واشنطن وحلفاؤها يرصدون الطموح الصيني وخطره على تايوان وحوض المحيط الهادئ

وسط القلق من استنساخ «السيناريو الأوكراني»... آسيوياً

لقطة لبعض المناورات البحرية الصينية في مضيق تايوان
لقطة لبعض المناورات البحرية الصينية في مضيق تايوان
TT

واشنطن وحلفاؤها يرصدون الطموح الصيني وخطره على تايوان وحوض المحيط الهادئ

لقطة لبعض المناورات البحرية الصينية في مضيق تايوان
لقطة لبعض المناورات البحرية الصينية في مضيق تايوان

تعتمد الصين مواقف سياسية وعسكرية متشددة داخل منطقة حوض المحيط الهادئ التي تتميّز بقدر كبير من الأهمية الاستراتيجية. ومن جنوب المحيط الهادئ إلى غربه، تعمل سلطات بكين على تعزيز نفوذها في المنطقة، ولقد شهدت الفترة الأخيرة عدداً من الأحداث التي كشفت بوضوح ملامح الاستراتيجية الصينية الرامية لجعل حوض المحيط الهادئ جزءاً من فنائها الخلفي. وفي إطار هذه الخطة، اختتم وزير الخارجية الصيني وانغ يي، مطلع يونيو (حزيران) المنقضي، جولة استغرقت 10 أيام زار خلالها سبع دول جُزرية في جنوب هذه المنطقة، بجانب تيمور الشرقية. ومن جهة ثانية، ساد قلق صفوف صانعي السياسات في الغرب بعد تسريب مسوّدة كشفت عن ممارسة بكين ضغوطاً لمعاونة دول جنوب المحيط الهادئ في جهود بناء قوات الشرطة والحوكمة الرقمية وأنظمة الأمن السيبراني. ومن شأن مثل هذه الخطوات تعزيز بشكل كبير نفوذ بكين في منطقة غدت ميداناً لحرب نفوذ جيوسياسية واستراتيجية بين الصين من جهة والولايات المتحدة وأستراليا من جهة أخرى خلال السنوات الأخيرة. ومعلوم أنه قبل ذلك بقليل، تحديداً في أبريل (نيسان) الماضي، وقعت بكين اتفاقاً أمنياً مع حكومة جزر سليمان (بجنوب غرب المحيط الهادئ قرب أستراليا) من شأنه السماح بنشر قوات من الشرطة الصينية والجيش وغيرهم من الأفراد المسلحين وفقاً لمسودة مسربة للاتفاقية. كذلك يقدّم الاتفاق رصيفاً للسفن الحربية الصينية في الجزر.
من الملاحظ أن الصين كثفت تدريباتها العسكرية وزادت حدة خطابها تجاه تايوان منذ غزو روسيا لأوكرانيا، ما زاد المخاوف العالمية من أن سلطات بكين قد تشعر بالجرأة لغزو الجزيرة، التي تدّعي السيطرة التاريخية عليها. ويرى خبراء أن جزر المحيط الهادئ تتسم بأهمية محورية لاستراتيجية الصين الدبلوماسية لضم تايوان، ذلك أنه يمكن استخدام قاعدة بحرية صينية المتفق عليها في جزر سليمان لاعتراض التعزيزات العسكرية لتايوان.
في الواقع، على مدار سنوات، حوّلت العديد من دول جزر المحيط الهادئ (بالذات جنوب غربه) دفة تحالفاتها الدبلوماسية إلى الصين، بدلاً من تايوان. ونجحت بكين في إقناع العديد من دول المحيط الهادئ بقطع علاقاتها مع حكومة تايبيه (الحاكمة في تايوان). واستهدفت بكين على وجه الخصوص جزر سليمان وكيريباتي (كيريباس) وساموا وفيجي وتونغا وفانواتو وبابوا غينيا الجديدة وجزر كوك ونيوي وميكرونيزيا، واستبعدت بشكل واضح جزر مارشال وناورو وبالاو وتوفالو، وجميعها تعترف بتايوان كدولة مستقلة. ولكن عام 2019، بدلت جزر سليمان وكيريباتي، اتجاه علاقاتهما الدبلوماسية إلى الصين، بدلاً من تايوان.
تُعرف هذه السياسة على نطاق واسع باسم «التحوّل»، وتعد واحدة من المؤشرات الرئيسة الأولى لتوسع النفوذ الصيني في المنطقة التي لطالما كانت حليفة للولايات المتحدة وأستراليا. وفي هذا الشأن، أعرب آر. راجغوبالان، أستاذ السياسة الدولية في جامعة جواهر لال نهرو بالعاصمة الهندية دلهي، عن اعتقاده بأن «النفوذ الصيني المتزايد في المحيط الهادئ يبدل ميزان القوى ويضع تايوان وحلفاءها في موقف صعب. إنه سيعطي السفن الصينية موطئ قدم استراتيجي في المحيط الهادئ، ومعه تبدو كل من أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة محاصرة بشكل خاص، لأن الاتفاق المُبرَم مع جزر سليمان قد يسمح للصين بإنشاء قاعدة عسكرية على بُعد 2000 كيلومتر فقط من ساحل أستراليا الشرقي، ذلك أن الاتفاقية تتيح للصين «زيارات للسفن وتنفيذ التجديد اللوجستي والتوقف والانتقال في جزر سليمان. مع تذكّر أنه على بُعد نحو 3200 كيلومتر شمال جزر سليمان تقع جزر غوام، معقل القوة الأميركية في حوض المحيط الهادئ».
في ضوء ما حدث، أرسلت واشنطن «القلقة» كورت كامبل، منسّقها في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، إلى جزر سليمان لإثارة موضوع الاتفاق المُبرم مع بكين، بالإضافة إلى خطط لإعادة فتح السفارة الأميركية هناك. أما الصين، فأثارت التساؤلات حول دوافع الزيارة، مشيرة إلى أن السفارة الأميركية كانت مغلقة طوال 29 سنة، إلا أن واشنطن أبدت اهتماماً «مفاجئاً».
- نظرة تاريخية
تعد تايوان حقل ألغام جيوسياسياً، مع عزم الصين على إعادة ما تعتبرها منطقة منشقة إلى الوطن الأم. وتاريخياً، كانت جزيرة تايوان (أو فورموزا – وعاصمتها تايبيه) مقاطعة صينية لمدة 10 سنوات فقط، قبل التنازل عنها لليابان كمستعمرة عام 1895، ثم تسليمها لاحقاً إلى جمهورية الصين الوطنية بنهاية الحرب العالمية الثانية. غير تايوان انفصلت مجدداً عن البرّ الصيني عام 1949 عندما نقل رئيس الصين الوطنية (يومذاك) تشيانغ كاي شيك، حكومته إلى الجزيرة بعدما انتصر الشيوعيون بقيادة ماو تسي تونغ في الصراع على السلطة بالصين. ومنذ ذلك الحين أسست تايبيه صلات قوية مع الولايات المتحدة واليابان وحلفاء آخرين، وسعت إلى تعزيز قدرة قواتها المسلحة على مقاومة أي غزو صيني محتمل.
وفي حين، أقام الجانبان علاقات اقتصادية قوية فيما بينهما، تعثرت جهود المصالحة السياسية خلال السنوات الأخيرة، مع تشديد تايوان على هويتها الخاصة، وتأكيد سلطات بكين مطالبها بأن تقبل سلطات الجزيرة شروطها لإعادة توحيد الكيانين. إذ تؤكد بكين أن تايوان مجرّد جزء من أراضيها، وبالتالي، لا يحق لها العمل بشكل مستقل كدولة أو أن يكون لها تمثيل على المسرح العالمي.
ثم أنه، منذ تولت الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون منصبها عام 2016، رفضت بكين إجراء أي اتصال مع حكومتها. وتعمد الصين حالياً إلى إرسال طائرات عسكرية داخل نطاق الدفاع الجوي التايواني بشكل منتظم. والملاحظ أن بكين تبنت لغة تهديدية بشكل متزايد، محذرة من أن تساي وحزبها التقدمي الديمقراطي الحاكم وآخرين «سيدفعون ثمناً باهظاً» لرفضهم المطالب الصينية، وأن تايوان ستتعرض لهجوم إذا ما أعلنت استقلالها رسمياً. وفي المقابل، أعلنت تساي أن تايوان ليست بحاجة إلى إصدار مثل هذا الإعلان، لأنها بالفعل مستقلة بحكم الأمر الواقع، ورفضت تلبية مطلب الصين الأساسي بالاعتراف بتايوان كجزء من الأمة الصينية.
- هل تُغزى تايوان؟
أثار الغزو الروسي لأوكرانيا المخاوف من غزو صيني وشيك لتايوان. وهذا ما حذّر منه قادة عسكريون أميركيون في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتبعاً لما يراه لسوشانت سينغ، أحد كبار الزملاء في «مركز أبحاث السياسة» في الهند، أكد تسجيل صوتي مُسرّب حديثاً وصورة جرى التقاطها سراً بواسطة أحد المنفيين نشرهما «لود ميديا»، أن الصين تعد لغزو تايوان. وتشير مزاعم إلى أن التسجيل عبارة عن مناقشة استراتيجية رفيعة المستوى بين بعض كبار الضباط والمسؤولين في البلاد حول خطط الغزو التي تشمل 140.000 جندي. وفي التسجيل المزعوم للاجتماع، ناقش المسؤولون المدنيون وكبار الضباط خططاً للتعبئة. وثمة أقاويل حول أنه من بين الحاضرين الجنرال زو، قائد منطقة غوانغدونغ العسكرية.
أيضاً، ناقش الاجتماع ما يوصف بالانتقال «الطبيعي إلى الحرب» واستخدام قوة هائلة لمواجهة تايوان. وأنه سيكون هناك أيضاً 953 سفينة من مختلف الأنواع، و1653 قطعة من المعدّات التي تعمل من دون قائد بشري. وتتضمّن الموارد الأخرى المتاحة 20 مطاراً ورصيفاً، ومساحات إصلاح وبناء السفن، و14 مركزاً للنقل في حالات الطوارئ. وذكر المشاركون في الاجتماع أن مستودعات الحبوب والمستشفيات ومحطات الدم ومستودعات النفط ومحطات الوقود يجب أن تكون على أساس الحرب. وقال أحد المتحدثين: «لن نتردد في بدء حرب وسحق استقلال تايوان ومخططات أعدائنا الأقوياء، والدفاع بحزم عن السيادة الوطنية وسلامة أراضينا».
وفي الوقت ذاته، كشفت صور من الأقمار الصناعية في صحراء تاكلاماكان في إقليم شينجيانغ (سنكيانغ)، بغرب الصين، أن الجيش الصيني يستخدم طائرة بوينغ «إي ـ 767»، مزودة بنظام الإنذار والتحكم المحمولة جواً (أواكس) التي تديرها قوات الدفاع الذاتي الجوية اليابانية كهدف وهمي. وتبدو محاطة بعدد من الطائرات المقاتلة الصينية الأصغر. وجدير بالذكر أن صحراء تاكلاماكان الصينية أرض اختبار صواريخ جيش التحرير الشعبي الصيني، ويجري استغلالها في اختبار دقة مختلف الصواريخ الجديدة وتطويرها.
- الخلاف الصيني الأميركي
في الآونة الأخيرة، يبدو أن التوترات تفاقمت بين الولايات المتحدة والصين. وفي تطور لافت، قدم عضوان في مجلس الشيوخ الأميركي أخيراً «مشروع قانون لتعزيز الدعم لتايوان لعام 2022» بشكل كبير، مع تقديم مليارات الدولارات في شكل مساعدات أمنية وإدخال تغييرات على القانون تدعم العلاقات غير الرسمية لواشنطن مع الجزيرة. ويهدد «القانون» لعام 2022 بفرض عقوبات شديدة على الصين عند شنها أي عدوان على تايوان، كما يخصص مبلغ 4.5 مليار دولار في شكل تمويل عسكري أجنبي على مدى السنوات الأربع المقبلة، بالإضافة إلى تصنيف تايوان «حليفاً رئيساً من خارج الناتو»، وفقاً للنص المقترح.
وذكر تقرير لوكالة «رويترز» نقلاً عن راعيي «مشروع القانون»، وهما السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وزميله الجمهوري ليندسي غراهام، أن «مشروع القانون» سيكون بمثابة إعادة هيكلة شاملة للسياسة الأميركية تجاه الجزيرة منذ تمرير «قانون العلاقات مع تايوان لعام 1979». وفي بيان له، قال مينينديز: «بينما تواصل بكين سعيها لإكراه تايوان وعزلها، يجب ألا يكون هناك شك أو غموض بشأن عمق وقوة عزمنا على الوقوف مع شعب تايوان وديمقراطيته». وأردف أن «مشروع القانون» يبعث «رسالة واضحة مفادها أنه لا ينبغي للصين أن ترتكب الأخطاء التي ارتكبتها روسيا في غزوها لأوكرانيا».
من ناحيتها، تعمد بكين إلى اختبار دفاعات تايوان، وكذلك خطوط واشنطن الحمراء. وفي هذا الإطار، اخترق عدد قياسي من الطائرات الحربية الصينية، بما في ذلك مقاتلات «جيه ـ 16» و12 قاذفة «إتش ـ 6» ذات القدرات النووية، تكراراً منطقة الدفاع الجوي التايوانية. وأقدمت الصين في مايو (أيار) على ثاني أكبر توغل في منطقة الدفاع الجوي التايوانية هذا العام، مع إعلان تايبيه عن دخول 30 طائرة إلى المنطقة، بما في ذلك أكثر من 20 مقاتلة.
في هذه الأثناء، بينما أثار الرئيس الأميركي جو بايدن دهشة وغضب الصين الشهر الماضي بقوله إن بلاده ستتدخل عسكرياً إذا تعرّضت تايوان لهجوم، اتهم وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بكين بـ«التهديد بتغيير الوضع الراهن في تايوان من خلال زيادة مطردة في النشاطات العسكرية الاستفزازية والمزعزعة للاستقرار» بالقرب من الجزيرة. وفي المقابل، هاجم وزير الدفاع الصيني وي فنغهي واشنطن واتهمها بـ«مواصلة اللعب بورقة تايوان ضد الصين». وأضاف وي أن «تايوان هي تايوان الصينية، واستخدام تايوان لاحتواء الصين لن يفلح أبداً... وإذا تجرأ أي شخص على فصل تايوان عن الصين، لن يتردد الجيش الصيني بالتأكيد في بدء حرب مهما كان الثمن».
- علاقات تايوان الأميركية
ما يستحق الإشارة أن 15 دولة فقط تحتفظ بعلاقات دبلوماسية رسمية مع تايبيه، وليس هناك أي حكومة تقيم علاقات رسمية مع كل من تايبيه وبكين. كذلك، تفتقر تايبيه إلى مقعد في الأمم المتحدة، إذ جرى إبعادها عن عدد من المؤسسات والشراكات الدولية، بناءً على طلب من بكين.
وكانت «حكومة» تايوان قد شغلت مقعد الصين في الأمم المتحدة حتى أكتوبر (تشرين الأول) 1971 قبل التصويت على «طردها» لصالح بكين. ولكن منذ ذلك الحين، سعت تايبيه بانتظام إلى زيادة مشاركتها في المنظمة الدولية والمؤسسات التابعة لها. وعلى الرغم من الافتقار إلى علاقات رسمية بينهما، حافظت واشنطن منذ فترة طويلة على علاقات جيدة مع تايبيه، وهي تتصدّر تاريخياً مزوّدي تايوان بالأسلحة. وأيضاً تنتهج واشنطن سياسة «الغموض الاستراتيجي» إزاء مدى ما يمكنها فعله للدفاع عن تايوان في مواجهة الغزو الصيني.
التوترات بين واشنطن وبكين كانت قد تزايدت منذ أن تبنّى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب سياسة حازمة لتعزيز العلاقات مع تايوان. واستمر ذلك في عهد الرئيس الحالي بايدن، مع إرسال واشنطن أسلحة ووحدات تدريب عسكرية خاصة ووفوداً من المسؤولين السابقين لدعم الرئيسة تساي إنغ وين، التي تعتبرها بكين مؤيدة للاستقلال على نحو خطير.
ثم، تصاعدت حدة التوتر لأعلى مستوياتها بعد غزو روسيا لأوكرانيا. وأرسلت واشنطن المدمّرة «يو إس إس رالف جونسون» في مسار عبر مضيق تايوان. وأعقب ذلك، إيفاد وفد من المسؤولين العسكريين السابقين في زيارة استغرقت يومين إلى تايبيه. ولاحقاً، وافقت واشنطن على بيع حزمة أسلحة بقيمة 95 مليون دولار إلى تايوان، ثاني صفقة من نوعها خلال سنة، تهدف إلى تحسين مستوى أنظمة الدفاع الجوي فيها. وهنا يعلّق المحلل الأمني المهندس هارش في. بانت قائلاً إن «تايوان تُعد اختباراً مهماً لكل من الولايات المتحدة والصين، وهو اختبار يتعلق بمصداقية واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في أعقاب الانسحاب العسكري من أفغانستان. ويتعلق الأمر كذلك بطموح الصين القديم لإعادة التوحيد الوطني ومشروع شي جين بينغ لإعادة روح الشباب على المستوى الوطني. وفيما يخص تايبيه، يتعلق الأمر بالحفاظ على قيمها الديمقراطية وأسلوب حياتها». ويضيف: «تشكّل هذه التيارات المتقاطعة للتاريخ والاتجاهات الاستراتيجية المعاصرة... الإجراءات والإجراءات المضادة للفاعلين الرئيسيين في هذه الدراما التي تتكشف فصولها يوماً بعد آخر. ويمكن أن تأتي تداعيات هذا الوضع على درجة كبيرة من الخطورة، ليس فقط على المنطقة، وإنما كذلك على النظام العالمي الآخذ في التشكّل».
- غزو تايوان... وتداعياته على اقتصاد العالم
> من شأن أي هجوم عسكري صيني ضد تايوان ترك تأثير أكبر من تأثير حرب أوكرانيا... على تدفقات التجارة العالمية من الصناعات الرئيسة، خصوصاً رقائق أشباه الموصلات والبرمجيات التي من الممكن أن يحدث نقص شديد بها.
بداية، تايوان تُعَد المنتج الرائد على مستوى العالم لرقائق أشباه الموصلات، وقد يكون لأي غزو تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي الذي يعاني بالفعل من نقص في الرقائق. والمؤكد أن ثمة عواقب وخيمة لأي هجوم صيني ضد تايوان يفوق بكثير العواقب الإنسانية فحسب. ويذكر أن هذه الرقائق توجد في معظم الأجهزة الإلكترونية، بدءاً من الهواتف الذكية وصولاً إلى المركبات وأنظمة الأسلحة، كما أن شركات في تايوان مسؤولة عن أكثر من 60 في المائة من الإيرادات المرتبطة بصناعة أشباه الموصلات عام 2020، وتمثل ما يقرب من 90 في المائة من إنتاج الرقائق الصغيرة والمتقدمة.
وتبعاً لتحليل صادر عن مكتب القوات الجوية الأميركية للتحليل التجاري والاقتصادي، فإنه إذا ما غزت الصين تايوان، فإنها ستسيطر بذلك على ما يقرب من 80 في المائة من إنتاج أشباه الموصلات عالمياً (مع الأخذ في الاعتبار قدراتها المحلية الخاصة). ومن شأن هذا الأمر بدوره أن يضع شركات رائدة بمجال التكنولوجيا، مثل «مايكروسوفت» و«أبل»، جنباً إلى جنب مع مقاولي الدفاع العسكري، تحت رحمة بكين.
وفي هذا السياق، حث الرئيس الأميركي جو بايدن الكونغرس على تمرير تشريع من شأنه زيادة إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة. ولكن حتى في حال تحقق أهداف هذا التشريع، فإن الوصول لمستوى الخبرة التايوانية سيبقى أمراً بعيد المنال، وفقاً لما خلصت إليه دراسة أجراها مركز الأمن الأميركي الجديد. بل، كشف التقرير أن الولايات المتحدة تعتمد اليوم على الرقائق الدقيقة الصينية أكثر مما كانت تعتمد على نفط الشرق الأوسط في العقود الماضية.

من قمة «كواد» الأخيرة في العاصمة اليابانية طوكيو (إ.ب.أ)

- «كواد» و«أوكوس» والتحالفات الأخرى
> عزّزت واشنطن، في الآونة الأخيرة، التحالفات غير الرسمية التي قد تُفعّل في حال إقدام الصين على غزو تايوان. وفي هذا السياق، أعادت إدارة بايدن تنشيط التكتل الذي يجمع بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، المعروف باسم «التكتل الرباعي» (كواد)، بهدف مواجهة نفوذ الصين وردع أي صراع محتمل في المنطقة.
وفي العام الماضي، أطلقت الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا شراكة «أوكوس» الأمنية، التي تركز بشكل أساسي على توفير غواصات تعمل بالطاقة النووية لأستراليا، ويرى محللون عسكريون أنها محاولة للاستفادة من الضعف النسبي للصين في مجال القتال تحت سطح البحر. وأيضاً، تشكل اليابان، التي تستضيف أكبر حضور عسكري أميركي خارج الولايات المتحدة، العمود الفقري لجهود واشنطن لعرض القوة في المحيط الهادئ. ومن المحتمل أن تكون اليابان من الدول المشاركة في أي دفاع محتمل عن تايوان في المستقبل. ومعلوم أنه في حال حصول الصين على موطئ قدم عسكري لها في الدول الجزرية بالمنطقة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى مراقبة جنوب المحيط الهادئ عن كثب، ما قد يقوض الردع ضد بكين في بحر الصين الجنوبي والمياه بالقرب من تايوان واليابان.
وبالفعل، حذّر رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، في أثناء زيارته الأخيرة لسنغافورة، من أن «أوكرانيا اليوم قد تكون شرق آسيا غداً». وفي هجوم مبطّن على الصين، قال إن العدوان الروسي غيّر التصوّرات الأمنية لدى العديد من الدول حول العالم، خصوصاً في شرق آسيا.


مقالات ذات صلة

تقرير: القوات البحرية الأوروبية تحجم عن عبور مضيق تايوان

العالم تقرير: القوات البحرية الأوروبية تحجم عن عبور مضيق تايوان

تقرير: القوات البحرية الأوروبية تحجم عن عبور مضيق تايوان

شجّع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، (الأحد) أساطيل الاتحاد الأوروبي على «القيام بدوريات» في المضيق الذي يفصل تايوان عن الصين. في أوروبا، تغامر فقط البحرية الفرنسية والبحرية الملكية بعبور المضيق بانتظام، بينما تحجم الدول الأوروبية الأخرى عن ذلك، وفق تقرير نشرته أمس (الخميس) صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية. ففي مقال له نُشر في صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، حث رئيس دبلوماسية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أوروبا على أن تكون أكثر «حضوراً في هذا الملف الذي يهمنا على الأصعدة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم لندن تحذّر من عواقب مدمّرة لحرب في مضيق تايوان

لندن تحذّر من عواقب مدمّرة لحرب في مضيق تايوان

دافع وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي عن الوضع القائم في تايوان، محذرا من عواقب اقتصادية مدمرة لحرب، في خطاب تبنى فيه أيضًا نبرة أكثر تصالحا حيال بكين. وقال كليفرلي في خطاب ألقاه مساء الثلاثاء «لن تكون حرب عبر المضيق مأساة إنسانية فحسب بل ستدمر 2,6 تريليون دولار في التجارة العالمية حسب مؤشر نيكاي آسيا». وأضاف «لن تنجو أي دولة من التداعيات»، مشيرا إلى أن موقعها البعيد لا يؤمن أي حماية مما سيشكل ضربة «كارثية» للاقتصاد العالمي والصين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم الصين تحقق مع ناشر تايواني في جرائم متعلقة بالأمن القومي

الصين تحقق مع ناشر تايواني في جرائم متعلقة بالأمن القومي

أعلنت السلطات الصينية، الأربعاء، أن ناشراً تايوانياً، أُبلغ عن اختفائه، خلال زيارة قام بها إلى شنغهاي، يخضع لتحقيق في جرائم متعلقة بالأمن القومي. وقالت تشو فنغ ليان، المتحدثة باسم «المكتب الصيني للشؤون التايوانية»، إن لي يانهي، الذي يدير دار النشر «غوسا»، «يخضع للتحقيق من قِبل وكالات الأمن القومي، لشبهات الانخراط بأنشطة تعرِّض الأمن القومي للخطر». وأضافت: «الأطراف المعنية ستقوم بحماية حقوقه المشروعة ومصالحه، وفقاً للقانون». وكان ناشطون وصحافيون في تايوان قد أبلغوا عن اختفاء لي، الذي ذهب لزيارة عائلته في شنغهاي، الشهر الماضي. وكتب الشاعر الصيني المعارض باي لينغ، الأسبوع الماضي، عبر صفحته على «ف

«الشرق الأوسط» (بكين)
العالم رئيس غواتيمالا يبدأ زيارة لتايوان

رئيس غواتيمالا يبدأ زيارة لتايوان

وصل رئيس غواتيمالا أليخاندرو جاماتي الاثنين إلى تايوان في زيارة رسمية تهدف إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع هذه الجزيرة التي تعتبر بلاده من الدول القليلة التي تعترف بها دبلوماسياً. وسيلقي جاماتي كلمة أمام البرلمان التايواني خلال الزيارة التي تستمر أربعة أيام.

«الشرق الأوسط» (تايبيه)
العالم بكين تحتج لدى سيول إثر «تصريحات خاطئة» حول تايوان

بكين تحتج لدى سيول إثر «تصريحات خاطئة» حول تايوان

أعلنت الصين أمس (الأحد)، أنها قدمت شكوى لدى سيول على خلفية تصريحات «خاطئة» للرئيس يون سوك يول، حول تايوان، في وقت يشتدّ فيه الخلاف الدبلوماسي بين الجارين الآسيويين. وتبادلت بكين وسيول انتقادات في أعقاب مقابلة أجرتها وكالة «رويترز» مع يون في وقت سابق الشهر الحالي، اعتبر فيها التوتر بين الصين وتايوان «مسألة دولية» على غرار كوريا الشمالية، ملقياً مسؤولية التوتر المتصاعد على «محاولات تغيير الوضع القائم بالقوة».

«الشرق الأوسط» (بكين)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.