«تمرين على اليقين»... فن اقتران التفكير مع التخييل

قصيدة عبد الرحمن طهمازي نموذجاً

عبد الرحمن طهمازي
عبد الرحمن طهمازي
TT

«تمرين على اليقين»... فن اقتران التفكير مع التخييل

عبد الرحمن طهمازي
عبد الرحمن طهمازي

في كتابها الأخير عن الشاعر عبد الرحمن طهمازي المعنون (الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود) والصادر في عمان عن دار غيداء في شهر مايو (أيار) الماضي، ترى الناقدة د. نادية هناوي أن تجربة طهمازي الشعرية ليست طارئة ولا آنية، بل هي «نسغ متصاعد منذ بواكيرها مطلع ستينات القرن الماضي حتى آخر قصيدة نشرها» وهي (تمرين على اليقين) التي هي موضوع دراستها الجديدة.
تقرن الناقدة بحثها في هذه القصيدة المطولة بما لديها من مفاهيم عن التجنيس العابر، التي صاغتها في نظرية أطلقت عليها (العبور الأجناسي)، باختراق المتن الشعري المتماسك للشاعر عبد الرحمن طهمازي الذي «غاصت جمله الشعرية ورؤاه الفنية في مغطس المعاناة الفكرية الدافقة».
ابتدأ الكتاب بمقدمة حملت عنوان (قصيدة من فيض ماضينا.. قصيدة من ومض آتينا) وفيها تبين المؤلفة أن قصيدة (تمرين على اليقين) هي «فلتة شعرية جسدتها قصيدة النثر عابرة على أجناس الشعر الأخرى»، مؤكدة أن «ما في شعر طهمازي من تركيب وازدواج يجعلانه محتاجاً إلى كثير من إعمال الذهن والتدبر لإدراك علاقات الرموز وأنساق تشكل الصور مما يجعل تجربته تمتاز بالعمق والمتانة».
ورجحت المؤلفة أن هذا العمق هو السبب وراء (عزوف النقاد عن تناول تجربته الشعرية، مبتعدين أيضاً عن تقييم منجزه النقدي الذي ربت مسيرته على الستة عقود وأكثر، هذا فضلاً عن مشوار حافل وطويل مع الصحافة الثقافية العراقية والعربية واستمر مثقفاً فاعلاً في العقود اللاحقة).
وطهمازي من المثقفين القلائل الذين جمعوا الشعر بالنقد منذ بواكير عمله الثقافي وما زال الأدباء يتذكرون الملحق الثقافي للجمهورية ــــ الذي كان طهمازي من أبرز محرريه ــ الغني بالمواد الثقافية المنشورة فيه والمميزة بحداثتها وما كانت تُجرى فيه من مسابقات كشفت عن أهم الطاقات والمواهب التي تعد اليوم أعلاماً في سماء الأدب.
ومن توصلات الباحثة في كتابها أن قصائد التفعيلة في ديواني طهمازي (ذكرى الحاضر) و(تقريظ الطبيعة) كانت محفزة على كتابة قصيدة النثر العابرة في القصائد المطولة (المعزوفة) و(أبواب هائمة) و(تمرين على اليقين).
لماذا تغايرت التحولات البنائية والأسلوبية في قصائد طهمازي وتباعدت عن غيرها فكرياً؟ تعزو الناقدة السبب إلى عبور أجناسي أتاح لهذه القصائد مد مساحة التفكير، حارفاً التخييل إلى وجهة تضادية تتخالف عبرها المؤثرات سلبياً وإيجابياً بحسب الأدوات التي تحقق هذا التأثير في القارئ. وإذا كانت هذه الأدوات مقصودة قصداً غير متروكة للصدفة في صناعة الشعر فإن للشاعر دوراً كبيراً في ابتكارها أو توظيفها.
وإذا كانت بدايات عبد الرحمن طهمازي الشعرية مع كتابة قصيدة التفعيلة قد جرّب فيها شكليها القصير والمدور، كما تضيف د. هناوي، فإن «الاكتمال الشعري لديه تمخض عن قصيدة النثر العابرة أجناسياً على قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية ونوعياً على القصيدة الدرامية والقصة القصيرة جداً والحوارية وشكلياً على قصيدة النص والومضة والمركبة واللوحة أو التابلو».
وقد مثّلت (تمرين على اليقين)، حسب رأيها، عبوراً على المستويين الشعري والفكري يجعل قصيدة النثر «أشبه بمختبر ما بعد إبداعي لاكتشاف خفايا القالب الأجناسي وما يلعبه التنظيم من دور في تقوية أبعاد هذا القالب ومنحه مزيداً من متاحات العبور وممكناته».
من هنا يغدو الفكر سمة مهمة من سمات شعر طهمازي: «هذا الشعر الذي تثقله المحاميل الفكرية وتعمقه المداليل الموضوعية ذات المسارات الفنية الخاصة التي تخدم معطيات تلك المحاميل ومرموزاتها. وقد تتسع المسارات الفنية لديه لتكون حينا صوفية في أبعادها أو سريالية في تهويماتها وقد تكون حينا آخر واقعية المسارات برؤى استعارية تقارب التجريدي بالحسي والحسي بالتجريدي».
ورأت المؤلفة أن سبب شائكية قصيدة طهمازي ليس في الأسطورة والرمز والثقافة، وإنما في حيوية هذه القصيدة من ناحية الشكل الفني العابر للأجناس وما في هذا العبور من محتوى موضوعي يتطلب من القارئ مقدرة فكرية عالية في التأمل الجمالي بسبب غزارة الدلالات التي سلك فيها مختلف المسالك، جاعلاً درجة التفكر في نقد هذا الشعر تقارب درجة التفكر في ابتداع ابتكاراته التي غايتها أعلى بكثير من مجرد التذوق الجمالي. من هنا تأتي أهمية تجربة عبد الرحمن طهمازي الشعرية وما فيها من تميز وفرادة».
لماذا عكف الشاعر على الطبيعة فجعل منها موضوعاً فكرياً؟
تجيب الناقدة بأنه ليس غريباً على من هو شاعر ناقد أن يكون مفكراً في شعره، ذلك أن التفكير عنده تخييل، والتخييل بالنسبة إليه تفكير، ومن ثم لا تضارب بينهما. ولقد أسهمت ممارسة طهمازي للنقد في توكيد هذه المعادلة الذهنية، ومن يعد إلى كتاباته النقدية ويقارب بينها وبين رؤاه الشعرية، فسيجد أن لديه ميلاً واضحاً ونزوعاً ذاتياً عميقاً نحو الفلسفة الفينومينولوجية أو الظاهراتية التي أسسها الألماني ادموند هوسرل وتأثر بها هايدغر وامتد أثرها إلى فلاسفة فرنسيين، أهمهم بول ريكور وموريس ميرلوبونتي.
واختتم الكتاب بملحق تضمن نص قصيدة (تمرين على اليقين)، وزينت الغلاف الأمامي للكتاب صورة تخطيطية للشاعر بريشة الفنان العراقي علاء بشير بينما اشتمل داخل الكتاب على تخطيطات بريشة الفنان العراقي يحيى الشيخ تعبر عن رؤيته لقصيدة «تمرين على اليقين» ومقاطعها. يقع في 230 صفحة، وهو الكتاب الثالث والعشرون للمؤلفة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

مسرحية «5 دقايق» تختصر زمن الوفاء للأهل بـ50 دقيقة

مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)
مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)
TT

مسرحية «5 دقايق» تختصر زمن الوفاء للأهل بـ50 دقيقة

مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)
مايا سعيد مع بطلي العمل طارق تميم وسولانج تراك (مايا سعيد)

تختصر المخرجة مايا سعيد زمن الوفاء للوالدين بمسرحية «5 دقايق». اختارت عرضها في موسم عيد الميلاد، الموعد نفسه الذي خسرت فيه والدها. فكرّمته على طريقتها ضمن نص بسيط ومعبّر، يترك أثره عند متابعه ويتسلل إلى مشاعره من دون أن تفرض عليه ذلك. لا مبالغة في الوقت ولا في الحوارات.

رسالة إنسانية بامتياز تمرّ أمامك بـ50 دقيقة لتستوعب هدفها في الدقائق الخمس الأخيرة منها. على مسرح «ديستركت 7» في بيروت يقام العرض. ومع بطلي المسرحية طارق تميم وسولانج تراك وضعت مايا سعيد الشخصيتين اللتين يؤديانهما بتصرفهما، فأدركا دقّة معانيهما بحيث جسّداهما بعفوية تليق بخطوطهما.

مسرحية «5 دقايق» تحية تكريمية في ذكرى من نحبّهم (مايا سعيد)

بحوارات تميل إلى الكوميديا رغبت مايا سعيد في إيصال رسالتها المؤثرة. لم تشأ أن تحمّل المشاهد همّاً جديداً. ولا أن تُغرقه بمشاعر الأسى والحزن. فموسم الأعياد يجب أن يطبعه الفرح، ولكن لا بأس إذا ما تحررنا من أحاسيس حبّ مكبوتة في أعماقنا، وتكمن أهميتها بمنبعها فهي آتية من ذكرى الأهل.

تحكي المسرحية عن ليلة ميلادية تقتحم خلالها سيدة غريبة منزل «الأستاذ حرب»، فتقلبه رأساً على عقب بالشكلين الخارجي والداخلي. وتجري أحداث العمل في مساحة ضيقة على خشبة تتزين بديكورات بسيطة. وتتألّف من شجرة عيد الميلاد وكنبة وطاولة. وإذا ما تفرّجنا على هذا المكان بنظرة ثلاثية الأبعاد، سنكتشف أن الخشبة تُشبه شاشة تلفزيونية. فحلاوتها بعمقها وليس بسطحها العريض. مربّعة الشكل يتحرّك فيها البطلان براحة رغم ضيق المكان. يشعر المشاهد بأنه يعيش معهما في المكان والزمان نفسيهما.

وتعلّق مايا سعيد، كاتبة ومخرجة العمل، لـ«الشرق الأوسط»: «ينبع الموضوع من تجربة شخصية عشتها مع والدي الذي رحل في زمن الميلاد. وعندما تدهورت حالته الصحية عاش أيامه الخمسة الأخيرة فاقداً الذاكرة. ومثله مثل أي مريض مصاب بألزهايمر لم يكن في استطاعته التعرّف إليّ. وهو أمر أحزنني جداً».

من هذا المنطلق تروي مايا سعيد قصة «5 دقايق». وضمن أحداث سريعة وحوارات تترك غموضاً عند مشاهدها، يعيش هذا الأخير تجربة مسرحية جديدة. فيحاول حلّ لغز حبكة نصّ محيّرة. ويخيّل له بأنها مجرّد مقتطفات من قصص مصوّرة عدّة، ليكتشف في النهاية سبب هذا التشرذم الذي شرّحته المخرجة برؤية مبدعة.

طارق تميم يجسّد شخصية مصاب بألزهايمر ببراعة (مايا سعيد)

وتوضح مايا سعيد: «رغبت في أن يدخل المشاهد في ذهن الشخصيتين وأفكارهما. وفي الدقائق الخمس الأخيرة وضعته في مكان الشخص الذي يعاني من مرض الطرف الآخر. أنا شخصياً لم أتحمّل 5 أيام ضاع فيها توازن والدي العقلي. فكيف لهؤلاء الذين يمضون سنوات يساعدون أشخاصاً مصابون بمرض ألزهايمر».

وعن الصعوبة التي واجهتها في إيصال رسالتها ضمن هذا العمل تردّ: «كان همّي إيصال الرسالة من دون سكب الحزن والألم على مشاهدها. فنحن خرجنا للتو من حرب قاسية. وكان ذلك يفوق قدرة اللبناني على التحمّل. من هنا قرّرت أن تطبع الكوميديا العمل، ولكن من دون مبالغة. وفي الوقت نفسه أوصل الرسالة التي أريدها بسلاسة».

يلاحظ مشاهد العمل طيلة فترة العرض أن نوعاً من الشرود الذهني يسكن بطله. وعرف طارق تميم كيف يقولبه بحبكة مثيرة من خلال خبرته الطويلة في العمل المسرحي. وبالتالي كانت سولانج تراك حرفيّة بردّ الكرة له بالأسلوب نفسه. فصار المشاهد في حيرة من أمره. وتُعلّق مايا سعيد في سياق حديثها: «طارق وسولانج ساعداني كثيراً في تلقف صميم الرسالة. فتقمصا الشخصيتين بامتياز بحيث قدماهما أجمل مما كُتب على الورق».

ضمن نص معبّر تدور«5 دقايق» (مايا سعيد)

طيلة عرض المسرحية لن يتوصّل مشاهدها إلى معرفة اسمي الشخصيتين. فيختلط عليه الأمر في كل مرة اعتقد بأنه حفظ اسم أحدهما. وكانت بمثابة حبكة نص متقنة كي يشعر المشاهد بهذه اللخبطة. وتستطرد مايا: «لا شك أن المسرحية تتضمن مفاتيح صغيرة تدلّنا على فحوى الرسالة. والتشابك بالأسماء كان واحداً منها».

حاولت مايا سعيد إيصال معاني عيد الميلاد على طريقتها. وتختم: «لهذا العيد معانٍ كثيرة. وأردتها أن تحمل أبعاداً مختلفة تخصّ الأشخاص الذين نحبّهم حتى لو رحلوا عنّا. فغيابهم يحضر عندنا في مناسبات الفرح. وبهذا الأسلوب قد ننجح في التعبير لهم عن ذكراهم في قلوبنا».