تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان

تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان
TT

تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان

تحديد المطلق في تنظيم الكون وعالم الإنسان

أتذكر من سنوات الطفولة، في زمن الحرب الباردة، صوراً لأينشتاين العجوز مزينة لأغلفة المجلات العالمية. نظراته فيها متعبة، وبجانبه «عش الغراب النووي» الصاعد بمعادلته الشهيرة، المقرة بإمكانية تحويل كتلة المادة إلى طاقة.
الصور عكست العلاقة العميقة الرابطة بين تطور تصوراتنا النظرية للعالم الطبيعي والتطبيقات التكنولوجية النابعة منه. لكن هذا المعنى لم يصل إلى الكل، لأنه يتطلب فهماً دقيقاً لكيفية عمل المنظومة العلمية. في مصر مثلاً تم إضافة بعض التفاصيل المثيرة لأسطورة أينشتاين والقنبلة؛ قيل مثلاً إن الدكتور مصطفى مشرفة، عمل مساعداً له في «معمله النووي». حتى أني عندما بدأت القراءة عن أينشتاين بجدية أصبت بالإحباط، حين اكتشفت أنه، بعد بدء الاعتراف به كعالم مرموق، لم يترق لرئاسة فريق كبير من لابسي المعاطف البيضاء في معمل مجهز بتقنيات عالية، حيث تتوالى سريعاً المبتكرات التكنولوجية المثيرة، إنما إلى «كرسي» الأستاذية في الفيزياء النظرية.
خلفيتي الفكرية لم تسمح بإدراك أن تلك الكراسي النظرية في أساس حيوية الحركة التكنولوجية التي أبهرتني: بأنه لا يمكن ابتكار المصباح الكهربائي من خلال الأبحاث التطبيقية على الشمعة، أو الطاقة الذرية دون التحولات التصورية النظرية العميقة التي تفرضها النسبية (وميكانيكا الكم). ولم يطرق بالي كذلك أن في الأساس المنهج العلمي شيء من الأساطير القديمة التي كنت ملهماً بالقراءة فيها. فهذه كانت كذلك تعرض أسباباً لظواهر مثل سقوط قطرات المطر نحو الأرض وسطوع الشمس، تماماً كما يفعل العلم.
أما سر النجاح العملي للعلم الحديث، فهو أنه، على عكس الأسطورة التقليدية، لا يفرض تحيزاته النظرية على الواقع الملموس، بل يستمدها منه. هكذا يمكن أن يطور منظومته النظرية بتوسيع قاموس مفرداته ومفاهيمه، وإيجاد علاقات أكثر شمولاً بينها تحوي سيل المعلومات المتدفقة من خلال التجربة. هكذا تنتج تصورات أعمق وأوسع للعالم الطبيعي، تتماشى مع معطيات واقعه وتحاكيها بنجاح.
هكذا يمكن بدء فهم الارتباط الوثيق بين تطور تصوراتنا العلمية للعالم، واستخدام ما فهمناه لقلب حياتنا اليومية رأساً على عقب. معادلة أينشتاين الشهيرة، المزينة للصور المخيفة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتصور مستجد للعالم الطبيعي يتضمن إعادة تعريف للعلاقات بين الفضاء والزمن، والجمع بينهما في حيز واحد. ولأن العلاقات الجديدة يتماشى منطقها مع منطق عمل آليات العالم الطبيعي، المستنتجة من التجربة، فيمكن استخدامها للتنبؤ بما سيحدث في هذا العالم تحت ظروف معينة، منها مثلاً التي تؤدي إلى إنتاج القنابل الذرية. من ثم يمكن تحضير مثل هذه الظروف تكنولوجياً، وتسخير الطبيعة لخدمة أغراضنا.
هكذا يتضح أيضاً قصور الصورة النمطية المقابلة لتصور «أينشتاين في معمله»، والممثلة في أينشتاين كفيلسوف تعمق في معنى الفضاء والزمن. فالحقيقة أن ما قاله أينشتاين عن الفضاء والزمن ليست له أهمية كبيرة، لأن المنطق الجامع بين مفردات النظرية (من زمن ومكان وطاقة وكتلة... إلخ) الذي جسدته معادلاته يتحدث عن نفسه. وانحيازات أينشتاين الفلسفية لا تهم كثيراً، لأن مطلب النجاح العملي معناه أن حتى أينشتاين لا يستطيع فرض الانحيازات المسبقة على العالم الطبيعي، كما يحدث في حالة منهج الأسطورة. بل إن بعض انحيازات أينشتاين الفلسفية، التي عبر عنها حتى في ورقته العلمية الكبرى، الشارحة للنسبية العامة (عام 1916)، لم تحققها نظريته في النهاية.
لكنها حققت مبدأ فكرياً مهماً، يقر بألا تعتمد قوانين الطبيعة على مكان أو حركة من يرصدها؛ وكما أن اللغات التي نشرح بها الطبيعة قابلة للترجمة، دون أي فقدان للمعنى، حتى إن بدت مختلفة. هكذا يتضح أن أينشتاين لم يكن يبحث عن النسبي، إنما عن المطلق؛ عن الثابت. وخلال مشوار بحثه هذا وجد أن مرور الزمن يعد نسبياً، لأنه يتغير من متابع لآخر، ولا يمكن الاتفاق عليه دون ترجمة، وكذلك بالنسبة للمسافات. أما الثابت، في ظل وجود الجاذبية، فممثل في مسافات في فضاء - زمن منحنٍ. وبعد تأكيد إدينغتون التجريبي لهذه الظاهرة الصادمة، بقياسه لانحناء الضوء الآتي من النجوم عند مروره قرب الشمس عام 1919، بات التصور الأسطوري علماً، وصار أينشتاين نفسه نجماً، يسطع لمعانه كلما تأكدت تكهناته (مثلاً، في انحناء الضوء المرصود في صورة جيمس ويب الأولى).
الفيزياء النظرية، بصفة عامة، تبحث عن المطلق من خلال التوحيد؛ توحيد المفاهيم التي تشرح من خلالها العالم الطبيعي المرصود. تبحث عن توحيد الفضاء والزمن؛ وعن توحيد القوى التي تشرح حركة الكواكب مع التي تسقط التفاح من الشجر؛ تبحث عن توحيد القوى الكهربية، التي تسرد ترابط جزيئات أجسامنا ببعضها، مع المغناطيسية التي تجذب شعيرات الحديد، في سبيل شرح انبعاث الضوء من الشمس؛ وعن توحيد كل ذلك بالقوى التي تتسبب في الإشعاع والانفجار النووي.
لكن الدقة التي يطلبها النجاح العملي تعني أن هناك أسئلة عن معانٍ لا يمكن أن يجيب عليها هذا البرنامج «التوحيدي» الطموح (أسئلة تبدأ عادة بـ«لماذا» بدلاً من «كيف»). العلم (علم الفيزياء بالتحديد) يبحث عن المطلق فقط في الحدود الدقيقة التي تشترط أن يتماشى التصور النظري مع معطيات يمكن قياسها في العالم الملموس. لكن ماذا عن فطرة الإنسان التي تشير لوجود أشياء لها معنى لا يمكن إمساكه بهذه الدقة، لأن نطاقه أوسع بكثير؟ هناك منظومات أخرى تقدم ردوداً على مثل هذه الأسئلة، كالعقيدة الروحانية.
إذا كانت المعرفة العلمية تنبع عن محاكاة دقيقة لمنطق العلاقات بين معطيات الكون الطبيعي، فدور العقيدة يكمن في تأمل وتيقن المعنى الوجودي والأخلاقي لكون الإنسان.
هذا هو السبب الأساسي لاختلاف مجال المنهجين، وليس أن العلم نسبي، والدين مطلق كما يردد أحياناً. فقد رأينا أن العلم يبحث عن المطلق في الإطار الذي يسمح به منهجه. وفي المقابل، فالعقيدة تكون مطلقة فعلاً فقط إذا نبعت عن تفسير وحيد لنصوص دينية معينة دون غيرها. فيما عدا ذلك، فالمعاني الروحانية قابلة للتأويل الذي قد يختلف عليه أصحاب الدين الواحد، ناهيك عن معتنقي العقائد المختلفة.
مع ذلك، يتفق أصحاب العقائد والمذاهب المغايرة عامة على بعض المطلقات في عالم الإنسان (كتحريم القتل أو السرقة)، كما يفعل العلم الطبيعي في نطاقه. هنا يطرأ السؤال عما إذا كان ممكناً تطبيق منطق المنهج العلمي في سبيل توسيع دائرة المتفق عليه بين أصحاب المعتقدات العقائدية المختلفة؛ مما يتطلب تحديد المسلمات والمبادئ التي يجب أن يتوافق عليها، حتى يتحول المطلق إلى ما يمكن أن يتفق عليه الكل، وليس ما يعتنقه البعض.
ولتحديد طبيعة المبادئ المتفق عليها يجب أولاً استبدال شرط تماشي النظرية مع معطيات العالم الطبيعي، المتبع في حالة العلم الطبيعي، بشرط مشابه مناسب لعالم الإنسان. ويبدو أن أبسط شرط هو أن تكون دائرة التوافق فسيحة ومحصنة بشكل يضمن بناء وبقاء مجتمعات ناجحة؛ مجتمعات لا تنهار تحت وطأة العراك المدمر، الذي يفرضه تلويح البعض بامتلاك المطلق، ومحاولة فرضه بالقوة، بدلاً من التأقلم مع واقع أن حتى المؤمنين بالعقيدة نفسها لا يتفقون على أنه مطلق. هذا هو ما يرادف شرط التماشي عملياً مع معطيات الواقع، ومن ثم النجاح العملي، في حالة العلم.
وكما في حالة العلم، هناك ضرورة لإمكانية ترجمة ما يبدو مختلفاً. في عالم الإنسان هذا معناه ضرورة إدراك أن المفاهيم نفسها المتفق عليها قد تأخذ صوراً مغايرة مع تغير المعتقدات، ولذلك فنجاح المجتمعات يتطلب قدراً من التواصل والتسامح الذي يأخذ ذلك في الاعتبار. وكما في حالة العلم، يجب أن تكون دائرة المبادئ المتفق عليها متجددة وقابلة لاستيعاب مستجدات الواقع، بما في ذلك الطفرات الفكرية والعملية المتوالية التي تفرضها التطورات العلمية.
الشروط المسرودة في الفقرتين السابقتين تلخص الكثير مما تحاول تحقيقه بالفعل المجتمعات التعددية المعاصرة.
* كاتب مصري


مقالات ذات صلة

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

شمال افريقيا هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

هل يحد «الحوار الوطني» من «قلق» المصريين بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية؟

حفلت الجلسة الافتتاحية لـ«الحوار الوطني»، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أكثر من عام، برسائل سياسية حملتها كلمات المتحدثين، ومشاركات أحزاب سياسية وشخصيات معارضة كانت قد توارت عن المشهد السياسي المصري طيلة السنوات الماضية. وأكد مشاركون في «الحوار الوطني» ومراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أهمية انطلاق جلسات الحوار، في ظل «قلق مجتمعي حول مستقبل الاقتصاد، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه في أعباء معيشية متصاعدة»، مؤكدين أن توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين «يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأي العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأز

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

السيسي يبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي المصري

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اجتماعاً، أمس (الخميس)، مع كبار قادة القوات المسلحة في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، لمتابعة دور الجيش في حماية الحدود، وبحث انعكاسات التطورات الإقليمية على الأمن القومي للبلاد. وقال المستشار أحمد فهمي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، في إفادة رسمية، إن «الاجتماع تطرق إلى تطورات الأوضاع على الساحتين الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الأمن القومي في ظل الظروف والتحديات الحالية بالمنطقة». وقُبيل الاجتماع تفقد الرئيس المصري الأكاديمية العسكرية المصرية، وعدداً من المنشآت في مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية. وأوضح المتحدث ب

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن واستقرار الدول

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن واستقرار الدول». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

حادث تصادم بمصر يجدد الحديث عن مخاطر «السرعة الزائدة»

جدد حادث تصادم في مصر الحديث بشأن مخاطر «السرعة الزائدة» التي تتسبب في وقوع حوادث سير، لا سيما على الطرق السريعة في البلاد. وأعلنت وزارة الصحة المصرية، (الخميس)، مصرع 17 شخصاً وإصابة 29 آخرين، جراء حادث سير على طريق الخارجة - أسيوط (جنوب القاهرة).

منى أبو النصر (القاهرة)
شمال افريقيا مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

مصريون يساهمون في إغاثة النازحين من السودان

بعد 3 أيام عصيبة أمضتها المسنة السودانية زينب عمر، في معبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على


السودان يرحب بالعقوبات ضد حميدتي ويطالب بموقف دولي موحد

قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) (رويترز)
قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) (رويترز)
TT

السودان يرحب بالعقوبات ضد حميدتي ويطالب بموقف دولي موحد

قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) (رويترز)
قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) (رويترز)

رحبت الحكومة السودانية بقرار إدارة الرئيس الأميركي جورج بادين (المنتهية ولايته) الذي فرضت بموجبه عقوبات على قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» وعدد من الشركات التابعة له، وحثت بقية دول العالم على اتخاذ خطوات مماثلة، واتخاذ موقف موحد وصارم من قبل الأسرة الدولية ضد ما سمته «المجموعة الإرهابية» لإجبارها على وقف الحرب.

لكن «قوات الدعم السريع»، عدت القرار امتداداً لما سمته فشل سياسة إدارة الرئيس المنتهية ولايته، الشرق أوسطية، وقالت إنه «بلا قيمة»، اتبع فيه معايير «مزدوجة» لدعم التيار الإسلامي الرافض لوقف الحرب، وعدّته أيضاً أنه «تعميق للأزمة»، وتوعدت بالاستمرار فيما أطلقت عليه «اقتلاع دولة الظلم والطغيان».

ورحب مساعد القائد العام الفريق أول، ياسر العطا، بالقرار الأميركي، وقال في تصريحات، إنه يدعم جهود السودان في تعزيز الأمن وسيادة القانون، واعترافاً من واشنطن بأن هدف قوات «الدعم السريع» هو السيطرة على السودان بالقوة.

الفريق ياسر العطا (وكالة السودان للأنباء)

وأعلنت وزارة الخارجية السودانية في بيان صحافي، الأربعاء، حصلت عليه «الشرق الأوسط»، اتفاقها على ما مع جاء في القرار الأميركي، وأن «حميدتي مسؤول عن فظائع ممنهجة ضد الشعب السوداني، تتضمن اغتصابات جماعية»، وأن الرجل يوظف «واجهات تجارية» في دول إقليمية لتمويل حربه ضد السودان. ودعت الخارجية، الأسرة الدولية لاتخاذ خطوات مماثلة ضد «قيادة الميليشيا ورعاتها»، وتبني موقف «موحد وصارم» في مواجهة «الجماعة الإرهابية، وإجبارها على وقف حربها ضد الشعب السوداني ودولته ومؤسساته الوطنية».

«الدعم»: مكافأة لدعاة الحرب

‏وانتقدت «قوات الدعم السريع» القرار الأميركي وعدّته «مؤسفاً ومجحفاً»، ومكافأة للطرف الآخر (القوات المسلحة السودانية). وقالت في بيان على منصة «تلغرام» إن القرارات التي صدرت من إدارة جو بايدن المنتهية ولايتها، سياسية «محضة» تم اتخاذها دون تحقيق دقيق ومستقل حول الطرف المتسبب في اندلاع هذه الحرب «الكارثية». وأضافت: «لقد تم إشعال هذه الحرب من قيادة القوات المسلحة السودانية والإسلاميين، والأدلة التي تثبت ذلك متاحة للجميع».

«قوات الدعم السريع» متهمة بقصف مخيم زمزم بدارفور وارتكاب مجازر في الجنينة (مواقع سودانية)

وأشارت إلى قرار الخارجية الأميركية بخصوص ارتكاب «قوات الدعم السريع» إبادة جماعية في السودان، وقال إنه قرار «جانبه الصواب، لم يذكر على وجه التحديد المجموعة التي ارتكبت ضدها الإبادة الجماعية، ولا مكان وقوعها». وذكر البيان أن «جريمة الإبادة الجماعية خطيرة ولا ينبغي للإدارة الاميركية أن تتعامل معها بهذا المستوى من التعميم، الذي يؤكد أن القرار تم اتخاذه لاعتبارات سياسية لا علاقة لها بالأسس القانونية المتعلقة بالإبادة الجماعية من حيث التعريف والإثبات». ووصفت «الدعم السريع» القرارات بأنها انتقائية، لن تساعد في تحقيق التوصل إلى حل سياسي. كما «تجاهل القرار الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها القوات المسلحة السودانية على نطاق واسع بالقصف الجوي، الذي أودى بحياة أكثر من 4 آلاف مدني» حسب بيان «الدعم السريع». وأشار البيان إلى أن «العقوبات الأميركية وضعت العربة أمام الحصان، وتمثل مكافأة للطرف الرافض لإيقاف الحرب، ومعاقبة دعاة الوحدة والسلام».

فشل إدارة بايدن

من جهته، وصف مستشار «حميدتي»، الباشا طبيق، على صفحته بمنصة (إكس) القرار الأميركي بأنه تعبير عن فشل إدارة الرئيس جو بايدن في التعاطي مع الأزمة السودانية، أسوة بفشلها في كثير من ملفات الشرق الأوسط.

وعدّ القرار امتداداً لنهج «ازدواجية» المعايير الذي دأبت إدارة الرئيس المنتهية ولايته على اتباعه، بالاستجابة لـ«لوبيات الضغط» المعلومة، وطرائق تعاملها مع مثل هذه الملفات. وأبدى طبيق أسفه على القرار، وعدّه «دفعة معنوية» للحركة الإسلامية بقيادة علي كرتي، وتشجيعاً لها على «الاستمرار في إبادة الشعب السوداني، وارتكاب مزيد من الجرائم الشنيعة ضد المدنيين، ومواصلة الطيران الحربي للمزيد من قتل النساء والأطفال».

وعدّ طبيق القرار دعماً لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، لتكوين المزيد مما سماها «الميليشيات الإرهابية والقبلية لإطالة أمد الحرب»، ووصفه بأنه «ليست له قيمة ولن يؤثر على الوضع الراهن، بل قد يعقد الأزمة والتوصل لمفاوضات جادة». وقطع طبيق بأن القرار لن يثني الدعم السريع عن الاستمرار في «اقتلاع دولة الظلم والطغيان، وإنهاء الهيمنة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وبناء الدولة الجديدة على أسس المواطنة والعدالة والمساواة».

دورية لـ«الدعم السريع» في إحدى مناطق القتال بالسودان (رويترز)

من جهة أخرى، قلل دبلوماسي سوداني طلب حجب اسمه، من تأثير القرار، وبأنه لن يحدث أثراً كبيراً بعدّه أحادياً ولم يصدر عن الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي، وأنه غير ملزم لدول العالم. ونوه إلى أن الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس دونالد ترمب، ستنشغل بالقضايا الداخلية وليس السودان من أولوياتها، وأن ملف التنفيذ سينتظر الإعلان عن السياسة الخارجية للرئيس ترمب.

وقال رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور، الصادق علي حسن، وهي هيئة حقوقية طوعية لـ«الشرق الأوسط»، إن العقوبات كانت متوقعة، استناداً إلى «الممارسات الجسيمة» التي ترتكب في مناطق سيطرة الدعم السريع. وتابع: «هي رسالة لقائد القوات وحلفائه».

وتوقع المحامي حسن، أن تحدث العقوبات تغييرات كبيرة في المشهد السياسي، تتأثر بها على وجه الخصوص المجموعة التي تستعد لإعلان «حكومة منفى»، وأضاف: «ستجد نفسها في أوضاع لا تحسد عليها، وأن تقديراتها كانت متعجلة، ولم تُبنَ على قراءة ناضجة»، وذلك في إشارة إلى مباحثات تجري بين «الدعم السريع» والجبهة الثورية ومدنيين منتمين لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» لتشكيل حكومة تنتزع الشرعية من الحكومة التي يترأسها قائد الجيش.

قائمة العقوبات تضم كرتي

وفرضت الإدارة الأميركية، أمس، عقوبات على قائد «قوات الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وسبع شركات توفر المعدات العسكرية والتمويل لقواته في ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، في أثناء الصراع المسلح مع الجيش السوداني.

علي كرتي الأمين العام لـ«الحركة الإسلامية» في السودان (غيتي)

وقال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، إن «الدعم السريع»، ارتكبت «إبادة جماعية في دارفور، وتورطت في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، وقامت بعمليات القتل بدوافع عرقية، وارتكبت أعمال العنف الجنسي كسلاح حرب»، وإن حميدتي بصفته المسؤول عن هذه القوات يتحمل المسؤولية عن الأفعال البغيضة وغير القانونية.

ولا تعد هذه العقوبات الأولى ضد شخصيات ومسؤولين سودانيين، فقد أصدرت وزارة الخزانة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عقوبات على مسؤولين سابقين؛ هم «مدير مكتب البشير السابق طه عثمان أحمد الحسين، ومدير جهاز الأمن السابق صلاح عبد الله (قوش)، ومديره الأسبق صلاح محمد عطا المولى»، لدورهم في تقويض الأمن والسلام.

وشملت العقوبات الأميركية الأمين العام للحركة الإسلامية، علي أحمد كرتي، وقائد منظومة الصناعات الدفاعية، ميرغني إدريس، وقائد عمليات «قوات الدعم السريع» (عثمان عمليات)، والقائد الميداني بـ«الدعم السريع»، علي يعقوب، الذي قتل في معارك مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور قبل عدة أشهر.