باشرت صالات السينما حول العالم عرض فيلم «العرّاب» لمخرجه فرنسيس فورد كوبولا بمناسبة مرور نصف قرن على إنتاجه. الواقع هو أن عرض هذا الفيلم الملحمي لم يتوقف منذ تاريخ العرض الأول في مدينة نيويورك في 14 مارس (آذار) سنة 1972. عرضته صالات بريطانيا سنة 2009 وافترش شاشات فرنسا سنة 1998، ثم سنة 2004 واحتفت به صالات تشيلي والمكسيك في العام 2013.
الفارق هو أن النسخة الجديدة مرممة بمهارة وبمعرفة المخرج ذاته، وتنطلق كما لو إن الفيلم تم إنتاجه في السنة التي نحن فيها.
الصدام الكبير
لم يكن «العرّاب» فيلم غانغسترز عادياً، ولا حتى فيلم مافيا تقليدياً. كان القمّة بين أفلام العصابات، وبقي كذلك منذ ذلك الحين ولا يزال حتى اليوم. ليس أن هوليوود لم تفتح دفاتر «شيكاتها» للصرف على أفلام من المنوال ذاته («مات الدون»، «أوراق فالاتشي»، إلخ...) لكن لم يوازِ أي من تلك الأفلام الموهبة الفريدة لمخرج «العرّاب» ولا طموحاته الكبيرة. لم تتضمّن الشيء الأساسي الذي شارك في تمييز هذا الفيلم عن سواه، وهو المعالجة الملحمية لتاريخ شاسع من حياة الجاليات التي توافدت، منذ مطلع القرن، من إيطاليا (ومن صقلية على الأخص) وانتقالها للعمل المافياوي بنشاط في داخل التركيبة الأميركية.
فرنسيس فورد كوبولا بعد 50 سنة
الفيلم الوحيد الذي جاور «العرّاب» في مكانته وطموحه هو «العرّاب2» بعد عامين. حتى سيرجيو ليوني الذي أنجز «ذات مرّة في أميركا» سنة 1984 لم يعرض الوضع ذاته بالموصفات الفنية والضمنية نفسها. فيلمه ملحمي لكن اهتماماته انصبّت في أطر أضيق ولو على نحو إنتاجي كبير.
في «العرّاب» ذخيرة فنية لا يُملّ من تكرار إبداعاتها. حكايته، في الوقت ذاته، من الشمولية بحيث ما زال الفيلم للآن أهم ما تم تسجيله على شريط حول الصدام الكبير بين مفاهيم العائلات الصقلية والحلم الأميركي الكبير. بين نظامين، واحد يرى أميركا بلد العالم بأسره ويؤكد حبّه لها، وآخر يستغلّه لمزاولة الممارسات العنيفة والخارجة عن القانون التي نقلها معه من صقلية.
في تأسيس مدروس بكل تفصيلة فنية ممكنة (من حجم اللقطة إلى حركة الكاميرا، ومن الإضاءة إلى كل كلمة ترد ومن مضمون المشهد إلى كل ما يصنع أجواءه المنشودة) يبدأ «العرّاب» بإيطالي اسمه بوناسيرا (سلڤاتوري كورسيتّو) وهو يقول «أنا مؤمن بأميركا». بوناسيرا يتلمّس من ڤيتو كاروليوني (مارلون براندو) أن يقتنص له من رجلين تعرّضا لابنته بالضرب عندما قاومت محاولتهما لاغتصابها. لقد توجّه إلى القضاء كما يتوجب على أي أميركي يؤمن بأميركا ليكتشف أن القضاء قد يرتشي؛ إذ أطلق سراح الفاعلَيْن. الآن هو في حضرة الدون كاروليوني (في يوم عرس ابنته) لينتقم له. طريقة الالتماس التي تتضمّن محاولة رشوة الدون لكي يقوم بما عجز القضاء القيام به، تزعج الدون فيرد عليه «ما الذي فعلته معك لتهينني على هذا النحو؟»، لكنه يوافق بعد اعتذار بوناسيرا الذي لا يمكن للمشاهد إلا وعذره وتفهّم حاجته.
لكن ما الذي حدث لإيمان بوناسيرا بأميركا؟ حسب التقاليد الصقلية (وفي غيرها من البلاد) فإن الزعيم هو من تلجأ إليه أوّلاً. هو - حال اللجوء إليه - يمارس ما يُعتبر مسؤوليته حيال رعيّته. هذا في الجنوب الإيطالي وكل من في «العرّاب» هم من ذلك الجنوب. ضمن المنظومة أن الأب هو المسؤول عن سلامة ابنته وشرفها. حال زواج ابنته تنتقل المسؤولية إلى الزوج.
رأس الفرس
دون كارليوني نفسه خاضع لعملية الانتقال. ابنته تتزوّج. الاحتفال قائم في حديقة المنزل. المدعوّون يأكلون ويشربون ويرقصون وهو سيودّع بعد قليل ابنته التي ستخرج من تحت جناحيه لتحت جناحي رجل اختارته زوجاً.
امتثال كارليوني لطلب بوناسيرا لا يعني خرقاً للمعتاد. ببساطة، يصدر أمره بتنفيذ رغبة بوناسيرا. العدالة الأميركية (التي أخفقت في منح بوناسيرا ما أراده منها) يمكن أن تنتظر تحقيق عائلة كارليوني تلك العدالة الغائبة. نظامان يتواجهان تحت مظلة الحياة الأميركية ذاتها. لكنهما لا يتواجهان فقط، بل يتعاونان أيضاً. النظام الأميركي يتجاهل وجود النظام المافياوي للدون، وهذا يؤمّن استمرار السُلطة العليا لذلك النظام عبر شراء ذمم بعض السياسيين. لذلك؛ من قال إن الفيلم تمجيد للمافيا أغفل الكثير من المعطيات المهمّة في هذا الشأن.
بتفهم وافٍ لهذا التوازن الدقيق، يعارض كارليوني العائلات المافياوية الأربع الأخرى (كل منها يحكم منطقة مختلفة) التي تطلب منه، في فصل لاحق من الفيلم، الموافقة على طلب سولوتزو (آل ليتيريللي) قيام كارليوني بتوفير الحماية له؛ إذ قرر أن يضم إلى أعماله تجارة الهيرويين. ليس فقط الحماية، بل فتح دفتر اتصالاته وتعريف سولوتزو بهم، وبذلك يتشارك وكارليوني فوائد دعم الحاشية السياسية.
هناك دافع أخلاقي لدى الدون لرفض هذا الطلب، لكن الدافع السياسي أعلى؛ فهو إذا ما وافق على طلب سولوتزو سيؤلّب عليه حتى السياسيين الذين يتعامل معهم ويفقد، بالتالي، دعمهم. لكنه برفضه يضع العائلات الأربع الأخرى في صف سولوتزو وما سيلي من فصول يبرهن على أن هذا الأخير، مستفيداً من علاقاته مع العائلات الأخرى، سيعمد إلى العنف ليحقق رغبته.
لكن العنف مستشرٍ حتى من قبل ذلك المشهد. في ليلة العرس ذاتها (قبل انتقال الأحداث إلى مواقع أخرى) يتقدم المغني والممثل جوني فونتين (آل مارتينو) بشكواه: كان توخى بطولة فيلم يجد فيه فرصته الأفضل للنجاح لكن منتج الفيلم جاك وولتز (جون مارلي) ينزع عنه البطولة. يريد جوني من كارليوني استخدام سطوته لإقناع جاك بإعطائه تلك الفرصة.
ينتدب كارليوني المحامي توم هاغن (روبرت دوڤال) للمهمّة. توم هو الوحيد غير الإيطالي المقرّب جداً من الدون. يعامله كواحد من أولاده. يتوجه توم صوب مزرعة ومنزل جاك ليساومه. هذا يقابله بأسلوب حضاري لائق، لكنه يرفض الانصياع لطلب توم ومن وراءه. «دون كارليوني لن يقبل عدم الاستجابة لطلبه»، يقول هاغن. لكن وولتز لا يكترث. التالي ذلك المشهد الذي يستيقظ فيه المنتج من النوم منزعجاً. يدس يده تحت اللحاف ويسحبها فيرى دماً عليها. يكشف اللحاف ليجد رأس فرسه الأقرب إليه ملقى بجانبه.
لا أهمية لكيف تمكّن أحد (ليس توم، بل من استأجرهم) من دخول المنزل ووضع رأس الحصان في الفراش من دون إيقاظ المنتج الذي يطلق صرخة خوف مرعبة. المهم هو ذلك التصوير الرائع (من غوردون ويليس) والتوليف الصحيح (للمخضرم ويليام رينولدز) وحرص كوبولا على إيفاء المشهد عنصر المفاجأة وتأكيد المفاد بأن عائلة كارليوني تستطيع استخدام العنف كوسيلة، من بعد اعتماد الحوار.
مظلّة لنظامين
بعد هذه الفصول الباب مفتوح لعالم على العنف كوسيلة وحيدة لفرض الرغبات: مشهد خنق لوكا برازي (لَني مونتانا) بعد طعنه في يده من قِبل سولوتزو يتبعه مشهد محاولة اغتيال دون كارليوني نفسه، ثم مشهد انتقام ابنه الأصغر مايكل (آل باتشينو) من سولوتزو وضابط البوليسي ماكلوسكي (ستيرلنغ هايدن) ثم انتقام العصابة المناوئة من ابن كاروليوني الآن صوني (جيمس كان) بنصب كمين له عند نقطة مرور. هذا الكمين هو جزء من كمين أكبر تم استخدام فيه ثورة صوني على زوج أخته الذي يتعرّض لها بالضرب. يعاقب الزوج ضرباً، لكن في طريق عودته يزرع قتلة مأجورون جسده برصاصاتهم.
في كل ذلك استعراض لعالم من العنف وأسبابه تحت مظلّة نظام يراه المخرج والكاتب ماريو بوزو أشبه بمأوى لكل فساد باق طالما أن النظام يستفيد من وجوده. لا ريب أن العامل الشخصي يلعب دوره بمنأى عن هذه العلاقة بين المافيا وأميركا، لكن ما نراه من مشاهد متوالية يندمج كاملاً تحت هذه المظلة. سيعود كوبولا والروائي بوزو إلى السياسة الخارجية الموسومة بالتآمر والعلاقات الخفية بينها وبين فساد العصابات في الجزء الثاني بعد عامين من هذا الفيلم.
آل باتشينو ودايان كيتون في «العرّاب»
تكملة لكل ما سبق يختار كوبولا فصل النهاية بعناية نموذجية: مايكل يحضر تعميد طفل شقيقته في الكنيسة بينما رجاله (أبرزهم البدين كليمانزا، كما أدّاه رتشارد س. كاستيلانو) وبإيعاز من مايكل يجهزون على باقي أعداء العائلة كل في موقع مختلف وبينهم بارزيني (رتشارد كونتي) الذي كان من أبرز مؤيدي سولوتزو. هنا ربط بين التقاليد الدينية بالعنف الدنيوي. الأول لا يمنع الثاني.
في وسط كل هذا، لا تغيب العلاقة بين أميركا ذات الجذور الصقلية وأميركا البيضاء الأخرى. في الأساس، وبينما كان شقيقا مايكل (صوني وفريدو، كما أداه جون كازال) يعملان مع والدهما عن كثب، كان من المفترض لمايكل دخول السلك السياسي ليصبح حاكم ولاية. هذا بعد خدمته في الجيش. إنه الحصان الأبيض وسط ذويه. آخر من يراه أفراد العائلة أهل للتحوّل إلى زعيم. إلى ذلك هو متزوّج من امرأة أميركية غير إيطالية الأصل (دايان كيتون) ومؤهل لسبر غور حياة مختلفة. لكن لا مهرب من الانخراط في عصب العائلة. كل ذلك تحوّل، بعد النجاح الجماهيري الكبير للفيلم، إلى تمهيد للجزء الثاني الذي يؤرخ للدون الكبير (كما يؤديه روبرت دينيرو) ويواصل فيه رحلة مايكل بعدما تحوّل إلى آلة مفترسة تواصل انتقامها من أعداء «العرّاب» وعائلته. أما كوبولا فقد أسس هنا صرحه الذي اعتلى به لا أبناء جيله من المخرجين فحسب، بل القمّة بين مخرجي هوليوود من قديم الأزل. وعندما حان الوقت للابتعاد قليلاً عن الحكاية المافياوية (قبل أن يعود إليها في جزء ثالث) اختار الإيحاء بفساد السياسة واللجوء إلى العنف معاً في تحفته «القيامة الآن».