يوم الثلاثاء الماضي (الخامس عشر من هذا الشهر) أُعلن عن خبرين يهمّان الصناعة السينمائية في هوليوود والعالم. الخبر الأول أنّ إيرادات «ذا باتمان» حل العالم وصلت إلى 500 مليون دولار بعد أقل من 20 يوماً من بدء عروضه العالمية. الخبر الثاني إتمام صفقة شراء شركة «مترو غولدوين ماير» بثمانية مليارات و500 ألف دولار. الشاري هي مؤسسة لم يكن أي من العاملين فيها قد وُلد أيام ما كانت تلك المؤسسة السينمائية واحدة من كبريات الشركات الأميركية المنتجة في عالم صناعة الخيال البصري.
هذان الخبران ليسا كل ما تعيشه صناعة السينما العالمية حالياً. هناك انقسام هوليوودي بين شركات كلاسيكية وأخرى مستحدثة من ناحية ومهرجانات تعوم اليوم وقد تسقط غداً ومتغيّرات أخرى يفرضه عليها واقع جديد.
جمهور حاضر
الخبران يلتقيان في حقيقة ثابتة: «ذا باتمان» (الذي هو من إنتاج وورنر، الذي يحافظ هذا الأسبوع على قيادته لسوق الإيرادات الأميركية للأسبوع الثالث على التوالي) يؤكد أنّ الإقبال على صالات السينما حول العالم وبأعداد غفيرة ما زال حالاً واقعاً بالتأكيد - مع شرط واحد: أن يكون الفيلم من تلك التي يرغبها الجمهور السائد.
في حين أنّ هذا الشرط كان دائماً داء هوليوود ودوائها إلا أنّ عاصمة السينما العالمية، التي مرّت في العامين السابقين بمحن ومآزق غير متوقعة (بدأت بالكورونا)، كانت تحتاج إلى هذا النجاح الذي يخلف نجاحاً أكبر (حتى الآن) أنجزه فيلم «سبايدر - مان: العودة» (كولمبيا) إذ وصلت إيراداته حول العالم منذ منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) إلى الآن ملياراً و879 مليون دولار.
الجانب المفرح، في هذا المجال إذن، هو أنّ جمهور السينما ما زال حاضراً لم يتبدد. يسارع لدخول صالات السينما ليستمتع بالأفلام على الشاشة الكبيرة عوض انتظار توفرها على منصات الإنترنت. لكن الوجه الآخر هو محزن في الحقيقة وهو أن نجاح «سبايدر - مان: العودة» و«ذا باتمان» يؤكد أنّ النوع الوحيد من الأفلام القادر على جذب الجمهور وهذا الحجم من النجاح هو أفلام الكوميكس. إنّه تماماً كالقول بأنّ أي نوع آخر لن يقدر على الوصول إلى النجاح ذاته لأن ذلك فعل مستحيل. أقصى ما يمكن أن ينجزه هو 250 إلى 300 مليون دولار أي ما يوازي أكثر بقليل من نصف تكلفة الإنتاج والتوزيع والدعاية هذه الأيام.
يلتقي شراء مؤسسة «أمازون» الضخمة لشركة «مترو غولدوين ماير» مع نجاح هذين الفيلمين من زاوية التأكيد على أن الصناعة ذاتها ما زالت بخير وحاضرة ومنتعشة مع إيمان مطلق بأهمية استحواذ الشركات الضخمة لأي ستوديو سينمائي النشأة والتاريخ دعماً للمزيد من النجاح المادي. هذا يعني أنّه لو لم يكن هناك إدراك بأنّ الاستثمار في شركة سينمائية أمر يعود بالنفع الضخم لما صرفت شركة خدمات منزلية كل هذا المبلغ في سبيل هذه الصفقة.
لكن إذا ما كان من المحزن والمؤسف تحلق الجمهور حول أفلام «السوبر هيروز» كسبيل وحيد لمعايشة فانتازيات تمنحها المؤثرات البصرية والخدع السينمائية كل ما تحتاجه من قدرة على الهيمنة، فإنّ المؤسف كذلك أن تنامي قدرات الشركات المستحدثة في العقدين السابقين في سوق الإنتاج والعروض يضع هوليوود (والصناعة عموماً) في خطر الانزلاق إلى التحوّل إلى جزء من ممتلكات تلك المؤسسات الضخمة التي لن تكترث لتنويع الإنتاجات ولا إلى منح صانعي السينما تحقيق أي بديل يختلف عن السائد الحالي.
تاريخ عريق
مثل شركات هوليوود الكلاسيكية الأخرى، تأسست «مترو غولدوين ماير» (إم جي إم اختصاراً) في عشرينات القرن الماضي. ففي سنة 1924 اتفق مالكو ثلاث شركات صغيرة، هي مترو (لصاحبها ماركوس لاو)، وغولدوين (أسسها صامويل غولدوين سنة 1916)، وشركة ماير (أسسها لويس ب. ماير سنة 1918)، على تأسيس الشركة الجديدة التي انضمت، آنذاك.
انضمت «م ج م» إلى ما كان تأسس من ستوديوهات كبيرة حينها: يونيفرسال (من 1912)، باراماونت (1912)، وورنر برذرز (1923)، ديزني (1923)، كولمبيا (1924)، تونتييث سنتشري فوكس (1935). هذه كانت أعمدة هوليوود السبعة التي صنعت عالماً خيالياً كبيراً موازياً للعالم (الحقيقي) الذي نعيشه.
كان هناك بالطبع شركات نشطة أخرى (RKO، United Artists، Rpublic... إلخ) لكن هذه إما توقفت أو انضمت إلى إحدى الشركات الكبيرة (كما حال يونايتد آرتستس التي تأسست سنة 1919 واشترتها م.ج.م. سنة 1981).
في الثمانينات من القرن الماضي بدأ الخلط الكبير. على سبيل المثال، بيعت «مترو - غولدوين - ماير»، وأُعيدت بعدها لمالكيها الأصليين لفترة، من ثمّ بيعت ثانية وتفككت وجُمعت مجدداً عدة مرّات. لكن التحوّلات الأكبر والأهم بدأت في العقدين الماضيين: مؤسسة تايم اشترت وورنر. مؤسسة كومكاست اشترت يونيفرسال. كولمبيا (وشريكتها تراي ستار) باتت من ممتلكات صوني اليابانية. و- قبل نحو عامين - اشترت ديزني «تونتييث سنتشري فوكس» وضمّتها إلى ما سبق واستحوذته من شركات مثل ميراماكس (قبل انفصالها) ولوكاس فيلم وشركة الرسوم المتحركة بيكسار). امتلاك أمازون لشركة م.ج.م. هو آخر الصفقات ولكن قد لا يكون أخيرها.
قبل إتمام هذه الصفقة بنحو أسبوع واحد تم مزج شركتين من فضائيات الصناعة المتلفزة والمنزلية هما HBO Max وDiscovery Studios في غمار مؤسسة واحدة. الأولى لديها عقد مبرم مع شركة وورنر يتيح لها البدء بعرض أي فيلم ناجح للشركة السينمائية على قنواتها (مدفوعة الاشتراك) بعد شهر واحد من بدء عروضه السينمائية.
وضع المنصّات الكبيرة
هذا ما يدلف بنا إلى وضع المنصّات الكبيرة التي تعيش على الاشتراكات السنوية. الشارون هم الجمهور الذي يفضل، غالباً، البقاء في منزله في مثل هذه الظروف (آخرها ارتفاع سعر البنزين في الولايات المتحدة وأوروبا) لمشاهدة الجديد. في المقابل تنتج وتبث تلك المنصّات الأفلام التي تعتقد أنّها الأكثر شيوعاً وطلباً من قِبل الجمهور السائد، تماماً كالشركات الكلاسيكية.
وكتلك الشركات، فإنّ إنتاج المميّز والمختلف عن السائد ليس في بؤرة الاهتمام الأول بالنسبة لمعظم هذه المنصّات. لكن الفارق أن شركات هوليوود التقليدية ما زالت تنتج عدداً لا بأس به من تلك الأفلام المنحازة للفن والمضمون وإن تدرك بأن نجاحاتها لن تكون مادية بل معنوية. هناك خمس منصّات اشتراك منزلية كبيرة تتنافس بحدة على المساحة الواسعة من المشاهدين حول العالم.
في المقدّمة، تبعاً لنجاحها، شركة «نتفليكس» التي ما زالت تحظى بأكبر حجم من المشتركين (221 مليون و800 ألف مشترك). معظم المشتركين من أنحاء العالم وفي الربع الأخير من العام الماضي سجلت «نتفليكس» حجماً أكبر من المعتاد من المشتركين في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحيث احتلت هذه المنطقة الرقم الأول من المشتركين في تلك الفترة حول العالم لذلك الربع النهائي من العام.
تلي «أمازون» «نتفليكس» نجاحاً، لكن «أمازون» لا تعلن عن تفاصيل أرقامها أو توفر إحصائيات وافية عما تحققه أفلامها من نجاح. المعلن هو أنّها تملك 200 مليون مشترك، لكن من المحتمل جداً أن يكون هذا العدد حاوياً مشتركين لشبكة «أمازون» من وسائط مختلفة كسوق البيع للمنازل والاشتراكات الخاصة بالمعلومات وعروض «يوتيوب» (ابتاعتها أمازون منذ أكثر من سنة) وما إلى ذلك.
تأتي Disney Plus في المركز الثالث بعدد مشتركيها- مشاهديها (نحو 130 مليون). حسب المعلومات المتوفرة فإن نسبة 45.9 في المائة من المشتركين من الهند و42.9 في المائة من الولايات المتحدة وكندا و41.1 مليون من الدول الأخرى حول العالم. الشركة الرابعة نسبة لحجم الاشتراكات (وبالتالي النجاح) هي HBO Max التي يصل عدد مشتركيها حول العالم إلى قرابة 74 مليون مشترك (تحديداً 73.8 مليون).
أما الخامسة فهي Paramount Plus التي رغم أن حصتها لم تزد، في العام الماضي، عن 56 مليون مشترك، إلا أنّها تتوقع نموّاً مضاعفاً خلال هذا العام. خطتها الحالية لهذا العام هو أن تتجاوز 100 مليون مشترك حول العالم.
أضعف تلك الشركات هي Apple TV+ التي (رغم نجاحاتها في صناعات أخرى، أهمها الحواسيب الإلكترونية الشهيرة) فإنّ عدد مشتركيها من هواة الأفلام لا يزيد عن 20 مليون مشاهد معظمهم من مواطني الولايات المتحدة وكندا.
والحال هذه، فإنّ المتوقع خلال الأشهر القريبة المقبلة نوعان من التنافس في هوليوود. الأول بين منصّات الإنترنت الإلكترونية لقضم حصص أكبر من المشتركين، والثانية بين هذه الشركات مجتمعة وشركات الهيكل القديم أو ما سيكون قادراً منها على المقاومة والاستمرار. في وسط هذا التنافس يجب ألا ننسى شركات صالات السينما التي ستقف بجانب شكل الصناعة القديم بكل ما تقدر عليه من بذل، أو كما قال أحد مسؤولي شركة AMC الأميركية: «تصوّر لو أن صالات السينما أغلقت أبوابها قريباً. سيكون بداية عالم مختلف ونهاية أكثر من 100 سنة من تقاليد الحياة الأميركية».