يُفتتح اليوم في العاصمة السويدية مؤتمر «استوكهولم +50»، في ذكرى مرور نصف قرن على «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشرية»، الذي عُقِد في استوكهولم في يونيو (حزيران) عام 1972. وقد أطلق هذا المؤتمر العمل الدولي في مجال البيئة، إذ تمخّض عنه إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، الذي قاد العمل البيئي العالمي منذ ذلك التاريخ. وقد برز في المؤتمر اسم العالم المصري مصطفى كمال طُلبة، رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا آنذاك، الذي مثّل بلده واختارته الدول العربية والأفريقية متحدثاً باسمها. ويُعتبر طُلبة مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»، إذ نجح في تحويل العمل البيئي من شعارات وأمنيات أطلقها مؤتمر استوكهولم حول البيئة الإنسانية عام 1972، إلى معاهدات واتفاقات دولية، منذ عمل مع موريس سترونغ على تأسيس «يونيب»، قبل أن يتولى قيادة المنظمة كمدير تنفيذي حتى عام 1992. وهو استمر في نشاطه البيئي الدولي حتى وفاته في جنيف عام 2016.
خلال السنوات الأخيرة من حياته، عكف طُلبة على كتابة مذكّراته، التي طلب مني مراجعتها وتحريرها، قبل أن تُنشر على حلقات في مجلة «البيئة والتنمية» في السنة التي سبقت وفاته. هذا المقال حول استوكهولم وبدايات «يونيب» يستند إلى ذاكرة مصطفى كمال طُلبة وأحاديثي معه، وقد رافقتُه وعملت معه في مهمات عدة منذ 1977.
- البداية من استوكهولم
انتخب مؤتمر استوكهولم للبيئة البشرية مصطفى كمال طُلبة نائباً للرئيس، وعيّنته المجموعتان العربية والأفريقية متحدثاً باسمهما. تأزمت الأمور في المؤتمر حول مسودة «إعلان استوكهولم»، إذ دار حوله جدل كبير بين الدول النامية والدول الصناعية، في جلسات مفتوحة كانت تمتد حتى ساعات الصباح. وفي محاولة لحل الخلافات، شكّل الأمين العام للمؤتمر، موريس سترونغ، لجنة مصغّرة من رؤساء الوفود، نصفهم من الدول النامية ونصفهم الآخر من الدول الصناعية، يجتمعون في مشاورات غير رسمية لإيجاد حل للقضايا المعلّقة. وبعد مباحثات استمرت يومين كاملين في حجرة مغلقة تم التوصل إلى حل. وقد كان لطُلبة الدور الأساسي في إعداد صياغات توفيقية بين الدول النامية والدول الصناعية، وصولاً إلى صيغة مقبولة من الطرفين. وكما في الاتفاقيات البيئية اللاحقة، وأبرزها تلك المتعلقة بالمناخ، كان محور الخلاف حول تحديد درجات المسؤولية عن التلويث واستنزاف الموارد، تمهيداً لتوزيع الأعباء والتكاليف.
ذهب موريس سترونغ بنتائج المؤتمر، إعلان استوكهولم وخطة العمل، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 1972، وكان المؤتمر قد أوصى بإنشاء منظمة أو كيان ما في الأمم المتحدة لمتابعة تنفيذ توصياته. وبالفعل أنشأت الجمعية العامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) كما اقترحه المؤتمر، أي يتكوَّن من مجلس محافظين من 56 دولة تنتخبها الجمعية العامة، وصندوق تمويل، وسكرتارية يرأسها مدير تنفيذي، يُنتخب بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى مجلس تنسيق مع منظمات الأمم المتحدة الأخرى يسمّى مجلس تنسيق البيئة. وكان الكندي موريس سترونغ أول مدير تنفيذي تنتخبه الجمعية العامة.
مع انطلاق برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) بداية 1973، تمنى سترونغ على طُلبة قبول ترشيحه كنائب للمدير التنفيذي «لأنه يحتاج إلى شخص قادر علمياً ومقبول من الدول النامية إلى جانبه». كان تبريره لذلك أن الدول النامية ما زالت غير متحمسة لقضية البيئة، ووجود أحد أبنائها في القيادة يحفزها على الاهتمام بالموضوع. وبعدما حصل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كورت فالدهايم على موافقة الحكومة المصرية، تم تعيين طُلبة نائباً للمدير التنفيذي للمنظمة الجديدة.
- من جنيف إلى نيروبي
بدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة عمله من مكاتب مؤقتة في جنيف، قبل أن ينتقل إلى مقره الدائم في نيروبي في أواخر صيف 1973. ويتذكر طلبه أن اختيار نيروبي مقراً للبرنامج لم يكن أمراً سهلاً. فعند إقرار إنشاء «يونيب»، عرضت كينيا مشروع قرار يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من فقرتين، تنصّ الأولى على أن أي منظمة جديدة تُنشأ في الأمم المتحدة لا بد أن يكون مركزها الرئيسي في دولة نامية، إذ لم يكن هناك أي منظمة في ذلك الوقت خارج أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. وتنصّ الفقرة الثانية من مشروع القرار على اختيار نيروبي مقراً للمنظمة الجديدة.
وافقت كل الدول النامية على الفقرة الأولى، ودار تنافس على مقر البرنامج بين المكسيك والهند وكينيا. فازت نيروبي، عاصمة كينيا، لأنها اعتبرت الأجمل جواً وطبيعة وموقعاً جغرافياً، وكان عرضها سخياً. فقد قدمت الحكومة الكينية للأمم المتحدة ناطحة سحاب جديدة في نيروبي تحمل اسم «مركز كينياتا للمؤتمرات»، نسبة إلى جومو كينياتا أول رئيس للجمهورية في كينيا. وتم تخصيص ستة عشر طابقاً في المبنى المكوَّن من 29 طابقاً للمنظمة الوليدة، تتكفل الحكومة الكينية بدفع نصف إيجارها لمدة خمس سنوات، بالإضافة إلى مائة فدان من الأراضي في منطقة غابات جيجيري خارج نيروبي مباشرة.
ويروي طُلبة أنه، بعد سنتين من العمل في نيروبي، اقترح موريس سترونغ على الحكومة الكينية أن تدفع مقدماً قيمة مساهمتها في إيجار المقر عن السنوات الثلاث الباقية، ووافقت الحكومة الكينية على ذلك. أبلغ سترونغ بعدها مجلس المحافظين في «يونيب» أنه حصل على مليون دولار، هو نصيب الحكومة الكينية في الإيجار عن السنوات الثلاث التالية. وطلب موافقة المجلس على قبول هذا المبلغ، على أن يستدين من صندوق المنظمة مليون دولار أخرى ليشيّد مبنى خاصاً ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة على الأرض التي قدمتها كينيا، وأن يُعيد المبلغ إلى صندوق المنظمة على أقساط سنوية تعادل قيمة الإيجار بعد الانتقال إلى المبنى الجديد. وافق المجلس، وشيّد «يونيب» مبنى بسيطاً تسلمه في نهاية 1975، كما شغلت المكاتب الإقليمية لمنظمات أخرى أقساماً منه بالإيجار.
بعد أقل من ثلاث سنوات على إدارته لـ«يونيب»، أقنع موريس سترونغ الحكومة الكندية بإنشاء مؤسسة وطنية للطاقة، تم تعيينه رئيساً لها، وترك «يونيب» في نهاية 1975. عقب هذا، انتخبت الجمعية العامة للأمم المتحدة مصطفى كمال طُلبة مديراً تنفيذياً للبرنامج لأربع سنوات، وتم تجديد ولايته أربع مرات حتى عام 1992.
وكان «يونيب» قد انتقل عام 1984 إلى مكاتبه الدائمة، التي شيّدها بالاشتراك مع منظمات أخرى في الأمم المتحدة، في طليعتها برنامج المستوطنات البشرية (هابيتات). وضمّ المقر، الذي بُني في أحضان الطبيعة، مركزاً حديثاً للمؤتمرات. وكانت قد فازت بعقد البناء شركة عبد المحسن الخرافي الكويتية، نتيجة لمناقصة عالمية، من بين المشاركين فيها شركة إسرائيلية. ونتج عن هذا احتجاجات شديدة، اتهمت مصطفى طُلبة بالانحياز، ووصلت إلى حد تقديم شكوى إسرائيلية إلى الرئيس المصري أنور السادات، تتهم طُلبة بالعمل ضد معاهدة السلام، لكنه نجح بحنكته الدبلوماسية في الخروج من المأزق.
- بين مطرقة الاستخبارات وسندان إسرائيل
ويتذكر طلبه مشكلتين واجهتاه مع الولايات المتحدة بعد قضية المقر، كانت وراءهما السياسة. الأولى عام 1987 حين كانت الحرب الباردة على أشدّها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فقد أبلغ البيت الأبيض نيّته إلغاء الدعم الطوعي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى «يونيب»، ومقداره عشرون مليون دولار، لأن المنظمة، في رأيهم، «مفتوحة لرجال الاستخبارات السوفيات كي ينقلوا كل شيء إلى حكومتهم». ويعلّق طُلبة أن هذا بدا أمراً غريباً، رغم الحرب الباردة. «فمنذ بدء عمل (يونيب) كان في المناصب الكبرى الأميركي بيتر ثاتشر، الذي كان يعمل أصلاً في وكالة الاستخبارات الأميركية، والروسي سفين أفتييف. وكلّنا كان يعلم أن الترشيح لأي منصب كبير في الأمم المتحدة من الاتحاد السوفياتي لم يكن يتم إلا إذا كان للمرشح وضع خاص مع الاستخبارات السوفياتية». وبعدما اعترض طُلبة على الملاحظات الأميركية، قررت الولايات المتحدة الاستمرار في تسديد مساهمتها. فبعدما لمَّح إلى تشابه الممارسات الأميركية والسوفياتية، أوضح أنه ليس لدى البرنامج أي أسرار لا يعرفها كل مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لديه في اللقاءات الشهرية التي تُعقد معهم.
أما المشكلة الثانية مع الولايات المتحدة فحصلت عام 1991 حين هدد أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي بعدم الموافقة على المساهمة في ميزانية «يونيب» لعدم تعيين موظفين ومستشارين إسرائيليين فيه ولعدم قيام المدير التنفيذي بزيارتها. وكان رد طُلبة أن التعيين يتم بناءً على اقتراح لجنة شؤون العاملين، التي تختار أفضل ثلاثة مرشحين تقدمهم إلى المدير التنفيذي للاختيار من بينهم. وإذا لم تقدم اللجنة أي اسم من إسرائيل، فهذا يعني أن إسرائيل لا ترشح إلا من هم في مستوى متواضع من القدرة العلمية لا يرقى إلى مستوى المنافسة مع مرشحي الدول الأخرى. كما شرح طُلبة أنه عيّن أحد الإسرائيليين مستشاراً في مكتب اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط في أثينا، لكنه عمل لأشهر معدودة، استقال بعدها لأنه لم يستطع التأقلم مع زملائه في المكتب. أما عن زيارة إسرائيل، فوعد بتلبية الدعوة حين يتلقاها كرئيس منظمة دولية، لكنه أشار إلى قرار من المجلس التنفيذي لـ«يونيب» بأن يقدم له تقريراً سنوياً عن حالة البيئة في الأراضي المحتلة من فلسطين، ولا بد أن يتضمن برنامج الزيارة تنفيذ هذا الطلب. فما كان من أعضاء مجلس الشيوخ المحتجّين إلا الموافقة على المساهمة في الميزانية تجنباً للإحراج. ويعلّق طُلبة أنه «لم يكن لهذا أي علاقة بعمل المنظمة أو كفاءتها، ولكن الأمر كلّه كان مرتبطاً بدعم مجلس الشيوخ الأميركي لإسرائيل».
- البحار الإقليمية
كانت مشكلات البيئة التي حددها مؤتمر استوكهولم عام 1972 تتفاقم، وكان لا بد من التركيز على قضية التعاون الدولي في حلّها، لأنها جميعاً نتيجة النشاط الإنساني، ولكن نتائج هذا النشاط عابرة للحدود والقارات. وكان رأي طُلبة أن يبدأ «يونيب» بالمشكلات الإقليمية، انطلاقاً من البحر المتوسط، باعتبار أن المشكلات التي ترتبط بالبحار أقل تعقيداً من تلك الناجمة عن مصادر المياه العذبة، التي صُنّفت أيضاً بين الأولويات.
كان الكابتن كوستو، وهو بحّار فرنسي كرَّس نفسه لخوض غمار البحار والدعوة إلى محاربة التلوث فيها، قد جاب البحر المتوسط بسفينته الشهيرة «كاليبسو»، ثم أعلن في مؤتمر صحافي في باريس أن البحر المتوسط يموت بسبب التلوث. وكانت هذه فرصة مواتية لمحاولة عقد اتفاقية إقليمية بين كل الدول المطلة على البحر المتوسط، أُطلقت فكرتها عام 1974 لكن الدول العربية الثماني التي تطل على البحر المتوسط، بما فيها مصر والأردن، كانت في حالة حرب مع إسرائيل وترفض أن تجلس معها إلى طاولة الحوار، ناهيك بالمفاوضات. إضافةً إلى ذلك، كانت الجزائر والمغرب على خلاف مستمر بسبب الصحراء. ومن ناحية أخرى، كانت الدول العربية، أي دول جنوب وشرق البحر المتوسط، تُحمِّل الدول الصناعية في شماله مسؤولية التلوث، ولذا عليها أن تتحمل مسؤولية الإنقاذ. أما دول شمال البحر المتوسط، الأوروبية، فكانت ترى أن دول الجنوب هي المسؤولة عن التلوث بسبب ما تُلقيه في البحر من مخلّفات بشرية غير معالجة. وفي دول شمال المتوسط نفسها، كانت اليونان وتركيا على خلاف بسبب قبرص.
بعد حوار استمر شهوراً طويلة، نجح فريق طُلبة بإقناع الدول بأنْ لا بديل من التعاون لإنقاذ المتوسط، فجلست أخيراً إلى طاولة المفاوضات، بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل. وانتهى الأمر إلى إقرار خطة عمل لحماية البحر المتوسط عام 1974 أعقبتها اتفاقية برشلونة عام 1975، وهي اتفاقية دولية ملزمة. وقد أقرّت الدول كلها خطة العمل ووقّعت على الاتفاقية، وأنشئت في أثينا سكرتارية للإشراف على التنفيذ.
عُدّ هذا أول نجاح لـ«يونيب» في تحقيق واحد من أهم أهداف حماية البيئة، مما شجّع دولاً في مناطق أخرى على مطالبة «يونيب» بإجراء مفاوضات توصلاً إلى اتفاقيات مماثلة لحماية البيئة البحرية. وهي تطورت لاحقاً لتشمل قضايا متشعبة أخرى، بينها التنوع البيولوجي والتصحر والنفايات الخطرة والأوزون والتغيُّر المناخي.
خفايا الاتفاقيات البيئية... من الأوزون إلى المناخ