رغم إعلان السلطات المصرية أخيراً تعقب بعض مجموعات «الغش الإلكترونية» على تطبيق «تلغرام» وإغلاقها، والقبض على بعض مسؤوليها، وتأكيد وزارة التربية والتعليم على تحجيم الظاهرة؛ فإن ثمة مجموعات جديدة بأسماء متعددة تدّعي «مساعدة الطلاب»، تواصل ما بدأته القديمة، وتمارس الغش، بتشجيع من بعض أولياء الأمور، الذين يكيلون المديح للقائمين على هذه المجموعات السرية.
وانطلق ماراثون امتحانات الثانوية العامة في مصر، في 20 يونيو (حزيران) الماضي فيما يبلغ عدد الطلاب بهذه المرحلة للعام الحالي نحو 708 آلاف طالب وطالبة في الشعبتين العلمية والأدبية.
وتنقسم عمليات التحايل بالمخالفة للوائح والقوانين المنظمة للامتحانات في مصر إلى مستويين، إذ تبدأ بنشر وتسريب «الأسئلة» عبر مسارات إلكترونية، ليلتقطها القائمون على تلك المجموعات أو التطبيقات، لتبدأ المرحلة الثانية المتمثلة في «الغش» عبر تقديم الإجابات ونشرها لتصل إلى عدد كبير من الطلبة، وذلك في إطار من السرعة.
ومع الاعتماد أخيراً على «التسريب الإلكتروني»، فإن ذلك لم يمنع الغش في الواقع، حيث تم تداول أسئلة مادة الفيزياء بتاريخ 14 يوليو (تموز) 2022. في نفس موعد الامتحان من داخل سيارة تقف خارج إحدى لجان الامتحان، وهي الواقعة التي شغلت كيفية حدوثها جانباً من اهتمام المصريين.
واعترف وزير التربية والتعليم المصري أخيراً، بوجود الظاهرة، مشيراً إلى أن «القضية يقف خلفها أطراف كثيرة بالمجتمع»، منتقداً ما وصفه بـ«المحاولات المستميتة لتشويه صورة الامتحانات المصرية».
وبينما يؤكد مسؤولو وزارة التربية والتعليم، أن «فريق مكافحة الغش الإلكتروني» يتتبع لحظياً جميع صفحات لإغلاقها وإبلاغ الجهات الأمنية لضبط القائمين عليها، فإن خبراء يرون صعوبة تحقيق ذلك.
على مدار أسابيع، تتبعت «الشرق الأوسط» ما يدور في عالم الغش الافتراضي، وكيف تدور وقائعه، والتفاعل عليه، إذ تعقب مُعد التحقيق مع انطلاق ماراثون (امتحانات الثانوية العامة 2021 - 2022)، محاولات الغش في عدد من المجموعات على تطبيق «تلغرام»، كما انضم بالفعل إلى 3 منها تحمل أسماء: «شاومينج - shawming”، «الكنترول تسريب امتحانات»، «تسريب ثانوية عامة قبل اللجنة»، و«كان المحرك لنا في بدء التتبع رسالة أرسلت مع بدء امتحانات المواد الدراسية غير المضافة للمجموع على أبرز مجموعات الغش (شاومينج)، على لسان أدمن (مدير) المجموعة»، جاء نصها: «لم نترككم في الأيام الماضية فكيف نترككم في الأيام العجاف... ذاكر أنت... وسيب الباقي علينا... مش هنتأخر».
تعج هذه المجموعات بآلاف المشتركين، وصل العدد في «شاومينج» وحدها إلى 250 ألف مشترك بعد نحو أسبوعين من بدء الامتحانات، مدفوعين إلى ذلك بتمكن المجموعة من تسريب بعض أوراق الأسئلة عليها، وهو ما جاء صريحاً بتأكيد القائمين عليها نجاح عملية تسريب الامتحانات، قائلين في تحدٍ جديد: «ما زالت خطة تسريب امتحانات الثانوية العامة مفاجئة لم يعلن عنها شاومينج حتى الآن».
وبدأت «شاومينج» قبل عدة سنوات، نشاطها بمجموعة «شاومينج بيغشش الثانوية العامة» على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، لتصبح هي أشهر صفحات الغش الإلكتروني خلال السنوات الماضية. و«شاومينج» كلمة صينية مركبة وتعني البحث مع التصوير أو النسخ خلسة أي بشكل سري.
وجاء انتقال المجموعة وغيرها من مجموعات الغش إلى «تلغرام»، بعد أن أطلّت من قبل عبر «فيسبوك» و«واتساب»، لكي تحمل مزيداً من الأمان لنفسها، وكذلك كنوع من التحدي التقني بتصعيب عملية تعقبها، بحسب المتخصص في الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي بمصر محمد فتحي.
يقول فتحي لـ«الشرق الأوسط»: «يبحث من يقومون بالتسريب عن طرق التواصل الآمنة للتسريب، أو أدوات اتصال غير معروفة، وهنا يأتي (تلغرام) مناسباً لأغراضهم، فهي وسيلة يصعب تعقبها لأنه تطبيق مفتوح المصدر، فإذا كانت الجهات الرقابية يمكنها مخاطبة الجهات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، لوقف المجموعات التي تقوم بالتسريب، فإنها لا تستطيع ذلك في (تلغرام)».
ورصدت «الشرق الأوسط» مطالبة أصحاب هذه المجموعات من الراغبين في الانضمام إليها إرسال روابط مجموعات فرعية سرية إلى 100 عضو (طالب) آخرين، مع تأكيد الانضمام إلى صفحة المجموعة على موقع «يوتيوب» وإرسال صورة للشاشة (إسكرين) تأكيداً لذلك ولضمان أكبر عدد من المشتركين، وهي المجموعات التي تعِد بنشر الإجابات كاملة وفق ما يروج على المجموعات الأصلية.
ومع انطلاق امتحانات المواد الدراسية الأساسية بمادة اللغة العربية بدأ «الغش الإلكتروني»، وهو عبارة عن نشر الإجابات بعد بدء الامتحان مباشرة، حيث يحرض مسؤول الصفحة الطلاب أعضاء المجموعة على تصوّير الامتحان صورة واضحة وإرسالها، مع طمأنتهم بإخفاء كود الورقة الامتحانية، حيث قال مسؤول «شاومينج» في رسالته: «صور الامتحان صور واضحة، إرمي الورقة تحت الديسك أو على حسب ما تعرف، وافتح الفون وصوّر، وابعت ما تقلقش هانخفي الكود بتاعك، بس يا ريت صور واضحة علشان نعرف نحل».
ولقي هذا التحريض استجابة فورية، وفق ما رصدته «الشرق الأوسط» في امتحانات (الكيمياء، الجغرافيا، اللغة الفرنسية)، حيث تم تداول أسئلة الامتحان من داخل اللجان بعد دقائق من بدء موعد الامتحان، وإرسالها على المجموعات الفرعية، وبعد دقائق تم نشرها على المجموعة العامة أو الفرعية مزودة بالإجابات مع إخفاء كود الورقة، حيث تعقد جميع الامتحانات بنظام «البابل شيت» (اختيار من متعدد، ولا تحتوي على أي أسئلة مقالية).
وفي تحدٍ لافت لتأكيدات وزير التعليم قبيل انطلاق الامتحانات بأنه «لم ولن يحدث تسريب لأي من امتحانات الثانوية العامة 2022 لأنها كلها مؤمنة تأميناً كاملاً من جانب الجهات المعنية»، مطالباً وسائل الإعلام بحذف كلمة «تسريب» من القاموس، تمكنت المجموعات من تسريب بعض الامتحانات، في بداية الماراثون، بالإضافة إلى ممارسة الغش الإلكتروني مع مواد عدة لاحقة، مما دعا الوزير إلى الاعتراف باستمرار الواقعة، خصوصاً عقب واقعة تسريب الأسئلة «من داخل سيارة»، إذ أعلن ضبط المتسببين والتحقيق معهم بمساعدة الأجهزة الأمنية، وأكد: «استطعنا تقليص هذه الظاهرة (الغش) بشكل هائل، والتي لم تتجاوز 10 محاولات (داخل اللجان) منذ بدء الامتحانات وهذا إنجاز رائع بجميع المقاييس». على حد تعبيره.
لكن مسؤول إحدى مجموعات الغش على «تلغرام»، أرسل رسالة عقب انتهاء امتحان إحدى المواد قال فيها «تم تقفيل الامتحان والتضبيط بنجاح»، لتأتي ردود الطلاب وأولياء أمورهم - المُحوّلة من المجموعات الفرعية - بالكلمات المكتوبة والرسائل الصوتية على شاكلة: «بجد شكراً جداً جداً... ما قصرت في شيء ربنا يكرمك... مع إن كلمة شكراً قليلة في حقك»، «بجد شكراً حل مضبوط ومصداقية وكفاية مجهودكم والله»، «ولا ألف رسالة شكر توفي حقكم إنكم بتساعدوا أولادنا في ظل الظروف الصعبة اللي عملتها الوزارة... ربنا يجعله في ميزان حسناتك».
وتتعدد دوافع مسؤولي مجموعات الغش، بحسب فتحي: «بعض هذه المجموعات هدفها الربح عبر الانتشار إلكترونياً بزيادة عدد المتابعين، وآخرون يهدفون فقط لمساعدة الطلاب بالفعل، وحتى لو كان ذلك بالمخالفة، وأطراف أخرى يكون هدفهم فقط محاولة مضايقة مسؤولي التعليم، وهو ما رأيناه من كلماتهم التي تتحدى وزير التعليم وتأكيدهم فشل منظومته، وهناك من يأخذها وسيلة للنصب والكسب المادي السريع غير المشروع».
وتحلل الدكتورة إنشاد عز الدين، أستاذة علم الاجتماع، هذه الرسائل قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «تلك الرسائل تحمل ازدواجية يعيشها أصحابها، فهم يتوجهون بالدعاء بأن يكون الغش المحرم دينياً في ميزان حسنات هؤلاء الغشاشين، فكيف ذلك؟، فهذا السلوك المزدوج سلوك معاكس ومناقض ناتج عن خلل في المفاهيم والتنشئة، وهو ادعاء ينافي الحقيقة، وبالتالي فإن تفشي هذه الازدواجية هي مؤشر لظهور الغش بأنواعه المختلفة».
وترى إنشاد عز الدين، أن انتشار مثل هذه المجموعات والقائمين عليها يعد انعكاساً لظروف المجتمع الراهنة وفروق فردية بين أفراده، فليس كل الطلاب على نفس الدرجة من العلم والاستيعاب والذكاء، وبالتالي نرى فئة منهم تتلذذ بأن تأخذ ما ليس لها».
وتمكنت وزارة الاتصالات المصرية، بالتعاون مع فريق مكافحة الغش الإلكتروني بوزارة التعليم، والجهات الأمنية، منذ أيام قليلة من إغلاق عدد من مجموعات الغش الإلكتروني على «تلغرام». وهو ما تأكدت منه «الشرق الأوسط» أخيراً، عند محاولتها الدخول إلى إحداها، حيث وجدت رسالة نصها «هذه المجموعة غير متاحة بسبب نشرها محتوى ينتهك حقوق الملكية».
وقد تزامن مع بدء امتحانات الثانوية العامة، إعلان وزارة الداخلية المصرية ضبط أحد الأشخاص لقيامه بإنشاء وإدارة قناة على موقع التواصل الاجتماعي «تلغرام» لنشر الأسئلة والادعاء بكونها أسئلة امتحانات ثانوية عامة، بالاشتراك مع نجل شقيقه، وبحوزتهما هواتف محمولة تستخدم في نشاطهما الإجرامي. كما ألقي القبض على طالب لقيامه بنشر مشاركات عبر «فيسبوك» تتضمن قدرته على تسريب امتحانات الثانوية العامة، وبمواجهته أقر بارتكابه الواقعة بقصد النصب على متابعيه والتحصل منهم على مبالغ مالية.
وينص القانون المصري على توقيع عقوبات رادعة على من يروج لهذه الظاهرة، حيث ينص على الحبس والغرامة والحرمان من الامتحان لكل من روّج ونشر صوراً من امتحانات الثانوية العامة على أي من وسائل التواصل الاجتماعي.
ورغم هذه الجهود، فإن ثمة مجموعات أخرى ما تزال تنشط في مجال الغش الإلكتروني، ويصعب السيطرة عليها جميعاً بحسب خبراء.
وهو ما أيده وزير التعليم المصري في منشور له عبر حسابه على «فيسبوك» تحت عنوان «رأي صريح في قضية شائكة»: «الغش مسؤولية مجتمع بأسره وليس وزارة أو حكومة أو جهاز أمني... ليحاسب كل ولي أمر نفسه بصدق ويقرر ما إذا كان الأولاد ينجحون بمجهودهم وعن استحقاق في كل مراحل التعليم أم بوسائل أخرى؟».
«تسريب وغش إلكتروني» بامتحانات مصر... أزمة شائكة تحاصر التعليم
الوزير يعترف بتشعبها... و«تلغرام» كلمة سر لتخطي التأمين

طالبات خلال أداء امتحانات الثانوية العامة في مصر (أرشيفية - رويترز)
«تسريب وغش إلكتروني» بامتحانات مصر... أزمة شائكة تحاصر التعليم

طالبات خلال أداء امتحانات الثانوية العامة في مصر (أرشيفية - رويترز)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة