الحرب الأوكرانية تسرق «الحياد» من فنلندا

لافتات في منطقة فاليما تُظهر المسافة التي تفصل المنطقة الحدودية عن هلسنكي ومدينة سان بطرسبورغ الروسية (الشرق الأوسط)
لافتات في منطقة فاليما تُظهر المسافة التي تفصل المنطقة الحدودية عن هلسنكي ومدينة سان بطرسبورغ الروسية (الشرق الأوسط)
TT

الحرب الأوكرانية تسرق «الحياد» من فنلندا

لافتات في منطقة فاليما تُظهر المسافة التي تفصل المنطقة الحدودية عن هلسنكي ومدينة سان بطرسبورغ الروسية (الشرق الأوسط)
لافتات في منطقة فاليما تُظهر المسافة التي تفصل المنطقة الحدودية عن هلسنكي ومدينة سان بطرسبورغ الروسية (الشرق الأوسط)

اكتسبت فنلندا صيت الدولة الحيادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونجحت منذ ذلك الوقت في البقاء خارج نطاق الحرب الباردة. ويعود ذلك لدورها في تلك الحرب حيث قاتلت إلى جانب ألمانيا النازية، بهدف محاولة استعادة أراضيها التي خسرتها لصالح السوفيات في «حرب الشتاء» عام 1939 التي اضطرت في نهايتها إلى التخلي عن 9 في المائة من أراضيها لصالح الاتحاد السوفياتي، وخسر ما يزيد على 450 ألف شخص منازلهم بعد أن تم إجلاؤهم من البلدات التي تحولت إلى روسية، من بينها بلدية «فيبوري» في كريليا التي أصبحت اليوم بلدة «فيبورغ» في روسيا. وبعد نهاية الحرب، تعهدت فنلندا في اتفاقيات بأن تبقى على الحياد.

سياسة فنلندا الدفاعية والداخلية في العقود الماضية تُظهر أنها لم تتوقف يوماً عن خشية جارتها القوية. فهي أبقت على التجنيد الإجباري لشبانها حتى اليوم، وسنوياً تدرب قرابة الـ27 ألف جندي. ويتوجب على كل شاب الخضوع لهذا التدريب بعد الانتهاء من دراسته لمدة عام. وقد خضع قرابة الـ80 في المائة من الشبان في فنلندا للخدمة العسكرية الإجبارية. كما أنها بنت طوال العقود الماضية شبكة ملاجئ ضخمة بلغ عددها في كامل الأراضي الفنلندية، حسب وزارة الداخلية المسؤولة عنها، 54 ألف ملجأ يمكنها أن تؤوي 4.4 ملايين شخص من أصل 5 ملايين ونصف المليون يعيشون في فنلندا. «الشرق الأوسط» زارت قرية يلامي، التي باتت على بُعد 30 كيلومتراً من الحدود الروسية. فرغم قرب روسيا لبلدتهم لا يبدو السكان هنا خائفين بقدر ما هم مرتاحون لقرار حكومتهم الانضمام للناتو.

راسموس هندرن خبير في الشؤون الدفاعية عمل سابقاً مستشاراً في وزارة الدفاع (الشرق الأوسط)

على بُعد كيلومترات قليلة من الحدود مع روسيا، كانت كاثرين، سيدة ستينية، منشغلة بتقليم العشب في حديقة منزلها في بلدة يلامي الفنلدنية. هدوء البلدة وسكونها لا يوحيان بمستوى التوتر المحيط بها. «روسيا غير بعيدة من هنا»، تقول كاثرين وهي تشير بيدها نحو الحدود المرئية في الأفق غير البعيد. «ولكنني لست خائفة»، تضيف مبتسمة. فقبل يوم تقدمت فنلندا بطلب عضوية رسمي للناتو. وكاثرين تعد هذا القرار صائباً. فهي «لا تحب روسيا» كما تكرر. وسكان البلدة الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها الخمسين «لا يحبونها كذلك»، تقول كاثرين. هذا الحب الضائع ليس مستغرباً. فالحدود الروسية لم تكن بهذا القرب قبل 83 عاماً، وهو أمر يتذكره والدا كاثرين جيداً. «حرب الشتاء» كانت حرباً مؤلمة لفنلندا غيّرت مفاهيمها الجيوسياسية. وهي الحرب التي اندلعت في نهاية عام 1939 مع الاتحاد السوفياتي الذي غزت قواته الأراضي الفنلندية. ورغم أن الحرب لم تستمر طويلاً وانتهت بعد 105 أيام، فإن خسائرها بالنسبة لفنلندا كانت ضخمة. فهي اضطرت في نهايتها للتخلي عن 9 في المائة من أراضيها لصالح الاتحاد السوفياتي، وخسر ما يزيد على 450 ألف شخص منازلهم بعد أن تم إجلاؤهم من البلدات التي تحولت روسية، من بينها بلدية «فيبوري» في كريليا التي أصبحت اليوم بلدة «فيبورغ» في روسيا. وباتت بذلك روسيا أقرب بأكثر من 30 كيلومترا من قرية يلامي حيث تعيش اليوم كاثرين. ما قالته تلك السيدة كرره كذلك سكان آخرين في البلدة. فرغم قرب روسيا لبلدتهم لا يبدو السكان هنا خائفين بقدر ما هم مرتاحون لقرار حكومتهم الانضمام للناتو. أحد الشبان الذي جاء إلى البلدة مع صديقته ليزور والداه المقيمان فيها، قال إن الانضمام للناتو يوفر شعوراً أكبر بالأمن «لأنه لا يمكن التنبؤ بما سيقوم به بوتين». وتقول صديقته إنه في حال قرر بوتين أن «يغزو فنلندا كما فعل في أوكرانيا، فنحن نعرف على الأقل أن هناك من سيدافع عنّا». ورغم أن سكان فنلندا «مسالمون» في العادة، فإن الحرب في أوكرانيا غيّرت الكثير من نظرتهم لما يمكن أن يشكّل سياسة دفاعية جيدة. فقبل الحرب كانت الاستطلاعات الشعبية تشير إلى رفض الفنلنديين الانضمام للناتو، والآن انقلبت الآراء ليصبح التأييد الشعبي لقرار الحكومة ذاك، واسعاً. ويرى الخبير في الشؤون الدفاعية راسموس هندرن، أن هذا التأييد الشعبي كان أساسياً في تحرك فنلندا لطلب التقدم بعضوية للناتو. ويقول الخبير الذي يعمل اليوم في «المركز الأوروبي للتميز ومواجهة الهجمات الهجينة» في وسط هلسنكي، إن «فنلندا لا تشعر بأنها مهدَّدة بشكل مباشر الآن، ولكن الاعتداء الصارخ لروسيا على أوكرانيا قلب بعض الأسس الدفاعية لدى فنلندا».

كاثرين فنلندية تعيش في بلدة يلاما الحدودية تقول إنها لا تخاف من روسيا (الشرق الأوسط)

ويرى هندرن الذي عمل في السابق مستشاراً لدى وزارة الدفاع الفنلندية وفي سفارة بلاده في واشنطن، أن العلاقة الثنائية مع روسيا في السنوات والعقود الماضية، كانت «براغماتية مبنية على الإيمان بالأمن الدولي العالمي». ولكنه يضيف أن اعتداء روسيا على أوكرانيا أظهر أن هذه السياسة ليست كافية. ورغم أن هندرن لم يكن يستبعد انضمام فنلندا للناتو «يوماً ما»، ولكنه يقول بأن «سرعة العملية كان مفاجئاً». ومع ذلك، فهو يعد طلب التقدم لعضوية بالناتو «تكملة طبيعية لعملية بدأت قبل أكثر 20 سنة بالانضمام للاتحاد الأوروبي وتعميق العلاقات مع حلفاء أساسيين والناتو». والواقع أن فنلندا التي تلعب دور الدولة الحيادية منذ عقود، هي أكثر قرباً من الغرب مما تريد الاعتراف به. وقد عبّرت بالفعل عن تلك العلاقة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، عندما قالت خلال قمة السبع التي استضافتها قبل أسبوع، إن «فنلندا فعلياً عضو في الناتو ولكنها لا تملك بطاقة عضوية». وأضافت بيربوك أن فنلندا لديها المعايير الانضمام للناتو وهي معايير «أفضل من بعض الدول الأعضاء».

مجمع «قيصر» التجاري قرب الحدود تحول إلى مدينة أشباح (الشرق الأوسط)

فالدولة الشمالية تشارك في التدريبات العسكرية للحلف ومهماته الخارجية مثلاً في أفغانستان وكوسوفو منذ عام 1994 عندما وقّعت اتفاقية تعاون يُعرف باسم «برنامج الشركة للسلام». كما أن أنفاقها العسكري يلامس الـ2 في المائة من ناتجها الإجمالي وهو ما يوصي به الحلف لأعضائه الذين لا يلتزمون جميعهم بتلك النسبة. ومع ذلك، نجحت فنلندا بأن تحافظ على علاقة متوازنة مع روسيا في العقود والسنوات الماضية، وتبقى «على الحياد»، رغم تقاربها من الغرب في العقود الثلاث الأخيرة عبر الانضمام للاتحاد الأوروبي في عام 1995 وقبل ذلك بعام عبر توقيعها على اتفاقية شراكة مع الناتو. ولعل أكثر ما أظهر هذه «الحيادية» مؤخراً، القمة الشهيرة التي استضافتها هلسنكي بين الرئيسين الأميركي السابق دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين عام 2018، في وقت كانت التوترات على أشدها بين واشنطن وموسكو على خلفية اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية. كان الرجلان آنذاك ضيفين لدى الرئيس الفنلندي سولي نينيستو الذي أبلغ بوتين شخصياً في اتصال هاتفي بنيّة بلاده التقدم للانضمام للناتو قبل أيام.
واكتسبت فنلندا صيت الدولة الحيادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونجحت منذ ذلك الوقت في البقاء خارج نطاق الحرب الباردة. ويعود ذلك لدورها في تلك الحرب حيث قاتلت إلى جانب ألمانيا النازية، بهدف محاولة استعادة أراضيها التي خسرتها لصالح السوفيات في «حرب الشتاء». وبعد نهاية الحرب، تعهدت في الاتفاقيات التي أُبرمت بأن تبقى على الحياد بعد ذلك.

هدوء في معبر فاليما الحدودي مع روسيا (الشرق الأوسط)

ولكن رغم ذلك، فإن سياسة فنلندا الدفاعية والداخلية في العقود الماضية تُظهر أنها لم تتوقف يوماً عن خشية جارتها القوية. فهي أبقت على التجنيد الإجباري لشبانها حتى اليوم، وسنوياً تدرب قرابة الـ27 ألف جندي. ويتوجب على كل شاب الخضوع لهذا التدريب بعد الانتهاء من دراسته لمدة عام. وقد خضع قرابة الـ80 في المائة من الشبان في فنلندا للخدمة العسكرية الإجبارية. كما أنها بنت طوال العقود الماضية شبكة ملاجئ ضخمة بلغ عددها في كامل الأراضي الفنلندية، حسب وزارة الداخلية المسؤولة عنها، 54 ألف ملجأ يمكنها أن تؤوي 404 ملايين شخص من أصل 5 ملايين ونصف المليون يعيشون في فنلندا. وحسب موقع وزارة الداخلية، فإن هذه الملاجئ هدفها «حماية السكان خصوصاً ضد تهديدات عسكرية» وبأنها تؤمّن الحماية من «آثار الانفجارات والشظايا وانهيار المباني والانفجارات والإشعاعات والمواد الخطرة على الصحة». باختصار، يمكن لهذه الملاجئ أن تؤمّن حمايةً حتى من اعتداءات نووية محتملة.
وتنتشر تلك الملاجئ في جميع أنحاء البلاد وهي اليوم تُستخدم كمخازن أو مواقف سيارات أو مسابح عامة أو حتى نوادٍ رياضية ومتاحف، ومحطات مترو، ولكن يمكنها أن تتحول إلى ملاجئ خلال 72 ساعة. ومعظم هذه الملاجئ هي أملاك خاصة، إذ إن القوانين تجبر المباني الخاصة على تضمين ملاجئ تحت الأرض بمعايير خاصة. وحسب موقع وزارة الداخلية، فإن «قانون الإنقاذ» ينص على ضرورة بناء ملجأ لكل مبنى أو مجموعة مبانٍ في نفس قطعة الأرض أو موقع بناء إذا كانت المساحة لا تقل على 1200 متر مربع وتستخدم كمبانٍ سكنية أو مكاتب أو لغايات أخرى. كل هذا يشير إلى أن فنلندا رغم حفاظها على علاقة جيدة مع روسيا طوال السنوات الماضية، فهي بقيت مستعدة لهجوم محتمل من جارتها. وتقف نصب تذكارية في أنحاء العاصمة هلسنكي لتذكّر بـ«حرب الشتاء»، منها واحد مقابل وزارة الدفاع لمجسم من حديد على شكل شخص مليء بالفجوات. ورغم أن هكذا هجوم كان مستبعداً في عقول الفنلنديين، فإن الحرب في أوكرانيا عادت لتذكّرهم بإمكانية حصول ذلك. وشكّلت تلك الحرب نقطة تحول فعلية في العقلية الدفاعية لدى الفنلنديين، ودفعتهم إلى أحضان الناتو، في خطوة ستؤدي من دون شك إلى توترات مع روسيا عندما تكتمل.
ورغم أن التوترات الآن غير ظاهرة على الحدود بين الدولتين اللتين تتشاركان حدوداً بطول أكثر من 1300 متر، فإنها موجودة فعلاً. ويقول ماتي بيتكانيتي، المتحدث باسم حرس الحدود الفنلندي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن الوضع على الحدود «مستقر حالياً»، ويؤكد أنه لا «تغيرات دراماتيكية حصلت منذ بداية الحرب» في أوكرانيا، ولكنه يسارع ليضيف: «من الواضح، نحن نأخذ علماً بالتوتر خلال الوضع الحالي، ما يعني أننا نراقب الوضع بحذر ونحاول التصرف والرد بسرعة على أي تغير». وما يساعد الطرف الفنلندي حالياً انخفاض الحركة على الحدود. فالحركة التجارية توقفت منذ العقوبات الأوروبية الأخيرة على روسيا بسبب هجومها على أوكرانيا. وحركة السياح رغم أنها لم تنخفض كثيراً منذ ذلك الحين، فإنها محدودة منذ بداية انتشار «كوفيد - 19» بسبب الإجراءات المرتبطة بالوباء والتي ما زالت فنلندا تعمل بها. ويقول بيتكانيتي إن حركة المرور للأشخاص بين روسيا وفنلندا انخفضت إلى 10 في المائة من السابق، لأن من يُسمح لهم بالدخول إلى فنلندا هم المقيمون أو الملقحون ضد فيروس «كورونا» بلقاحات معترف بها في الاتحاد الأوروبي، ولقاح «سبوتنيك v» ليس واحداً من هذه اللقاحات. وبالفعل، فإن معبر فاليما الحدودي، الذي يبعد عن هلسنكي أقل من 200 كلم، ومفترض أنه أكثر المعابر ازدحاماً، يبدو شبه متوقف عن العمل. باستثناء عدد محدود من السيارات التي مرّت، كان المعبر هادئاً بشكل مريب. وقد أثر غياب السياح الروس على الأعمال في القرى الحدودية داخل فنلندا، ويظهر ذلك بشكل واضح في مجمع «تزار» أو «قيصر» التجاري الذي يبعد أمتاراً قليلة عن معبر فاليما، ويحوي متاجر ألبسة فخمة. فالمركز تحول إلى مدينة أشباح وغاب عنه المتبضعون ما دفع بمعظم المتاجر فيه لإغلاق أبوابها.
قد تكون تلك المتاجر تفتقر للمتبضعين القادمين من روسيا، إذ إن مدينة سانت بطرسبورغ تبعد المسافة نفسها عنها من العاصمة الفنلندية، ولكن سكان القرى المحيطة لا يبدو أنهم متأسفون لغياب السياح الروس. وحرصت كاثرين، السيدة التي كانت تقلّم حديقتها في بلدة يلاما، على التكرار أنه لا هي «ولا أحد هنا يحب الروس». ومع ذلك، فإن غياب الوئام مع روسيا لم يدفع بالفنلنديين كلياً إلى أحضان الغرب. فهم رغم قرارهم الانضمام للناتو، ما زالوا غير متأكدين من أنهم يريدون استضافة أسلحة نووية ينشرها الحلف على أراضيهم أو حتى مواقع عسكرية دائمة لقواته. وقد أكدت رئيسة وزراء البلاد سانا مارين، ذلك في تصريحات قبل بضعة أيام أدلت بها لصحيفة «كورييري ديلا سيرا» الإيطالية خلال زيارة لروما. وقالت للصحيفة إن نشر قواعد عسكرية للناتو أو أسلحة نووية لم يُطرح حتى الآن، وأن هذا الأمر لا يشكل جزءاً من المفاوضات الحالية مع الحلف، مشيرةً إلى أن هكذا قرارات هي «قرارات وطنية». وأضافت: «لن يأتي أحد ويفرض علينا أسلحة نووية أو قواعد دائمة إذا لم نكن نريدها، ولا يبدو لي أن هناك اهتماماً بنشر أسلحة نووية أو قواعد دائمة للناتو في فنلندا أصلاً».
ويقول الخبير الدفاعي هندرن لـ«الشرق الأوسط» إن كلام مارين يشير إلى أن خطة فنلندا الحالية «لا تضع أي عقبات في هذه المرحلة» قد تعرقل قبول عضويتها في الناتو. ويضيف: «بالطبع هذه النقاط حول القواعد الدائمة والأسلحة النووية ستكون نقطة نقاش عندما تتقدم العملية إلى الأمام، وسيكون هناك بحث عمّا إذا كان من مصلحة فنلندا أن يكون لديها هكذا قواعد أو أسلحة».
قد تكون فنلندا بهذه التصريحات تتفادى تصعيداً روسياً، ولكن الرد الروسي بدأ أصلاً. فقد أعلنت موسكو قطع الكهرباء عن فنلندا غداة إعلان حكومة هلسنكي عن نيتها التقدم بطلب العضوية للناتو. وبعد أن تقدمت بالطلب رسمياً لدى الحلف في بروكسل، أعلنت روسيا قطع الغاز عن فنلندا. ورغم أن فنلندا لا تعتمد على الغاز إلا بنسبة 6 في المائة من طاقتها، فهي تستخدمه بشكل أساسي كبديل لطاقة أنظف للشاحنات والآليات الثقيلة. وكانت شركة «غاسوم» التابعة للدولة والتي تستورد الغاز الروسي من «غازبروم» تروّج في السنوات الماضية لاستخدام الغاز كبديل عن الديزل للشاحنات ضمن خطة لتخفيف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
فقد أثبت الغاز أنه يتسبب بانبعاثات أقل بنسبة 12 في المائة من الديزل، كما أن سعره أقل كذلك. ويضع قطع روسيا للغاز، بحجة عدم دفعها بالروبل، فنلندا أمام خيارات أصعب لاستيراد غاز بديل سيكون سعره أكثر كلفة. ورغم أن فنلندا مستعدة لقبول دفع ثمن أكبر مقابل الغاز الروسي، فهي تحاول عدم التصعيد أكثر مع روسيا عبر إعلانها عدم نيتها استضافة قواعد عسكرية للحلف. ولكن الكثير قد يتغير في الوقت الذي تنضم فيه فنلندا رسمياً إلى الحلف، وهي عملية قد تستغرق عاماً. والقرى المجاورة للحدود قد تتغير وتصبح أكثر من مجرد قرى هادئة بيوتها متناثرة بين الغابات والأنهر. إنما على الأقل حتى الآن، لا تبدو أن هذه الأفكار تشغل بال كاثرين التي عادت عندما غادرتها، لتقليم العشب في حديقتها وهي تستمع لصوت الطبيعة المغردة المحيطة بها.


مقالات ذات صلة

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

العالم موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

أكد سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) نشر وحدات عسكرية إضافية في أوروبا الشرقية، وقام بتدريبات وتحديثات للبنية التحتية العسكرية قرب حدود روسيا، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك»، اليوم الأربعاء. وأكد باتروشيف في مقابلة مع صحيفة «إزفستيا» الروسية، أن الغرب يشدد باستمرار الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي على بلاده، وأن الناتو نشر حوالى 60 ألف جندي أميركي في المنطقة، وزاد حجم التدريب العملياتي والقتالي للقوات وكثافته.

العالم إسبانيا تستدعي سفير روسيا إثر «هجوم» على حكومتها عبر «تويتر»

إسبانيا تستدعي سفير روسيا إثر «هجوم» على حكومتها عبر «تويتر»

أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية، الجمعة، أنها استدعت السفير الروسي في مدريد، بعد «هجمات» شنتها السفارة على الحكومة عبر موقع «تويتر». وقال متحدث باسم الوزارة، لوكالة «الصحافة الفرنسية»، إن الغرض من الاستدعاء الذي تم الخميس، هو «الاحتجاج على الهجمات ضد الحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي».

«الشرق الأوسط» (مدريد)
العالم {الناتو} يؤكد تسليم أوكرانيا كل المركبات اللازمة لهجوم الربيع

{الناتو} يؤكد تسليم أوكرانيا كل المركبات اللازمة لهجوم الربيع

أعلن القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن جميع المركبات القتالية، التي وعد حلفاء أوكرانيا الغربيون بتسليمها في الوقت المناسب، تمهيداً لهجوم الربيع المضاد المتوقع الذي قد تشنه كييف، قد وصلت تقريباً. وقال الجنرال كريستوفر كافولي، وهو أيضاً القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا، إن «أكثر من 98 في المائة من المركبات القتالية موجودة بالفعل». وأضاف في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب يوم الأربعاء: «أنا واثق جداً من أننا قدمنا العتاد الذي يحتاجون إليه، وسنواصل الإمدادات للحفاظ على عملياتهم أيضاً».

العالم الناتو يؤكد تسليم كل المركبات القتالية اللازمة لهجوم الربيع الأوكراني

الناتو يؤكد تسليم كل المركبات القتالية اللازمة لهجوم الربيع الأوكراني

أعلن القائد العسكري الأعلى لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أن جميع المركبات القتالية، التي وعد حلفاء أوكرانيا الغربيون بتسليمها في الوقت المناسب، تمهيداً لهجوم الربيع المضاد المتوقع الذي قد تشنه كييف، قد وصلت تقريباً. وقال الجنرال كريستوفر كافولي، وهو أيضاً القائد الأعلى للقوات الأميركية في أوروبا، إن «أكثر من 98 في المائة من المركبات القتالية موجودة بالفعل». وأضاف في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي الأربعاء: «أنا واثق جداً من أننا قدمنا العتاد الذي يحتاجون إليه، وسنواصل الإمدادات للحفاظ على عملياتهم أيضاً».

العالم مقاتلات ألمانية وبريطانية تعترض طائرات روسية فوق البلطيق

مقاتلات ألمانية وبريطانية تعترض طائرات روسية فوق البلطيق

اعترضت مقاتلات ألمانية وبريطانية ثلاث طائرات استطلاع روسية في المجال الجوي الدولي فوق بحر البلطيق، حسبما ذكرت القوات الجوية الألمانية اليوم (الأربعاء)، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية. ولم تكن الطائرات الثلاث؛ طائرتان مقاتلتان من طراز «إس يو – 27» وطائرة «إليوشين إل – 20»، ترسل إشارات جهاز الإرسال والاستقبال الخاصة بها.

«الشرق الأوسط» (لندن)

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

TT

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية في 1972 شِباك دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وجابت صور جثث المهاجمين والرهائن العالم بأسره.

نحو مليار شخص تابعوا ما سميت «مجزرة ميونيخ» التي اختلط فيها الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني، وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي. وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحدث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه «طوفان» لكنه انطلق على الأرض الأوروبية.

رفضت حكومة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، الرضوخ لمطالب الخاطفين وبينها السماح لهم بالمغادرة إلى مصر مع رهائنهم. وخدعت الحكومة الألمانية الخاطفين واستهدفتهم نيران قواتها. تسبب الافتقار إلى الخبرة في مقتلة دُبّجت عنها كتب وأُنتجت أفلام وأُهرق حبر كثير. ترددت مائير في البداية، لكنها وافقت تحت ضغط عدد من وزرائها على عملية «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كل من له علاقة بهجوم ميونيخ في مطاردة عابرة للخرائط.

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

لا غرابة إذاً أن تؤرق استضافة الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية بلداً مثل فرنسا. فهذا الحدث العالمي قد يُغري المجموعات الإرهابية التي تبحث عن منبر استثنائي لتوجيه ضربة مدوية على الصعيد الدولي. يضاعف المخاوف أن العقود الماضية شهدت ولادة تنظيمات أدمت العالم، من قماشة «القاعدة» و«داعش» وغيرها.

يقع الصحافي في فخ المحطات المثيرة فيروح يسأل عنها كلما عثر على شريك فيها أو شاهد. وأنا كنت من هؤلاء ولا أزال. وشاءت المهنة أن ألتقى الرجلين اللذين صنعا موقعة ميونيخ تخطيطاً وتنفيذاً. اسم الأول صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، والرجل الثاني فيها بعد ياسر عرفات. واسم الثاني محمد داود عودة (أبو داود) عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح».

عرفات أبلغ وعباس صرف التكاليف

بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن، يمكن القول إن «الموساد» الإسرائيلي قتل كثيرين لكنه لم يقتل الثلاثة الذين وُلدت الفكرة على أيديهم وتحققت في صورة مأساة. والثلاثة هم: «أبو إياد»، ومساعده فخري العمري (أبو محمد)، و«أبو داود». اُغتيل «أبو إياد» والعمري لكن برصاص صبري البنا («أبو نضال» زعيم انشقاق «فتح - المجلس الثوري»، وأُصيب «أبو داود» برصاص «أبو نضال» أيضاً).

في تونس، قال لي «أبو داود» إن الفكرة «جاءت من العمري في لقاء ثلاثي. استوقفتْ الفكرة (أبو إياد) ثم أعجبته وأيّدتُها أنا». ويقول «أبو داود» إن عرفات «كان يعرف أن عمليةً لاحتجاز الرهائن ومبادلتهم بسجناء فلسطينيين في إسرائيل ستجري في ميونيخ، وتولى محمود عباس (أبو مازن) مسؤول المالية في (فتح) صرف المبلغ اللازم لتنفيذها».

وشدد «أبو إياد»، رداً على سؤال طرحتُه عليه، على أن العملية خرجت عن مسارها بسبب تشدد مائير ورعونة الحكومة الألمانية، وأن تعليمات مشدَّدة كانت قد أُعطيت للمنفذين بعدم قتل الرهائن أو إطلاق النار إلا في حالة الاضطرار القصوى للدفاع عن النفس. ويؤكد «أبو داود» أن التعليمات كانت صارمة بعدم القتل.

ملابس داخلية لتهريب السلاح

قصة مثيرة فعلاً. تولى «أبو إياد» شخصياً إحضار الأسلحة التي استخدمها المنفذون وكانت برفقته سيدة لبنانية سميت «جولييت» ساهم فتح حقيبتها المغطاة بملابس داخلية في إحراج رجل الجمارك الألماني، فمرَّر الحقائب الأخرى من دون تفتيش وهي كانت تحمل الرشاشات. وتولى «أبو داود» تخزين الحقائب في محطة القطار وتبديل أماكنها يومياً بانتظار موعد التنفيذ.

«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)

لم تراود الشكوك أجهزة الأمن الألمانية في ما يتعلق بزائر كان يتنقل بين فنادق ميونيخ بجواز سفر عراقي يحمل اسم سعد الدين ولي. كان الرجل المتنكر «أبو داود». وسيتولى استطلاع القرية الأولمبية أكثر من مرة.

وفي ليلة التنفيذ سيستخدم قامته الفارعة لمساعدة بعض المنفذين على تخطي السياج المحيط بالقرية الأولمبية. وتشاء الصدفة أن يتولى مساعدة منفذين آخرين رياضيون أميركيون عائدون من سهرة سمر من دون معرفة هوية رفاق «أبو داود» وأن حقائبهم ستختطف بعد قليل أنفاس الدورة الأولمبية والعالم.

قصة «أيلول الأسود»

لم تكن «أيلول الأسود» منظمة مستقلة. وُلدت على دويّ المعارك التي دارت بين الجيش الأردني والتنظيمات الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1970 واختتمت في العام التالي بعد معارك جرش وعجلون التي قُتل فيها القيادي الفتحاوي «أبو علي إياد».

وُلدت «أيلول الأسود» من رغبة في الثأر من النظام الأردني ومن المواجهة المفتوحة مع إسرائيل. كانت يافطة تستخدمها مجموعات في «فتح» لتنفيذ عمليات لا تريد تحمل مسؤولية مباشرة عنها، ونسبت إليها أحياناً عمليات لا علاقة لها بها. ويقول «أبو داود» إن علي حسن سلامة الذي اغتاله «الموساد» في بيروت لم تكن له علاقة على الإطلاق بعملية ميونيخ. ويضيف أن ما حصل في ميونيخ أثار حماسة الشعب الفلسطيني، ما دفع سلامة إلى الإيحاء بأنه شريك في العملية، خصوصاً أنه استخدم لافتة «أيلول الأسود» لتنفيذ بعض العمليات.

أثار الخروج القسري من الأردن حالة من الغضب في صفوف الفلسطينيين. وطُرحت أسئلة عن مسؤولية القيادات الفلسطينية في خسارة ما كان يعد الموقع الأفضل لمواجهة إسرائيل وإبقاء التواصل قائماً مع الأراضي المحتلة. ترك الخروج جرحاً في نفس «أبو إياد» لا سيما بعدما استمر اللغط حول ما قيل إنه اتفاق توصل إليه مع السلطات الأردنية إبان اعتقاله في أحداث 1970.

تحت لافتة «أيلول الأسود» ستتم عملية تصفية الحسابات. في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 سددت «أيلول الأسود» ضربة مؤلمة إلى الأردن. ففي ذلك اليوم اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، لدى دخوله فندق «شيراتون» في القاهرة. أربعة من أفراد المنظمة كانوا في انتظاره. وستطلق الحادثة جدلاً طويلاً لم يتوقف حتى اليوم وثمة من لا يزال يعتقد أن التل سقط برصاصة قناص كان يرابط على سطح بناية قريبة وليس برصاص فريق «أيلول الأسود».

إفراج السلطات المصرية عن المنفذين من دون محاكمتهم عزز شكوكاً أردنية بأن جهازاً مصرياً شارك أو تساهل. وكان نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية، قد نصح التل بعدم التوجه إلى القاهرة، لكنه رفض، وكان ما كان. تحدث «أبو إياد» في مواضيع كثيرة لكنه كان يرفض الخوض في حادثة اغتيال وصفي التل نظراً لحساسيتها، خصوصاً أن الأخير كان معروفاً بالنزاهة والشجاعة والدفاع عن فكرة الدولة والتنمية.

«أبو داود» أيضاً لم يرغب يوماً في الاسترسال في هذا الموضوع الذي تردد أنه كان ملفاً مقيماً لدى فخري العمري بعدما نال قرار اغتيال التل «موافقة مَن لا بد من موافقتهم».

بعد نحو أسبوعين من اغتيال التل، انهمر الرصاص على سيارة السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي، وأسعفه الحظ بالنجاة، واقتصرت الأضرار على إصابة في يده. حملت المحاولة توقيع «أيلول الأسود» أيضاً. وكانت هناك فصول أخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها.

إحباطات متراكمة

في 1972 بدا الجو الفلسطيني ملبداً. خيبة الخروج من الأردن وافتقار قوات الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان إلى ما يمكّنها من التصدي للغارات الإسرائيلية أو التوغلات. خاف قادة فلسطينيون من انهيار المعنويات أو شيوع اليأس.

بدأ التفكير في الربيع في حلقة ضيقة في ضرورة القيام بعمل مدوٍّ يثير الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني ويؤكد لسكان المخيمات أن المقاومة قادرة على إيذاء إسرائيل وإيلامها.

«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)

ازداد اهتمام «أبو إياد» مع مجيء الصيف بالقيام بعمل كبير وكان موعد الألعاب الأولمبية يقترب. طلب من «أبو داود» زيارة بلغاريا والحصول هناك على مسدسات مزوَّدة بكواتم صوت «لأننا سنحتاج إليها في أوروبا». وكان العمري يمتلك لائحة المواصفات المطلوبة. كان الغرض تسديد ضربات إلى عملاء «الموساد» في القارة الأوروبية.

كانت الجهات الفلسطينية قد وجّهت منذ بداية السنة رسالة إلى اللجنة الدولية الأولمبية طلبت فيها تمكين الفلسطينيين من المشاركة في دورة ميونيخ لكن اللجنة لم ترد. واجهت رسالة ثانية المصير نفسه.

في الثامن من يوليو (تموز)، كان «أبو داود» في مدينة دورتموند لشراء سيارة قد تحتاج المجموعة إليها في عملياتها الأوروبية. اتصل في ذلك النهار بـ«أبو إياد» الذي عاجله بخبر مؤلم. خبر اغتيال الروائي والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». قُتلت معه بانفجار سيارته ابنة شقيقته لميس الذي اصطحبها لتسجيلها في جامعة في بيروت.

بدا واضحاً أن كنفاني دخل دائرة الخطر مذ تولى إعلان مسؤولية الجبهة عن الهجوم على مطار اللد الذي نفَّذه ثلاثة من «الجيش الأحمر الياباني» يعملون تحت عباءة الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في الجبهة والذي هز العالم بعمليات خطف الطائرات.

على مقهى في روما وُلدت الفكرة

في أول لقاء مع «أبو إياد» بعد الحادثة طرح السؤال عن رد قوي على الاعتداءات الإسرائيلية التي تخطت كل حدود. اقترح العمري مهاجمة سفارات وقنصليات إسرائيلية لكن «أبو إياد» رأى أن ذلك سيضع المقاومة في مواجهة مع الدول التي تستضيف هذه السفارات. سأل «أبو إياد» «أبو داود» رأيه فأجابه أنه لم يبلور لديه اقتراح لكن البقاء في الوضع الراهن غير ممكن.

سيكون الموعد الثلاثي المقبل في مقهى في روما. أبلغ «أبو إياد» باستمرار اللجنة الدولية الأولمبية في تجاهل وجود الفلسطينيين فانتابه الغضب. قال العمري: «ما داموا يصرون على تجاهلنا لماذا لا نحاول التسلل إلى المدينة الأولمبية؟». سأله «أبو إياد» عن الغرض فأجاب: «لنحتجز رياضيين إسرائيليين». سأله «أبو إياد» إن كان مجنوناً؟ تدخل «أبو داود» ملمحاً إلى أن معظم الإسرائيليين لهم علاقة ما بالمؤسسة الأمنية أو تابعوا تدريبات عسكرية.

صمت «أبو إياد» وبدا كمن يمحص الفكرة. قطع فجأة صمته وقال: «في مقابل من نحتجزهم من رياضيين وإداريين إسرائيليين نطالب بإطلاق عدد وازن من سجنائنا في إسرائيل. الفكرة ليست سيئة». وبعد لحظات خاطب «أبو داود» قائلاً: «ميونيخ في طريقك إلى بلغاريا».

انطلقت التحضيرات لعملية ميونيخ. وقبل المغادرة طلب «أبو داود» من «أبو إياد» التحدث إلى «أبو مازن» للحصول على تمويل للعملية، فردّ: «لا تقلق سأتحدث إليه في الوقت المناسب. أنا متأكد من موافقته وسنحصل على المبلغ اللازم».

لم ينجح «أبو داود» في إقناع البلغار بتسليمه الأسلحة. اشترطوا اتصالاً من جهة رسمية وكانوا يقصدون منظمة التحرير أو قيادة «فتح». تدخل «أبو إياد» لكنهم وضعوا شرطاً جديداً وهو أن تتجه الأسلحة إلى الشرق الأوسط لا إلى أوروبا نظراً لخطورة انكشافها هناك.

«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)

كان «أبو داود» يتحدث في ليل العاصمة التونسية كمن يسترجع شبابه أو لحظة عرسه. لم يستثمر دوره في ميونيخ كما فعل «كارلوس» الفنزويلي بعد عملية احتجاز وزراء «أوبك» في فيينا. أخفيت ذهولي كي لا يشعر أنه ذهب بعيداً. لا شيء يشبع شراهة الصحافي كهذه القصة المثيرة عن رجال يتحركون بجوازات سفر مزورة وتأشيرات تم التلاعب بها وتبديل فنادق وعناوين وتضليل حراس.

زيارتان استطلاعيتان

كرر «أبو داود» محاولاته لاستكشاف القرية الأولمبية. استعان ذات يوم بسيدة فلسطينية تتقن شيئاً من الألمانية. تظاهر بأنه رجل برازيلي ويريد الدخول لمصافحة أصدقاء له. رق قلب الحارس الألماني وسمح لهما. سيعود لاحقاً برفقة الشابين اللذين سيتوليان قيادة الفريق المنفذ وهما يوسف نزال ومحمد مصالحة.

اقترب من مقر البعثة الإسرائيلية ورأى امرأة تحمل أوراقاً. سألها بالإنجليزية عن مقر البعثة الإسرائيلية فاستفسرت عن سبب السؤال. رد بأنه برازيلي ويحلم كرفيقيه بزيارة إسرائيل والحصول على معلومات عن هذا البلد وكذلك على أعلام له لنقلها إلى أولادهم. تبين أن السيدة إسرائيلية ووقعت في الفخ، فما إنْ توجهت إلى المقر القريب حتى دخل الثلاثة برفقتها للتعرف على جغرافيا المكان الذي سيشهد الهجوم. استطلع «البرازيليون» قدر الإمكان المداخل والممرات والأجنحة الملحقة.

استلزمت الأسابيع الأخيرة من الإعداد لقاءات ورحلات في اتجاه جملة مدن بينها أثينا ومدريد وصوفيا وجنيف، فضلاً عن بيروت وطرابلس الليبية. كان لـ«أيلول الأسود» مركز تدريب في نقطة قريبة من صيدا في جنوب لبنان. لكن الضرورة اقتضت إرسال مجموعة من المقاتلين لمتابعة دورة سريعة ومكثفة في طرابلس.

طُرحت في أحد الاجتماعات المسألة الأهم، وهي كيف يمكن إيصال الأسلحة في ظل إجراءات استثنائية لا بد من أن تواكب حدثاً يشارك فيه رياضيون من 120 دولة. فوجئ «أبو داود» والعمري بـ«أبو إياد» يقول بلهجة حاسمة: «أنا سأوصلها». استبعد «أبو داود» أن يضطلع «أبو إياد»، وهو رجل ذائع الصورة والصيت مباشرةً، بمهمة محفوفة بالأخطار، ورجح أن يستعين بمنظمة أو مجموعة.

زوجة لبنانية مزيفة... وقنابل في حقيبة يد

أرسل «أبو إياد» إلى «أبو داود» أن ينتظره في مطار فرانكفورت في 24 أغسطس (آب) 1972. ذهب «أبو داود» إلى الموعد وراقب من وراء الزجاج. انتظر إطلالة «أبو إياد» بفارغ الصبر وعلى قدر من القلق. فجأة أطل «أبو إياد» في صحبة سيدة لبنانية تظاهر بأنها زوجته وسُميت جولييت، فضلاً عن تاجر صديق له واسمه علي أبو لبن.

كان «أبو إياد» ثابت الأعصاب على خلاف أبو لبن الذي وصل به الأمر حد تناول المهدئات. أشار رجل الجمارك إلى «أبو إياد» أن يفتح الحقائب فخاف «أبو داود» أن تنهار العملية برمتها. وفجأة بدأ «أبو إياد» في إخراج الملابس الداخلية لـ«زوجته» مبدياً شيئاً من التذمر من هذا النوع من المعاملة. أُصيب موظف الجمارك بالإحراج وأشار بمرور الحقائب كمن يعتذر. وهكذا وصلت الأسلحة المخبأة في الحقائب الأخرى.

لم يقترب «أبو داود» من «أبو إياد» الذي صعد مع رفيقيه إلى سيارة تاكسي. تبعه «أبو داود» في السيارة الموالية وطلب من السائق السير وراء سيارة صديقه. ضحك سائق السيارة الثانية من إصرار «أبو داود» على متابعة صديقه ودفَعَه الخبث إلى التفكير أن عين الرجل هي على السيدة الموجودة في التاكسي الآخر ولم يخطر بباله أن رجال السيارتين سيشعلون حريقاً كبيراً سيلازم اسم ميونيخ والألعاب الأولمبية.

هكذا عرف «أبو داود» الفندق الذي ينزل فيه «أبو إياد». ترجل من السيارة ومشى قليلاً في اتجاه آخر للتضليل ثم دخل الفندق وصعد إلى غرفة أبو لبن. وجد «أبو إياد» مسترخياً هناك وكانت «جولييت» في غرفة أخرى.

اكتشف «أبو داود» أن عدد الرشاشات ثمانية وطلب منه «أبو إياد» التصرف على أساس أن الفريق المهاجم سيكون من ثمانية لا عشرة. لاحظ «أبو داود» غياب القنابل فاتفق أن يعود أبو لبن سريعاً إلى بيروت لإحضارها في حقيبة يد تفادياً لإثارة الشبهة. وهذا ما حصل. نقل «أبو داود» الأسلحة إلى خزائن الأمانات في محطة القطار في ميونيخ، وأضاف إليها لاحقاً القنابل وكان يغيّر مكانها يومياً ومن دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن.

اللمسات الأخيرة

وصل أعضاء الفريق المشارك من طرابلس وتولى مصالحة ونزال توزيعهم في ثلاثة فنادق مختلفة بمعدل اثنين في كل فندق ومن دون ذكر اسم «أبو داود». وكان على «أبو داود» أن يشتري لهم ثياباً رياضية وحقائب وبعض الضمادات والبسكويت في حال طال احتجاز الرهائن.

عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)

افتُتحت الألعاب الأولمبية في 26 أغسطس. اختار المخططون الانتظار كي يسود الانطباع أن الألعاب تجري طبيعية وتتراخى التدابير الأمنية.

كنت أشعر أنني أنتظر قصة جديدة كلما أشعل «أبو داود» سيجارة إضافية.

قال «أبو داود» إن اجتماعاً عُقد سابقاً في بيروت وشمل أيضاً «أبو إياد» و«أبو مازن» خلص إلى التشديد بصورة قاطعة على عدم اعتبار العملية فرصة للثأر والتنكيل وأن «العملية سياسية قبل أن تكون عسكرية والمصلحة تقضي بعدم إراقة الدماء إلا في حال الخطر وفي سياق الدفاع عن النفس». وأضاف أنه أبلغ الفريق المنفذ بذلك في اجتماع عقده معه «بوصفي برازيلياً مؤيداً للثورة الفلسطينية وكنت أتحدث خلال الاجتماع بالإنجليزية ويتولى أحدهم الترجمة».

كانت الاستعدادات قد اكتملت: سيدخل المنفذون من أقرب نقطة في السياج الأولمبي إلى المبنى 31 الذي تقيم فيه البعثة الإسرائيلية. سيحاول احتجاز أكبر عدد ممكن من الرهائن. سيتولى مصالحة عملية التفاوض. سيسلم الوسطاء لائحة تطالب بإطلاق أكثر من مائتي سجين فلسطيني في إسرائيل وهي تتضمن أيضاً اسم كوزو أوكاموتو الياباني الذي شارك في هجوم اللد، إضافة إلى الإفراج عن أولريكه ماينهوف وأندرياس بادر من جماعة «بادر ماينهوف» الألمانية الراديكالية.

كانت هناك تعليمات بخفض المطالب إذا تعقدت المفاوضات، «وكانت الخطة تقضي بطلب طائرة لاصطحاب الرهائن إلى دولة شرق أوسطية ويفضل أن تكون مصر التي ستطالب بالتأكيد بعملية تبادل لإطلاق الإسرائيليين المحتجزين»، كما روى «أبو داود».

ليلة التنفيذ

في الرابع من سبتمبر شعر «أبو داود» باكتمال التحضيرات فأعطى إشارة التنفيذ. بعد منتصف الليل سيكون إلى جانب السياج مع المنفذين بثيابهم الرياضية والرشاشات المخبأة في حقائبهم. يقول «أبو داود» إن «الشباب كانوا يستعدون لتسلق السياج حين سمعنا ضجيجاً وسرعان ما تبين أنهم لاعبون أميركيون سهروا وأسرفوا في الشراب وقرروا تسلق السياج للعودة. المضحك أنهم عرضوا على شبابنا المساعدة وقدموها وشملت رمي الحقائب التي تحوي السلاح إلى الجهة المقابلة. واستخدمت أنا طولي لمساعدة من وجد صعوبة. وكانت المفاجأة أن الرجل الذي ساعدته قال لي: شكراً أبو داود، وأنا كنت أتوهم أنني نجحت في إخفاء هويتي عن المنفذين باستثناء نزال ومصالحة».

ترك «أبو داود» المكان وعاد إلى فندق سجل نفسه فيه باسم مستعار آخر. شرارة البدء في الرابعة والنصف صباحاً. مرت ساعات ولم تبث الإذاعات شيئاً. وكان «أبو داود» قد اتفق مع مصالحة ونزال على أن يلتحق به أعضاء الفريق في محطة القطار إذا فشلت المحاولة لأن جوازاتهم كانت في حوزته. في الثامنة بثت وسائل الإعلام نبأ اقتحام القرية الأولمبية. وهكذا صارت القصة ملك العالم بأسره.

مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)

رفضت حكومة غولدا مائير شروط الخاطفين. ويعتقد أنها مارست ضغوطاً على حكومة ألمانيا الغربية بذريعة أن التجاوب يشجع الإرهاب. خدعت الحكومة الألمانية الخاطفين. وافقت على انتقالهم إلى مطار عسكري حيث ستنتظرهم طائرة «لوفتهانزا» لنقلهم إلى مصر. هبطت طائرتا الهليكوبتر في المطار وتوجه نزال ومصالحة لتفقد طائرة الركاب، ولدى خروجهما اندلع الرصاص واختلط. حاولت الأجهزة الألمانية قتل الخاطفين وكانت النتيجة مقتل خمسة منهم، إضافة إلى رهائنهم التسع وشرطي ألماني. ويُذكَر أن رياضيين إسرائيليين قُتلا خلال عملية الاقتحام وتجميع الرهائن.

«غضب الرب»

بعد ميونيخ وافقت حكومة مائير على عملية «غضب الرب» التي أدت إلى اغتيال عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الفلسطينيين ولم تكن لمعظمهم علاقة من قريب أو بعيد بعملية ميونيخ. نجحت إسرائيل في اغتيال كثيرين إلا الحلقة الأساسية. فقد اغتيل «أبو إياد» وفخري العمري في تونس في 14 يناير (كانون الثاني) ومعهما المسؤول الأمني هايل عبد الحميد (أبو الهول) على يد شاب اسمه حمزة أبو زيد اندسّ في جهاز حماية عبد الحميد بناءً على طلب «أبو نضال».

كان «أبو إياد» متحفظاً في الكلام عن المحطات التي لعب دوراً فيها. لم يرد ترك بصماته مباشرةً في أي مكان. كان ينسب ما تحقق إلى «الشباب» ولهذا لمست قدراً من العتب عليه من جانب «أبو داود» الذي لعب دوراً حاسماً في عملية ميونيخ وغيرها.