الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ
TT

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

الاتّفاق على تعريف العقل حتّى ننقذ البشريّة من التصارع الآيديولوجيّ

يَنسب الناسُ إلى العقل هويّاتٍ مختلفة، وتعريفاتٍ شتّى، وطبائعَ متنوّعة، وقدراتٍ متباينة. لذلك حين ينظرون في قضايا الحياة الإنسانيّة، يُهملون الاختلاف الأساسيّ هذا، ويمضون فوراً إلى المباحثة في شؤون الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية والفنّ. غير أنّ الحكمة تتطلّب أن يفسّر المرءُ أسبابَ اختلاف التصوّرات الفكريّة الكبرى التي تَنشط في الحضارات الإنسانيّة. لماذا يختلف الناسُ في فهم مبادئ الحياة الإنسانيّة، وإدراك مقاصد الوجود التاريخيّ، وتدبّر أحوال المعيّة المتعثّرة في المدينة الإنسانيّة المعاصرة؟
لا بدّ إذن من إعادة النظر في مقام العقل قبل أن يَعمد الناسُ إلى مناقشة اختلافاتهم الخطيرة في معاني الحياة الإنسانيّة. ذلك بأنّ كلّ تعريفٍ للعقل يستتبع تصوّراً معيّناً للوجود والحياة والتاريخ. من المفيد أن نستذكر التعريفات الأساسيّة التي يسوقها الفكرُ الإنسانيّ في تحديد هويّة العقل. تكتفي بعض المذاهب الفلسفيّة بتعريف العقل آلةً محايدةً، أو أداةً بحثيّةً، أو وسيلةً معرفيّةً استقصائيّة تتيح لنا أن نتناول العالم الذي يكتنفنا ونتدبّر أشياءه وكائناته وموجوداته وأحداثه. بعضها الآخر يضيف إلى التعريف الأداتيّ هذا صفة المرجعيّة التمييزيّة التي تتيح لنا أن نحكم على الأمور حكماً مستنداً إلى المبادئ العقليّة الأساسيّة. غير أنّ هذا الحكم لا يستقيم إلّا إذا افترض المرءُ أنّ العقل يحتوي على ضمّةٍ من المبادئ الأصليّة، والأفكار الجوهريّة، والقيَم الهادية، والمعارف الأساسيّة، والمضامين الناظمة. أمّا التعريف الرابع والأخير، فيكتفي بالقول إنّ العقل بمنزلة الحيويّة الاستكشافيّة الإبداعيّة التي تنطوي على قدرةِ دفعٍ ذاتيّةٍ وطاقةِ توثّبٍ وتجدّد.
من الواضح أنّ التعريفَين الثاني والثالث يولّدان الاختلاف الأصليّ بين الحضارات في فهم مسائل الوجود الإنسانيّ. ذلك بأنّنا حين نعلن أنّ العقل يحتوي، في أصل تكوينه، على مبادئ وأفكار وقيَم ومعارف ومضامين تؤهّله للحكم على الأمور حكماً تمييزيّاً حاسماً، ندرك أنّنا في مواجهةِ فرضيّاتٍ مختلفة تعتمدها كلُّ حضارة إنسانيّة تدّعي أنّ محتويات العقل الذهنيّة مرسومةٌ على هذا النحو أو ذاك. فالذين يقولون إنّ العقل الإنسانيّ، بمجرّد إعمال الفكر التحليليّ النقديّ في وقائع الحياة، يحظر الموت الرحيم، على سبيل المثال، لا يرضون بأن يتحقّقوا من المسلّمات المكتومة التي يفترضونها ناشطةً في صميم البنية العقليّة. والذين يقولون إنّ هذا العقل أيضاً يدين الليبراليا الغربيّة، ويميل ميلاً عفويّاً إمّا إلى الشيوعيّة وإمّا إلى الاشتراكيّة وإمّا إلى النظام البيئيّ، لا يقبلون أن يراجعوا الفرضيّات الأصليّة التي تستوطن وعيهم، فتجعلهم يَنسبون إلى العقل الإنسانيّ هذا التعريف أو ذاك.
من المفيد التذكير بما قاله الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596 - 1650) في هذا الصدد، إذ أعلن أنّ العقل الإنسانيّ ينطوي على أفكار فطريّة أو حقائق أصليّة ناشبة في صميم بنيته. من هذه الحقائق التفكّرُ في الذات (الكوجيتو)، أي فعل التفكّر الذي لا يجوز على الإطلاق التشكيك فيه. منها أيضاً فكرة الله التي تضمن صدقيّة عمليّة التفكّر الذاتيّ. ومنها أيضاً المبادئ الرياضيّة الكونيّة. وعليه، فإنّ العقل ينطوي، في نظر دِكارت، على مجموعةٍ من الأفكار الأصليّة الذاتيّة التي لا يمكن إنكارها. استناداً إلى مثل هذا التعريف، يصبح الذين لا يؤمنون بحقيقة الوعي الذاتيّ، أو لا يؤمنون بالله، أو لا يصدّقون المبادئ والقواعد والخلاصات الرياضيّة، بمنزلة الذين يعارضون حقائق العقل، أي في الوضعيّة التي تناقض السويّة العقليّة.
ومن ثمّ، فإنّ أخطر القضايا المعرفيّة أن يدّعي بعضُ الناس أنّهم قادرون على تعريف العقل تعريفاً يلائم التحسّسات والتذوّقات والاستحسانات التي تستوطن وعيَهم من غير استئذان، والتي يرثونها من آبائهم ويرتاحون إليها في تراثاتهم. لا ريب في أنّ المشكلة الفكريّة الأخطر تتجلّى في هذا السؤال: هل تفرض التصوّراتُ الآيديولوجيّة على العقل أن يُعرّف ذاتَه تعريفاً يناسب ما تعتمده هذه التصوّرات القبْليّة من حقائق؟ أم إنّ العقل يستولد الآيديولوجيات وفقاً لحيويّته الذاتيّة التفكّريّة النقديّة؟ ما العلاقة بين العقل والآيديولوجيا؟ وأيّهما أسبق إلى المبادرة وإخضاع الآخر والناس والمجتمعات؟
في هذا السياق، لا بدّ لي من أن أستحضر أيضاً الفيلسوف الألمانيّ غادَمر (1900 - 2002) الذي رسم أنّ مجموع اللغة التي يستخدمها قومٌ من الأقوام هي بعينها العقل. جميلٌ هذا الكلام، ولو أنّه خطيرُ الأثر. ذلك بأنّ العقل يضحي متماهياً بالكلمات والمفردات والاصطلاحات والعبارات التي تختزنها اللغة. إذا كان لكلّ لغةٍ عقلٌ يناسبها، فإنّ لكلّ حضارة عقلاً يُعبّر عن هويّتها وذاتيّتها.
لذلك يمكننا أن نصوغ المعادلة البليغة هذه: قلْ لي كيف تُعرّف العقلَ وبماذا تُزيّنه، أقلْ لك ما التصوّر الفكريّ الأرحب الذي تركن إليه وتعتمده! بيد أنّ الناس لا يحبّون أن يذهبوا مذهباً بعيداً في التحرّي عن عمليّات العقل. فلا أراهم يستحسنون أن يُعرّوا عقولهم من الألبسة المعرفيّة والالتحافات الانتمائيّة والمبايعات الآيديولوجيّة التي تضمن لهم الانتظام الهنيّ في مسالك الوجود المربكة. من الثابت، والحال هذه، أنّ الإجماع على تعريف العقل ينشئ الوحدة الحضاريّة، ويوطّد اللحمة القوميّة، ويعزّز الوئام الاجتماعيّ. وفوق هذا كلّه، يريح مثلُ هذا الإجماع الإنسانَ من إرباكات القلق التي تعتصر وعيه، وتزعزع مداركه، وتُضعف منعته الكيانيّة.
خلاصة القول أنّ المجتمعات الإنسانيّة، قبل أن تقتحم ميدان الحوار الفكريّ الحضاريّ، ينبغي أن تنظر نظراً جريئاً مجرّداً موضوعيّاً في الهويّة التي تُلصقها بالعقل، وفي الطبيعة التي تَنسبها إليه، وفي القدرات التي تمنحه إيّاها، وفي الحقائق الثابتة التي تفترضها فيه. وحده مثل العمل النقديّ الصريح هذا يُعفي حوار الحضارات من مشقّات الالتباس والاضطراب ومحَن التورية والتمويه والمواربة والمخادعة والنفاق. وعلاوةً على هذا كلّه، لا بدّ من النظر النقديّ في استغلال العقل استغلالاً آيديولوجيّاً يَستعبده ويُكبّله بسلاسل المصالح والمنافع. فالعقل يجب أن يبقى عنوان الحرّيّة في الكائن الإنسانيّ يستخدمه من أجل تعزيز انسجامه الوجدانيّ الأشمل، وتوثيق المعيّة الإنسانيّة المبنيّة على الإقرار بشرعة حقوق الإنسان الكونيّة والاعتراف بالاختلاف سبيلًا إلى التقابس والتلاقح والتطوّر الذاتيّ، وضبط مسار الانفتاح على العالم ووقائعه ومتطلّباته وتحدّياته.
هل يمكننا، في نهاية المطاف، أن نتّفق على ما ينبغي أن يحتويه العقلُ في الحدّ الأدنى من المسلّمات الضروريّة النافعة في صون كرامة الإنسان ورعاية المساواة الكيانيّة وتعزيز الأخوّة والعدالة والتضامن الكونيّ؟ الحقيقة أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اجتهدت في استخراج مضامين المعنى الإنسانيّ واستودعتها في تراثها الأدبيّ والفلسفيّ والفنّيّ. غير أنّ خصوصيّة شرعة حقوق الإنسان العالميّة تتيح لنا أن نستصفي الحدَّ الأدنى من المضامين الإنسانيّة العليا التي يجدر الإجماع عليها حتّى ينعتق العقل الإنسانيّ من الإضافات المغرضة، والإحالات الملتبسة، والاستزادات النفعيّة. فلنَضعْ في صميم العقل مبادئَ الشرعة الكونيّة هذه، ولنجتهد في نصرتها، من غير أن نفني طاقتنا وحياتنا من أجل إخضاع الآخرين لحقائقَ ندّعي أنّها من صلب البنية العقليّة، في حين يعرف العقلاءُ أنّها من صناعة الهوى الآيديولوجي المهيمن.
- كاتب ومفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.