تثير مسرحية «خلطة شبرا»، التي يتواصل عرضها على مسرح الطليعة في حي العتبة وسط القاهرة، الكثير من الشجن والحنين، فهي تقدم صورة من الزمن الجميل لواحد من أعرق أحياء العاصمة المصرية «شبرا»، كما عايشه وفتش عن خصوصيته مؤلف العمل يسري حسان، لا سيما في عقود الستينات السبعينات والثمانينات.
ينتهي العرض فتأخذ نفساً عميقاً وتطلق زفرة من الأسى، وقد تبين لك الفارق بين الواقع اليوم وظلاله حتى الأمس القريب. لم يكن الزحام السكاني قد ابتلع الحي الذي أنشأه محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة قبل أكثر من 200 عام شمال العاصمة، بعد أن كان في الأصل جزيرة تتوسط النيل، ولم يكن الزحام جاء معه بقيمه الدخيلة على المجتمع مثل الأنانية واللهاث والضوضاء، وإنما كان الهدوء والمحبة والتسامح الديني وتوقير المرأة والترابط الاجتماعي عناوين عريضة على زمن لا تعرف عنه أجيال الهواتف الذكية والسوشيال ميديا شيئاً.
العرض المسرحي مأخوذ عن كتاب صدر بنفس الاسم للمؤلف، وفيه يروي حكايات من أسماهم مختصين في صناعة البهجة و«اقتناص الفرح من فم الشقاء والتعب»، حيث يتحايلون على ظروفهم الصعبة من أجل لحظة سعادة يرون أنفسهم أحق بها «حين كانت السماحة والصراحة بادية على المظهر ومستقرة في الجوهر».
يركز كل من الكتاب والمسرحية إذاً على نماذج البسطاء والمهمشين في شبرا التي لا تنام، حيث دور سينما لا تحصى، وفنانو الأراجوز ومنشدون ومطربون شعبيون وفنانون جوالون، وحواة وآكلو نار. كل هذه «الخلطة» الإنسانية يستلهم منها حسان خيوط عمله الدرامي في حي اعتاد أن يضم خليطاً من المتناقضات، فهناك الفلاحون والصعايدة، والفقراء والأغنياء، وقاطنو الأكواخ والقصور، وصفوة المثقفين ونخبة الصعاليك.
لا يقوم العرض على حبكة تقليدية وحدث درامي رئيسي ينمو في خط مستقيم، وإنما على حكايات عدة متفرقة، ينظمها خيط درامي واحد هو عبقرية المكان واكتشاف ناسه عبر شخصية الراوي والحكائين الثلاثة، الذين يتداولون عدداً من الحكايات مثل دور السينمات الشعبية التي كانت تقع في الهواء الطلق، وكيف كان يمكن لبعض السكان مشاهدة أفلامها مجاناً من شرفات المنازل، فضلاً عن اقتراض الشاي والزيت والسكر بين الجيران، أما في حالات المرض فتتم الزيارة بهدف وضع مبلغ مالي تحت وسادة المريض دون أن ينتبه.
ومن الحكايات الطريفة، تلك التي تتحدث عن شاب يبدو على شيء من التأخر العقلي، وكان يصعد فوق السطوح لرفع الأذان، فلا يلقيه على النحو الدقيق، فيتسامح الناس معه ولا يحتدون عليه أو يعاملونه بعنف.
يلعب الغناء دوراً مكملاً للدراما عبر أشعار يسري حسان وألحان الراحل أحمد الحجار وغناء ماهر محمود، فقد ساهمت الموسيقى في تعميق حالة الحنين، واستطاع المخرج محمد سليم استكمال الصورة عبر شاشتي عرض على جانبي المسرح تضمان مادة فيلمية عن الحي الأكثر عراقة.
ملصق المسرحية (صفحة مي كمال على فيسبوك)
المفارقة أن مؤلف العمل هو أيضاً ناقد مسرحي معروف، فهل يمكنه النظر لهذا العرض المسرحي بعيون نقدية محايدة بعيداً عن الانحياز؟ طرحنا السؤال على يسري حسان فأوضح أن ذلك صعب للغاية، لكن هذا لا يمنعه من القول إن «خلطة شبرا» عرض مسرحي يمتزج فيه التشخيص بالحكي بالغناء ضمن أجواء الدراما الشعبية منطلقاً من شبرا ليتحدث عن مصر كلها والتغيرات الاجتماعية الحادة التي شهدتها في العقود الأخيرة.
ويضيف حسان لـ«الشرق الأوسط»، أن المسرحية تركز على النماذج الإنسانية المهمشة التي لا يذكرها أحد عادة مع تركيز خاص على مسألة الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة من مسلمين وأقباط في سياق درامي بعيد عن المباشرة، موضحاً أن الغناء في هذا العمل ليس مجرد حلية ولا حتى تعليق موسيقي على الأحداث وإنما هو جزء لا يتجزأ من البنية الدرامية للعرض.
ويرى أن المخرج سليم استطاع تقديم تجربة تتسم بالبساطة والدهشة في آن واحد، حيث رأينا جمهوراً يبدو أنه يدخل المسرح للمرة الأولى ويخرج مبتهجاً بعد إسدال الستار.