ في حلم غمدِه، فإذا اعتراه نزفٌ كتم الأمر لئلا يختنق نهرُ البلاد (...) فكيف ينمو نبع في البلاد بعد أن يطفحَ دمُ البلاد».
في القصيدة تمسكٌ بفعل الكتابة، كرجاء. «اكتبْ اكتبْ»، ينادي الشاعر. يبدأ شعاعٌ بالتسرب معانداً نفق البلاد المظلم بعد نكبتها، «ما من أحد ليحمي عصفوراً من قبضة الزمهرير، لكن لا يخمد ريشَه الزمهرير». طرفا النزاع، الألم والأمل، يتعاركان في وجع العقل. من جهة، هو المدرك إمعانَ القتيل في فتح عينيه ليرى بهما مقتل البلاد، و«ما من منفذ لهابيل ولا للنسيم ولا لعبور هتاف في الفضاء»؛ ومن ثانية، «وردة واحدة، وردة شقيقة واحدة في الصقيع تقلب التراب، تُزحزح ليلاً عن قبر البلاد». مشهدان مريران لموت البلاد وخروجها من موتها.
«يا لأقدارك يا لأقدارك، أيتها البلاد»، يوقظها من غفلتها. لا يريد عقل العويط التنزه في محيط الجرح، يفضل اقتحامه. ولا يتخذ لنفسه دور المراقب من الخارج. دائماً في اللهب. ينبه إلى حماقات ترتكبها الأرض تجاه أبنائها: «ها جنين في بطن بلادي يصرخ في بطن أمه، لا تأخذيني يا أماه إلى مقبرة أخرى لئلا تقتلني وحشة البلاد. فلأختنق في الرحم لأني لا أتوقع فجراً إذا خرجتُ من رحم البلاد». ثم يستدرك أن عهد العقل «لا ينطوي ولا يخون»، كمركب ينجو به من الغرق. بالعقل يدعو إلى الضوء كرد اعتبار للندى والنبع وغناء البلابل.
يعبر الموت إلى الحياة، ليصبح هو الحياة والدعوة إليها بعد تكثفه وتماديه في الإنسان والأرض. «موتاً تموت موتاً تحيا يا لبنان». كان حذره ألا يفتح أبوابه «فتأكل النار أرزَك». في بلاد قدرها كـ«قدر مَن لا يولد بأم وأب»، تُباح العصافير والغزلان للذئاب فتشتغل بها وتسلخ جلدها وتجعل لحمها الطري «وليمة للقساة، للجاحدين، للمتآمرين، للجلادين الطغاة». ترتطم القصيدة بزمنها، ارتطام وجه في مرآة ظنها محض وهم: «في هذا الزمان سيبطل البحر. في الزمان، في هذا الزمان، لم يعد البحر بحراً ولا النوارس نوارسَ ولا الرزق ولا الشاطئ ولا الميناء».
الشعراء هم المنقذون، «الشعراء الملعونون»، يحرسون نوم البلاد، يلاعبون شعرها بالأغنيات... الشعراء هؤلاء «يغلقون الطرق/ يفتحون ممرات آمنة على كلمات السر/ الأدوية الشافية/ لإقامة المستشفيات الميدانية/ لتكون المشانق للظلمات للشرور للاغتيالات للاحتلالات لمن تسول له أفكاره الأذى ببيتكِ». يصطفي الشعراء لنجدة البلاد، قبل نداء أخير يطال اليائسين للانضمام إلى النسيم، «إلى عمل البستان، انضموا إلى المعاول، إلى إيقاع البتر والاستئصال».
هذه هي البلاد، إن لم تُرفع الرايات البيض ولم تغادر الشمس. وإلا «المشانق المشانق»، صرخة القصيدة من صميمها. يستطيب الشاعر المشانق والأحكام العرفية «في الحكام، في السلاطين، في الطغاة، في العملاء، في الخونة، في الانتهازيين، في ماحقي بيت لبنان». والثورة، «هاتوا ثورة»، كسبيل اعتراضي ينشد الخلاص. يجعل صرخة المشانق مَهمته: «ماذا يُرتجى من شاعر إذا تغاضى؟ إذا سلم؟»، لبلوغه أقصى اللا تحمل، «لم أعد أستطيع لم أعد أستطيع/ هل مَن يُميتني من أجل أن أنضم إلى موت البلاد؟ هل مَن يُحييني من أجل أن أوهم نفسي بإحياء البلاد؟ هل مَن يحررني من حب البلاد؟». لن يجدوا عندي موطئاً لغيرك يا لبنان. ما من عجب إذا قال العقل إنك عيناي، إنك بيتي. هكذا قال العقل إنك قعر يأسي، إنك شاهق آمالي وحلمي.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اليونيسكو تُدرج الورد الطائفي في التراث غير المادي

تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو يعكس قيمته بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية (الشرق الأوسط)
تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو يعكس قيمته بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية (الشرق الأوسط)
TT

اليونيسكو تُدرج الورد الطائفي في التراث غير المادي

تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو يعكس قيمته بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية (الشرق الأوسط)
تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو يعكس قيمته بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية (الشرق الأوسط)

أعلن الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة، رئيس مجلس إدارة هيئة التراث، رئيس اللجنة الوطنية السعودية للتربية والثقافة والعلوم، عن نجاح السعودية في تسجيل «الممارسات الثقافية المرتبطة بالورد الطائفي» في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو».

وأكّد وزير الثقافة السعودي أن الدعم غير المحدود الذي يحظى به القطاع الثقافي السعودي بمختلف مكوناته من قِبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، ساعد على تعزيز حضور الثقافة السعودية في العالم، مضيفاً: «يعكس هذا التسجيل جهود المملكة الحثيثة في حماية الموروث الثقافي غير المادي، وضمان استدامته ونقله للأجيال القادمة».

وجاء تسجيل الورد الطائفي بملفٍ وطنيٍ مشتركٍ بقيادة هيئة التراث، وبالتعاون مع اللجنة الوطنية السعودية للتربية والثقافة والعلوم، والوفد الدائم للمملكة لدى اليونيسكو، لينضم إلى قائمة عناصر التراث الثقافي غير المادي السعودية المُسجلة في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونيسكو، وهي: العرضة السعودية، والمجلس، والقهوة العربية، والصقارة، والقط العسيري، والنخلة، وحياكة السدو، والخط العربي، وحِداء الإبل، والبن الخولاني السعودي، والنقش على المعادن، والهريس.

ويُعد الورد الطائفي عنصراً ثقافياً واجتماعياً يرتبط بحياة سكان الطائف، حيث تُمثّل زراعته وصناعته جزءاً من النشاط اليومي الذي ينعكس على الممارسات الاجتماعية والتقليدية في المنطقة، ويمتد تاريخ زراعة الورد الطائفي إلى مئات السنين، إذ يعتمد سكان الطائف على زراعته في موسم الورد السنوي، ويجتمع أفراد المجتمع في حقول الورود للمشاركة في عمليات الحصاد، التي تُعد فرصة للتواصل الاجتماعي، ونقل الخبرات الزراعية بين الأجيال.

وتُستخدم منتجات الورد الطائفي، وخصوصاً ماء الورد والزيوت العطرية في المناسبات الاجتماعية والتقاليد المحلية، مثل تعطير المجالس وتقديم الضيافة، مما يُبرز دورها في تعزيز الروابط الاجتماعية، كما يُعد مهرجان الورد الطائفي السنوي احتفالاً اجتماعياً كبيراً يجتمع خلاله السكان والزوّار للاحتفاء بهذا التراث، حيث يعرض المجتمع المحلي منتجاته، ويُقدم فعاليات تُبرز الفخر بالهوية الثقافية.

ويعكس تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو قيمة هذا العنصر بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية، إلى جانب إسهامه في تعزيز فهم العالم للعلاقات الوثيقة بين التراث الثقافي والممارسات الاجتماعية، ويأتي ذلك في ظل حرص هيئة التراث على ضمان استدامة هذا الإرث الثقافي، كما يعكس حرصها على ترسيخ التبادل الثقافي الدولي بعدّه أحد مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للثقافة، تحت مظلة «رؤية المملكة 2030».