{الطرز المغربي وخفاياه}... في معرض بمراكش

يلقي الضوء على جانب من التراث الثقافي والفني على مدى العصور

من معروضات «الطرز المغربي وخفاياه» في لمتحف الوطني للنسيج والزرابي بمراكش
من معروضات «الطرز المغربي وخفاياه» في لمتحف الوطني للنسيج والزرابي بمراكش
TT

{الطرز المغربي وخفاياه}... في معرض بمراكش

من معروضات «الطرز المغربي وخفاياه» في لمتحف الوطني للنسيج والزرابي بمراكش
من معروضات «الطرز المغربي وخفاياه» في لمتحف الوطني للنسيج والزرابي بمراكش

تحت شعار «الطرز المغربي وخفاياه»، يُنظم في المتحف الوطني للنسيج والزرابي (دار السي سعيد) بمراكش حالياً، معرض فني، يلقي الضوء على جانب من التراث الثقافي والفني الذي ميز الحضارة المغربية على مدى العصور وارتبط بفن عيش المغاربة.
تشتمل المعروضات على مجموعة من التحف الفنية التي أبدعتها يد المرأة الصانعة المغربية في مجال النسيج التقليدي والطرز، بعدد من المدن والمناطق التي تشتهر بهذه الصناعة، في مقدمتها فاس ومكناس وشفشاون وتطوان والرباط وسلا وأزمور؛ مع استثمار التقنيات الحديثة في العرض، من خلال أشرطة مصورة تبين طرق ومراحل الطرز، فضلاً عن مستلزماته وفنياته. كما تترافق المعروضات مع فقرات تعريفية تقدم للزائر توضيحات حول تلقين الطرز ومراحله ومستلزماته، مع استعراض لخريطة الطرز المغربي حسب المناطق، عبر التركيز على مناطق الشمال والشرق من خلال تطوان، شفشاون ووجدة؛ وطرز وسط المغرب من خلال فاس ومكناس؛ وطرز الساحل الأطلسي من خلال الرباط، وسلا وأزمور، إضافة إلى طرز منطقة تافيلالت، بالجنوب الشرقي للمغرب.
فعلى مستوى طرز الشمال والشرق، يستمد الطرز التطواني، مثلاً، تقنيته من التقاليد الموريسكية، ويتسم باستعمال أشكال مرسومة مسبقاً على القماش؛ فيما يتميز طرز شفشاون بتوظيفه لتقنية الخيوط المعدودة ولأشكال هندسية وزخارف مستوحاة من الأندلس؛ بينما ظهر طرز وجدة في بداية القرن الرابع عشر من خلال رسومات وتصاميم للفساتين، ويتميز بألوانه وأقمشته الطبيعية، كالحرير والصوف وخيوط الذهب، ويستخدم لإنتاج نوع محدد من القفاطين والقطع المكونة لجهاز العروس.
أما على مستوى طرز وسط المغرب، فقد ظهر الطرز بفاس وتطور منذ الفترة المرينية (1244 - 1465)، مستمداً خصوصيته من الأشكال الهندسية والإنجازات المعمارية التي شهدتها تلك الفترة. وتأتي قطع فاس المطرزة على شكل لوازم جهاز العروس أو حقيبة الولادة، وكذا أغطية الموائد والوسائد أو الأوشحة والمناديل. ويصعب التمييز من الوهلة الأولى بين الطرز المكناسي والطرز الفاسي. ورغم تشابه التقنيات، إلا أن مكناس لا تزال تحتفظ بمسحة أمازيغية تتجلى في طرز بوجهين يزين أقمشة من المُوسْلين أو القطن، مختلفة الألوان، مع تصاميم على شكل زخارف نباتية أو هندسية ونجوم تزين أغطية الموائد والمناديل والأوشحة.


من معرض «الطرز المغربي وخفاياه» بالمتحف الوطني

أما فيما يخص طرز الساحل الأطلسي، فيمزج الطرز الرباطي الذي يتميز بغنى ألوانه، بين الحداثة والعراقة المتجلية في طابعه الأندلسي، إذ يعتمد على تقنية الرسم المسبق المستخدمة في أغلب الأحيان على القطن الأبيض ذي الحبيبات اللامعة. بينما يستخدم الطرز السلاوي تقنية الخيوط المحسوبة التي نحصل من خلالها على قطع ذات وجه واحد، من القطن الأبيض المزخرف بألوان أحادية أو متعددة، فيما يستمد زخارفه من أشكال نباتية تزين الستائر وأغطية الأسرة والوسائد. أما طرز أزمور، فيعود إلى إيطاليا خلال القرن الخامس عشر. وقد حافظ يهود المدينة على هذا النمط الخاص الذي يتمثل في قطع ثنائية اللون وذات وجه واحد، ويعتمد تقنية الخيوط المعدودة المستخدمة على قماش قطني. فيما يطغى على هذا الصنف اللون الأحمر المرفوق بخيوط سوداء تشكل زخارف ذات أشكال حيوانية في أغلب الأحيان.
أما بالنسبة لطرز تافيلالت، فقد اعتادت النساء اليهوديات ارتداء سترات حريرية ذات لون أحمر يرمز إلى الوفرة والسعادة، حيث يتدثرن بقطعة قماش تدعى «إزار» بعد أن تكفف أكمام السترة حتى الكتفين وتثبتها على مستوى الظهر بواسطة مشبك. كما تتميز المنطقة بقبعات تدعى «بنيقات» مصنوعة من القطن ذي اللون الأحمر الفاقع المطرز بخيوط حريرية صفراء وخضراء، وتتكون من مستطيل تم تزيين اثنين من حوافه بمعينات صغيرة متداخلة، فيما يتوسطه خط مائل إلى الرمادي.
ويعد الطرز في المغرب فناً عريقاً، أثث على مدار تاريخ البلد، كل بيت عبر مجموعة متنوعة من القطع يدوية الصنع، ومن ذلك قطع الأثاث والألبسة، كالقفطان أو الجلباب. كما يتميز بكونه حرفة تقليدية حضرية بالدرجة الأولى، تختلف خصائصها باختلاف مراكز إنتاجها المنتشرة في العديد من المدن. وهو يعد فناً نسوياً بامتياز، ويتجلى في إضفاء طابع جمالي على لوازم وظيفية، إذ إن الطرازات المغربيات لا تولين لمنتوجاتهن حمولة تجميلية محضة، مما يفسر قلة إنتاج القطع التزيينية واستعمالها المحدود.
على مستوى الحرفة، يمكن للطرازة أن تثبت تميزها شريطة إتقانها للحرفة وأهليتها للثقة، علاوة على صفات أخرى تمكنها من الحصول على التركيب الزخرفي والتناسق اللوني، كالمهارة اليدوية والحس الفني العالي والتأني.
ولتعلم الطرز، تأخذ الأم ابنتها للقاء المعلمة المسؤولة عن الورشة. وتبدأ مراسيم الدخول إلى الورشة بحفل صغير يدعى «الفتوح»، تقدم خلاله الطفلة الشاي والحلويات إلى الحضور.
وتتحدر معلمات الطرز من طبقات اجتماعية مختلفة، غير أن النساء من أبناء العائلات الميسورة، أو القادرات على تفويض الأعمال المنزلية، هن وحدهن من بإمكانهن اتخاذ هذا الفن الأصيل هواية.
وترى النسوة في الصباح الفترة الأنسب للطرز، مع تفضيل العمل يومي الأحد والاثنين. وتلقن المعلمات الفتيات تقنيات الطرز باستعمال خيوط القطن المغزول التي تستبدل بالحرير فور ضبط المتدربات لتقنيات الطرز. وغالباً ما تترك الفتاة الورشة عند بلوغها سن الخامسة عشرة.
وتتحلى الطرازات بالتأني والصبر، والقدرة على التركيز لساعات طويلة، إذ من الممكن أن يستغرق الانتهاء من طرز بعض القطع أياماً عديدة. وعند العمل بتقنية الزخارف المرسـومة مسبقاً، تقوم الطرازة ببسط القماش فوق طاولة أو قطعة من الورق المقوى تضعها على ركبتيها، من ثم تأخذ قلماً وتشرع في خط نماذج ورسوم مركبة بمهارة كبيرة من دون أي خطأ. وهي تعتمد، بالنسبة لتقنية الخطوط المستقيمة، على خطوط معدودة ولا تحتاج إلى رسوم مسبقة، كما تُستخدم لتزيين أقمشة رفيعة كالقطن.
وتتميز أدوات الطرز ببساطتها، وتتمثل في إبرة، وكُشتُبان (قطعة أسطوانية صغيرة مصنوعة من المعدن تضع الطرازة طـرف أصبعها داخلها لحمايته من الوخز)، وإطار للطرز (قطعة خشبية دائرية تقوم بتثبيت وشد القماش، تتكون من قرصين متداخلين)، ووسادة توضع القطعة المراد تطريزها عليها (قطعة محشوة بالصوف ومغلفة بغشاء من القطن الصلب، تصنعها أم الطرازة المتدربة، وتسـتخدم على الخصـوص فـي الطـرز الرباطـي والتطوانـي اللذين يعتمدان على تقنية الزخارف المرسومة مسبقاً).
ويقع المتحف الوطني للنسيج والزرابي، الذي يحتضن هذا المعرض، في قلب المدينة العتيقة لمراكش، ويعد مثالاً حياً للعمارة المغربية الأندلسية، ممثلة «في دار السي سعيد»، التي بنيت من طرف السي سعيد بن موسى، وهو من الشخصيات البارزة خلال فترة حكم السلطان العلوي مولاي عبد العزيز (1894 - 1908)، إذ تقلد منصب وزير الحرب، كما أنه الأخ الشقيق لـ«باحماد»، الصدر الأعظم في ديوان مولاي عبد العزيز.
ويمثل المتحف، الذي تناهز مساحته 2800 متر مربع، رصيداً تراثياً مهماً، خصوصاً بعد أن تحولت البناية، خلال فترة الحماية الفرنسية، إلى متحف للفنون المحلية، ليستقبل، منذ تأسيسه سنة 1930، ورشات لحرفيين يعرضون تقنياتهم التقليدية، كما مكن من جمع تحف مختلفة ومتنوعة تتراوح تاريخياً بين القرنين السادس عشر وبداية القرن العشرين. وبعد استقلال المغرب، وُزعت البناية ما بين مصلحة الصناعة التقليدية والمتحف الذي ضم الرياض الكبير بقاعاته الأربعة والرياض الصغير وطابقين وعدة ملحقات، محتضناً، وقتها، مجموعات متحفية من منطقة مراكش، تشمل الأعمال الخشبية والجواهر والفخار والخزف والأسلحة والزرابي والنسيج، وغيرها.
وغير مشروع ترميم هذه البناية التاريخية، الذي بادرت إليه المؤسسة الوطنية للمتاحف، التي انتقل إليها أمر تدبير شؤونه في إطار استراتيجية تهدف إلى إعادة تأهيل المتاحف الوطنية وجعلها فضاءات جذابة تغني العرض السياحي الوطني، من توجه ومضمون متحف دار السي سعيد، الذي صار يقترح، من خلال تسمية المتحف الوطني للنسيج والزرابي، مساراً سينوغرافياً يلقي الضوء على فن النسيج والزرابي المتوارث، متوخياً إبراز مراكز إنتاج الزرابي، القروية منها والحضرية، مع الحفاظ على الخصائص المعمارية للفضاء التاريخي.


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».