الطعم الحامض مذاق «ضائع» من رواسب المذاقات المنسية

الطعم الحامض مذاق «ضائع» من رواسب المذاقات المنسية
TT

الطعم الحامض مذاق «ضائع» من رواسب المذاقات المنسية

الطعم الحامض مذاق «ضائع» من رواسب المذاقات المنسية

عندما يفكر الباحثون بالفئات الخمس الأساسية للتذوق - الحلو، والمالح، والحامض، والمر، والأومامي - فإنهم يختلفون قليلاً حول الأكثر غموضاً بينها.
تشتهي المخلوقات الحية الحلويات للحصول على السكر والسعرات الحرارية، بينما تغذي شهوة الأومامي كثيراً من الحيوانات بالبروتينات. وينطوي الملح على أهمية كبيرة للأجسام للحفاظ على توازن السوائل ونشاط الخلايا العصبية، بينما تساعد الحساسية للمذاق المر في الحماية من حالات التسمم.
مذاق عريق القدم
ولكن ماذا عن المذاق الحامض؟ يعد الأخير إشارة غريبة غير مرتبطة لا بالتسمم ولا بالتغذية، بل بالمؤشر التقريبي للأس الهيدروجيني المنخفض (pH- درجة الحموضة) ووجود الأحماض - حمض الستريك في الليمون وحمض الأسيتيك في الخل وغيرها.
تعتبر آن ماري توريغروسا، الباحثة المتخصصة في المذاق بجامعة بوفالو، أننا «لا نحتاج المذاق الحامض لنعيش»، و«أنه لمن الغريب أن نحتاج لهذا المذاق». في المقابل، يرى روب دان، عالم البيئة في جامعة ولاية شمال كاليفورنيا، أن «الحامض مذاق ضائع»، وأنه «من رواسب المذاقات المنسية... لا أحد يعلم ما (المذاق الحامض) بالتحديد»، على حد وصف دان.
ولكن على الرغم من كل ما ذُكر، ما زلنا نشعر بقوة بالمذاق الحامض ولسنا وحدنا في ذلك. فبعد مبادرة دان وزملائه أخيراً إلى التحقيق في الجذور التطورية لهذه الحاسة، صرحوا بأنهم لم يجدوا نوعاً حياً واحداً من الفقريات خسر قدرته على تذوق الأطعمة الحامضة، لا الطيور ولا الثدييات ولا البرمائيات ولا الزواحف ولا حتى الأسماك. ويقر الجميع بأن السبب في هذا الأمر يعود لقلة أنواع الحيوانات التي درسها الباحثون - بضع عشرات منها فقط - ولكن تبقى الخلاصة الأهم أن المذاق الحامض نجح في إثبات نفسه.
وبينما خسرت القطط وثعالب الماء والضباع وغيرها من آكلات اللحوم القدرة على الشعور بالمذاق الحلو، وفيما يملك دب الباندا العملاق مناعة قوية ضد مذاق الأومامي، وخسرت الدلافين التي تبتلع فرائسها قطعة واحدة، حساسيتها للمذاقين الحلو والمر... فإن مذاق الحموضة كما يبدو حافظ على قوة فقدها أقرباؤه - من المذاقات - ما يرجح تمتعه بدورٍ قوي وتاريخي ربما.
لغز الطعم الحامض
ولكن هذا الدور أو الشيء الذي يقوم به لا يزال لغزاً ولعله يتفرع إلى أشياء مختلفة بحسب النوع الحي. يعتقد دان أن جزءاً من هذه القصة يبدأ مع الأسماك - النوع الفقري الأقدم وقدراته الخارقة في تذوق الحامض التي قيمها العلماء وأكدوا وجودها. تملك الأسماك براعم للتذوق في أفواهها، كما البشر، ولكنها تمتد لديها لتغطي كامل جسدها (يمكن تشبيهها بلسانٍ كبيرٍ). وتستطيع بعض مجسات استشعار الحمض لدسها، مساعدة هذه الأحياء على الأرجح في الملاحة داخل وخارج المياه التي تحتوي على نسب كبيرة أو منخفضة من ثاني أكسيد الكربون، للمحافظة على التوازن الكيميائي لسوائل أجسامها.
عندما بدأ أجداد الأنواع الحية التي تعيش اليوم على الأرض بالزحف البطيء إلى اليابسة، حافظت حاسة تذوق الحامض على استمراريتها لديها - وتوسعت بسرعة لتشمل التفرعات المختلفة من النوع نفسه. تتمتع الأطعمة الحمضية اليوم بشعبية متوسطة، أي أنها ليست مرغوبة كثيراً ولا مكروهة كثيراً.
ينجح كثير من الأنواع الحية عالية التطور (مثل القرود المتطورة)، وكذلك البشر، في رصد المذاق الحامض، وكذلك تفعل الجرذان والخنازير - حتى تركيزٍ معين على الأقل يُعرف بـ«نقطة الهناء»، أي الدرجة التي تسبق تحول الطعم إلى مقرف. يحذر دان مثلاً من «إعطاء حبة طماطم لخروف» ويؤكد ضرورة «عدم إعطائه حبة ليمون». (لم يجرب دان الأمر ولكنه وزملاءه اطلعوا على دراسة أجريت عام 1970، جاء في نتائجها أن الخرفان تجد في الأطعمة الحامضة مذاقاً سيئاً للغاية).
لم يتضح بعد سبب نفور بعض الأنواع الحية من المذاق الحامض، ولكن العلماء يطرحون أكثر من تخمين. لعل الحيوانات التي أُثبِت كرهها للطعم - كالأحصنة والخفافيش الماصة للدماء والأرانب وعفريت الماء وغيرها - تعده إشارةً على عدم نضوج طعامها، أو على فساده ما يجعله غير صالح للأكل. قد يؤدي الحمض عند تطرف مستواه في الجسم إلى قضم الأنسجة أو تآكل مينا الأسنان، وقد يعبث بكيمياء الجسم ويربك ميكروبات الأمعاء الهشة.
من جهتها، اعتبرت هانا فرانك، باحثة في مجال المحاصيل الزراعية وعلوم التربة بجامعة ولاية كارولينا الشمالية التي تعمل مع دان في بحثه لتفكيك الماضي التطوري للمذاق الحامض، أن «كثيراً من التفسيرات المرتبطة بالأحماض تركز على المساوئ، لكنها لا تزال غير مثبتة». أما دان، فقد اعتبر أن البحث عن سبب التطور وإثباته يشكل كابوساً علمياً، خصوصاً أن التاريخ ليس حافلاً بدراسات لحالة «الخروف الذي توفي لأنه أكثر من تناول الليمون».
ولكن على عكس الخراف، نُعد نحن البشر كنوع حي من أشد معجبي المذاق الحامض، والأمر نفسه ينطبق على أنواع عدة من الأحياء العليا في التطور - كالشمبانزي والأورانغوتان والغوريلا والمكاك والجبون... لأن الحمض يفعل شيئاً جيداً على ما يبدو.
فوائد غنية
يفتش الباحثون منذ سنوات عن سببٍ مقنع لهذا الأمر، ويعتقدون أن المذاق الحامض قد يكون مؤشراً على غنى الطعام بفيتامين سي، وهز العنصر الغذائي الذي خسر أجدادنا ميزة إنتاجه منذ نحو 60 أو 70 مليون عام. ومن هنا، يمكن القول إن الشهية المفتوحة على الأطعمة الحامضة قد تكون ساعدتنا في تجنب ويلات داء الإسقربوط.
تبقى علاقة الكائنات الحية مع الحمضية فوضوية حتى في أبسط الروايات. إذ يمكن للفواكه الحامضة، التي تعد أحياناً وجبة خفيفة ممتازة، أن تكون بعيدة جداً عن النضوج. تعتبر كايتي أماتو، عالمة الأنتروبولوجيا الحيوية من جامعة نورث وسترن المشاركة في بحث دان، أن الحل قد يكمن في شراكة المذاق الحامض مع بعض الحلاوة. تعطي الأطعمة شديدة الحموضة وشديدة الحلاوة مكسباً إضافياً يتمثل بمجموعة كبيرة من الميكروبات الحميدة التي تستوطن الأمعاء وتفكك الكربوهيدرات.
تُعرف هذه العملية باسم التخمير وتنتج مذاقاً حاداً، فضلاً عن أنها تبقي الميكروبات المضرة خارج الجسم وتسحق ألياف النباتات التي يعاني جسمنا من صعوبة في هضمها وحده. يميل البشر، أو بعض منهم، إلى تفضيل أنواع من الأطعمة عالية الحموضة كاللبن الزبادي. هنا، ترى أماتو في الحموضة مؤشراً على التأثير المذهل الذي يتمتع به التخمير، «الأمر الذي تجب مقابلته باختيار النوع الصحيح من الفواكه الناضجة».
ولكن لا بد من الاعتراف بأن دراسات تفضيل المذاق بين الأنواع الحية غير البشرية ليست مهمة سهلة أبداً، إذ تعتمد إحدى أبسط التجارب على تخيير الحيوان بين المياه العادية والمياه المنكهة - بطعم حلو، أو مالح، أو مر أو أومامي، أو حامض - لتحديد السائل الأكثر جذباً للمخلوق.
من جهته، أشار هيرو ماتسونامي، عالم أحياء في الكيمياء الحسية في جامعة ديوك، إلى عنصرٍ أكثر تعقيداً وهو أن الانتشار الواضح لرصد المذاق الحامض بين الفقريات قد لا يعود بالضرورة للطعم، لأن المستقبلات الكيميائية نفسها التي نستخدمها لتصفير الحموضة في أفواهنا تؤدي على ما يبدو مهام أخرى في الجسم قد تكون مهمة جداً، ما يرجح أن يكون هذا الضغط التطوري وحده السبب في استمرار تذوق الحامض طوال هذا الوقت.
* «ذا أتلانتك»
- خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي

علوم 5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي

5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي

يشكل كتاب «خدعة الذكاء الاصطناعي The AI Con» محاولة لاستكشاف الضجة المثارة حول تقنيات الذكاء الاصطناعي، والمصالح التي تخدمها، والأضرار التي تقع تحت هذه المظلة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص «سيسكو»: الذكاء الاصطناعي لم يعد مستقبلاً بل أصبح واقعاً يتطلب بنية تحتية جديدة وشاملة (سيسكو)

خاص «سيسكو» ترسم ملامح عصر الذكاء الاصطناعي... والسعودية في قلب استراتيجيتها

«سيسكو» تطلق خلال مؤتمرها السنوي رؤية شاملة لعصر الذكاء الاصطناعي، واضعةً السعودية في قلب استراتيجيتها من خلال شراكات وبنية تحتية وتنمية المواهب.

نسيم رمضان (سان دييغو - الولايات المتحدة)
عالم الاعمال «بريبكو مِنت» تُطلق ثاني عقار مُرمّز في دبي

«بريبكو مِنت» تُطلق ثاني عقار مُرمّز في دبي

أعلنت «بريبكو مِنت» إطلاق ثاني عقار مُرمّز لها، الذي سيتم طرحه في 11 يونيو (حزيران) الحالي.

تكنولوجيا «أبل» تكشف عن iOS 26 بتحديث شامل يعيد تصميم الواجهة ويعزز الذكاء الاصطناعي مع ميزات جديدة للمكالمات والرسائل والموسيقى وتطبيقات السفر (أبل)

«أبل» تكشف عن iOS 26 بتصميم جديد وذكاء اصطناعي يغيّر قواعد الاستخدام

كشفت «أبل» عن تحديثها الكبير iOS 26 التجريبي الأول خلال مؤتمر WWDC 2025 مؤتمر المطورين العالمي، الذي يُعد واحداً من أكثر التحديثات طموحاً في تاريخ الآيفون …

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
تكنولوجيا تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل (رويترز)

«أبل» تطلق تطويراً ثورياً في أنظمة التشغيل مع توسع في الذكاء الاصطناعي

كشفت شركة أبل عن مجموعة واسعة من التحديثات الثورية لأنظمة التشغيل الخاصة بأجهزتها المختلفة.

مساعد الزياني (كوبيرتينو)

5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي

5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي
TT

5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي

5 أفكار رئيسية في فقاعة الضجة الكبرى للذكاء الاصطناعي

يشكل كتاب «خدعة الذكاء الاصطناعي The AI Con» محاولة لاستكشاف الضجة المثارة حول تقنيات الذكاء الاصطناعي، والمصالح التي تخدمها، والأضرار التي تقع تحت هذه المظلة. ومع كل ذلك، تبقى هناك خيارات متاحة أمام المجتمع لمقاومة هذه الضجة، وما زال هناك أمل في أن نتحد معاً لمواجهة تغوّل شركات التكنولوجيا، ومنعها من رهن مستقبل البشرية.

«خدعة الذكاء الاصطناعي»

وفيما يلي تتشارك المؤلفتان إميلي بيندر (أستاذة في علم اللغة، مديرة برنامج الماجستير في اللغويات الحاسوبية بجامعة واشنطن)، وأليكس هنا (مديرة الأبحاث في معهد البحوث الموزعة للذكاء الاصطناعي، ومحاضرة في كلية المعلومات بجامعة كاليفورنيا في بيركلي) مع القراء بخمسة أفكار رئيسية من كتابهما الجديد «خدعة الذكاء الاصطناعي: كيف نحارب تضليل شركات التكنولوجيا الكبرى ونصنع المستقبل الذي نريده؟ ?The AI Con: How to Fight Big Tech’s Hype and Create the Future We Want».

01-> التكنولوجيا التي تحرِّك موجة الضجة الحالية حول الذكاء الاصطناعي ما هي إلا خدعة استعراضية: تبدو روبوتات الدردشة مثل «تشات جي بي تي»، تكنولوجيا مذهلة، لكن ليس بالضرورة بالطريقة التي نتصورها.

في الواقع، لا تستطيع هذه الأنظمة الاضطلاع بمجموعة الوظائف التي تزعم أنها قادرة عليها، وإنما جرى تصميمها لتبهرنا. ويكمن جوهر الخدعة في الطريقة التي يستخدم بها البشر اللغة. قد نعتقد أن فهم الكلمات مجرد فك رموز بسيطة، لكن الحقيقة أن العملية أشد تعقيداً بكثير، وتحمل في جوهرها طابعاً اجتماعياً عميقاً.

نحن نفسر اللغة عبر الاعتماد على كل ما نعرفه (أو نفترضه) عن الشخص الذي نطق الكلمات، وعلى الأرضية المشتركة بيننا وبينه، ثم نبدأ في استخلاص نيّات المتكلم. ونتولى إنجاز هذا الأمر على نحو تلقائي. لذا، عندما نصادف نصاً أنتجته أنظمة ذكية، فإننا نتعامل معه كما لو أن هناك عقلاً بشرياً خلَّفه، رغم عدم وجود عقل هناك أصلاً.

بمعنى آخر، فإن المهارات اللغوية والاجتماعية التي نُسقطها على النص المُنتَج من الذكاء الاصطناعي، تجعل من السهل على مروِّجي هذه التقنيات خداعنا لنعتقد أن برامج الدردشة كيانات عاقلة.

02- > الذكاء الاصطناعي لن يستحوذ على وظيفتك، لكنه سيجعلها أسوأ بكثير: في الغالب، تسعى تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى إخراج الإنسان من معادلة العمل.

وهنا يبرز إضراب نقابة «كتّاب أميركا» عام 2023 مثالاً على ذلك، مع إعلان كتّاب السيناريو في هوليوود الإضراب عن العمل للمطالبة بعدة أمور، منها رفع أجورهم من شركات البث. إلا أن خلف هذه المطالب، كان هناك كذلك قلق عميق إزاء الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في كتابة السيناريوهات، مما يهدد جودة العمل، ويجعل بيئة العمل أكثر ضغطاً وأقل احتراماً للمهارات البشرية.

كما أراد الكتّاب التأكد من أنهم لن يُجبروا على لعب دور مربّي الأطفال لأنظمة الدردشة الإلكترونية، التي يُكلفها المنتجون بكتابة سيناريوهات مبنية على أفكار ساذجة أو غير ناضجة مستوحاة من صناع السينما والتلفزيون.

في هذا الصدد، أشار جون لوبيز، عضو فريق العمل المعنيّ بالذكاء الاصطناعي داخل «نقابة الكتّاب»، إلى إمكانية حصول الكتّاب على أجر التعديلات فقط، عند تعاملهم مع محتوى ناتج عن الذكاء الاصطناعي، وهو أجر أقل بكثير من أجر كتابة سيناريو أصلي.

لقد رأينا بالفعل كيف أدّت أدوات توليد الصور والنصوص، إلى تقليص كبير في فرص العمل أمام مصممي الغرافيك، وفناني ألعاب الفيديو، والصحافيين. ولا يرجع ذلك إلى قدرة هذه الأدوات فعلاً على أداء مهام هؤلاء المحترفين بجودة عالية، بل لأنها تُنتج نتائج مقبولة بدرجة كافية لتقليص المهن، وإعادة توظيف العاملين مقابل أجور زهيدة، فقط ليقوموا بإصلاح مخرجات الذكاء الاصطناعي الرديئة.

وفوق ذلك، كثيراً ما تكون الأنظمة التي تُوصف بأنها «ذكاء اصطناعي» مجرد واجهات براقة تُخفي وراءها الاستراتيجية القديمة التي تعتمدها الشركات الكبرى، والمتمثلة في نقل وتحويل العمل إلى الأيدي العاملة في دول الجنوب العالمي.

وهؤلاء العمال -الذين غالباً ما يجري تجاهلهم- هم من يتولون مراجعة المحتوى عبر الإنترنت، واختبار أنظمة الدردشة للكشف عن المخرجات السامة، بل يقودون أحياناً المركبات التي يجري التسويق لها بوصفها ذاتية القيادة، عن بُعد.

ومع ذلك، يبقى هناك جانب مشرق يتمثل في نجاح بعض هؤلاء العمال من مقاومة هذا الاستغلال، سواء من خلال النشاط النقابي، أو من خلال ما يشبه التخريب الصناعي، مثل أدوات «نايتشيد» و«غليز» التي يستخدمها الفنانون لحماية أعمالهم من أن يجري استغلالها في تدريب نماذج توليد الصور، أو عبر التوعية السياسية.

إبعاد الناس عن تقديم الخدمات الاجتماعية

03- > الهدف من خدعة الذكاء الاصطناعي هو فصل الناس عن الخدمات الاجتماعية: نظراً لأننا نستخدم اللغة في كل مجالات النشاط البشري تقريباً، ولأن النص الاصطناعي الناتج عن هذه الأنظمة يمكن تدريبه على محاكاة اللغة، قد يبدو الأمر كأننا على وشك الحصول على تكنولوجيا قادرة على الاضطلاع بالتشخيص الطبي، وتقديم دروس تعليمية شخصية، واتخاذ قرارات حكيمة في توزيع الخدمات الحكومية، وتقديم استشارات قانونية، وغير ذلك -وكل ذلك مقابل تكلفة الكهرباء فقط (إضافة إلى ما تقرره الشركات المطورة من رسوم)... إلا أنه في كل هذه الحالات، ما يهم ليس مجرد الكلمات، بل التفكير الحقيقي وراءها، والعلاقات الإنسانية التي تساعدنا هذه الكلمات على بنائها والحفاظ عليها.

في الواقع، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تخدم فقط أولئك الذين يريدون تحويل التمويل بعيداً عن الخدمات الاجتماعية، وتبرير سياسات التقشف. وفي الوقت نفسه، فإن أصحاب النفوذ سيحرصون على تلقي الخدمات من بشر حقيقيين، بينما يُفرض على باقي الناس نسخ رديئة من هذه الخدمات عبر أنظمة ذكية محدودة.

جدير بالذكر في هذا الصدد أن رئيس قسم الذكاء الاصطناعي الصحي في شركة «غوغل»، غريغ كورادو، صرّح بأنه لا يريد لنظام «ميد-بالم» Med-PaLM system التابع للشركة أن يكون جزءاً من رحلة الرعاية الصحية لعائلته. ورغم ذلك، فإن هذا لم يمنعه من التفاخر بأن النظام نجح في اجتياز اختبار ترخيص طبي -وهو في الحقيقة لم يفعل. والأهم من ذلك أن تصميم أنظمة تجتاز اختبارات متعددة حول المواقف الطبية، ليس وسيلة فعالة لبناء تكنولوجيا طبية مفيدة.

في هذه المجالات، تبدو الضجة حول الذكاء الاصطناعي أقرب إلى كونها ادعاءات زائفة عن حلول تكنولوجية لمشكلات اجتماعية، تستند -في أفضل الأحوال- إلى تقييمات مشكوك فيها ولا أساس لها من الصحة للأنظمة التي يجري بيعها.

04- > الذكاء الاصطناعي لن يقتلنا جميعاً، لكن التغييرات المناخية قد تفعل: في وقتٍ من الأوقات في «وادي السيليكون» وواشنطن العاصمة، دار تساؤل غريب، لكنه خطير، في أوساط العاملين في مجال التكنولوجيا أو السياسات التقنية: «ما احتمال الهلاك؟»، والمقصود به تقدير احتمالية أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى القضاء على البشرية جمعاء؟

ويقوم هذا النوع من التفكير الكارثي على فكرة تطوير ذكاء عام اصطناعي -أي نظام يمكنه أداء مجموعة واسعة من المهام بقدرة تساوي أو تتفوق على قدرة الإنسان.

الحقيقة أن مفهوم «الذكاء العام الاصطناعي» مبهم وغير محدَّد بدقة، ومع ذلك فإن فكرة الهلاك تحظى بشعبية لدى بعض التقنيين وصناع السياسات. ويرتكز هذا التوجّه على آيديولوجيات مثيرة للقلق، مثل «الإيثار الفعّال effective altruism»، و«الاهتمام بالمستقبل البعيد longtermism»، و«العقلانية rationalism»، وهي كلها تيارات تستند إلى فلسفة النفعية، لكن تأخذها إلى أقصى حدودها، إذ تدعو إلى تقليل أهمية الأذى الحالي بحجة إنقاذ مليارات البشر الذين قد يعيشون في مستقبل غير محدد. وتنبع هذه الآيديولوجيات من أفكار انتقائية وتمييزية في جوهرها ونتائجها.

في الوقت ذاته، نحن على وشك الفشل في تحقيق هدف «اتفاقية باريس»، المتمثل في الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية -والذكاء الاصطناعي يفاقم المشكلة.

تولِّد مراكز البيانات التي تستضيف هذه الأنظمة كميات هائلة من انبعاثات الكربون، والمكونات الإلكترونية المستخدمة في صناعتها تُسرّب مواد كيميائية سامة تدوم إلى الأبد في التربة، والمولدات الاحتياطية التي تُستخدم لدعمها تسهم في زيادة أمراض الجهاز التنفسي، خصوصاً داخل المناطق الأكثر فقراً في الولايات المتحدة وخارجها. وبالتالي، الروبوتات لن تسيطر على العالم، لكن تصنيعها قد يُفاقم أزمة المناخ بشكل خطير.

05- إجبار الإنسان على التنازل عن اختياراته

5. لا شيء من هذا محتوم: أولئك الذين يبيعون أنظمة الذكاء الاصطناعي ويثيرون الضجة حولها يريدون منَّا أن نتنازل طواعيةً عن قدرتنا على الاختيار. يُقال لنا إن الذكاء الاصطناعي -أو حتى الذكاء العام الاصطناعي- أمر لا مفر منه، أو على الأقل إن أدوات مثل «تشات جي بي تي» أصبحت واقعاً دائماً، لكن الحقيقة أنْ لا شيء من هذا محتوم. الحقيقة أننا نملك القدرة على العمل، سواء بشكل جماعي أو فردي.

على المستوى الجماعي، يمكننا الدفع نحو إقرار قوانين تنظم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحمي العمال من أن تُستخدم هذه الأدوات ضدهم. ويمكننا المطالبة بعقود عمل تضمن بقاء السيطرة بأيدي البشر.

وعلى المستوى الفردي، يمكننا ببساطة أن نرفض استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي. يمكننا أن نكون مستهلكين ناقدين لهذه الأتمتة، نتفحص ما الذي تجري أتمتته، وكيف يجري تقييمه، ولماذا.

كما يمكننا أن نكون ناقدين للإعلام التقني، فنبحث عن الصحافة التي تحاسب أصحاب القوة وتكشف عن حقائق ما يجري.

وأخيراً، يمكننا -بل يجب علينا- أن نسخر من هذه الأنظمة باعتبار ذلك وسيلة للمقاومة، بأن نُظهر بشكل مرح وساخر مدى رداءة إنتاج هذه الآلات الصناعية.

*مجلة «فاست كومباني»

خدمات «تريبيون ميديا»