منى واصف «مع الشريان»: عاشقة أقدارها تلتحق بالعظماء

حوار بين صديقين أبعد من السؤال والجواب

TT

منى واصف «مع الشريان»: عاشقة أقدارها تلتحق بالعظماء

يدخل داود الشريان دارة منى واصف حاملاً هدية أعادتها إلى ما قبل المراهقة: أحجار دحل. تتذكر أياماً كانت تفوز فيها بشطارة، وترسم على وجهها المشرق ضحكة كبرياء. تؤهّل وتسهّل بمحاورها في برنامجه الجديد، «مع الشريان» (إم بي سي)، و«لو علمت الأرض بمن زارها، لانكسفت». على جلسة شاي وفاكهة مجففة، يعودان إلى الماضي، يوم كانت صبية جميلة، ترقص وتعرض الأزياء. بدت مرتاحة في اللقاء، يكفي أن يذكّرها الشريان بما فات، حتى تنساب الحكايات.
ينظر الإعلامي السعودي إلى مضيفته، فيلمح أمامه «هند بنت عتبة»، شخصيتها التاريخية في فيلم «الرسالة». ببسمة يخبرها أنه آتٍ للقاء هذه السيدة. تعلم أنّ محاورها متابع، وهو من جيل شهد على لمعان الذهب.
وتطمئن إلى أنها أمام إنسان مثقف لكونها تحب المثقفين ونشأت على إرثهم. يضعها أمام ثلاثة منعطفات مهنية: الأول شخصية «هند»، الثاني دورها في «الخنساء» والثالث حضورها البديع في «الهيبة» بشخصية «أم جبل». ويتمهّل عند كل منعطف. لكل محطة لحظاتها، فتفور الحماسة فيها وهي تتذكّر. كأنها بالتذكّر تولد من جديد.
ما يريده الشريان ليس سؤالاً وجواباً. يريد حواراً بين صديقين، وما يبقى حين تنتهي الأسئلة.
أمام هذه الحميمية، تعترف منى واصف بأن حياتها تشبه أحلامها، فتظهر خيالات تلك الصغيرة يوم كانت تختبئ تحت سريرها وتحلم بأنها طير، تحلّق إلى كل مكان تدور فيه الحرب، فتخوضها وتنتصر، ثم تعود إلى العش. امرأة تبحث عن انتصارات، بتشجيع من والدة أرادتها أن تعمل، فـ«الشغل مش عيب»، والمرأة في الكد لا تقل عزيمة عن الرجل.
هيبة الإطلالة والإنسانة، تحضر بوقار العباءة. تسرد لداود الشريان نشأتها مع زوج أمها، ثم زواجها وإنجابها. تبدو أمامه كتاباً مفتوحاً على فصول رائعة من المهنة والحياة. تتذكّر الإحباط الأول، حين قرأت نقداً مفاده أنها جميلة، والأفضل أن تنظر إلى نفسها في المرآة وتنتظر العريس. «أنا شو ناقصني»، تحدّت نفسها وقررت أنها ستصل.
يدق داود الشريان الثوم ويخبرها بأنه يهوى المطبخ. تعتذر إليه لفرمها البصل بدلاً من تقطيعه على شكل أجنحة، وتعده بسبانخ مع الأرزّ لم يتذوقها مع قبل. الرمان يزيّن الطبق، و«أم عمار» في منزلها، تعدّ الطعام للإعلامي الرصين. يسألها عن ابنها الوحيد، ولِمَ لم تنجب سواه؟ تجيبه بأنها تشبّعت بالأمومة، فأمها أنجبت وهي ساعدت في التربية، حتى أنّ أخاها يكبر ابنها بعامين، وتولت بنفسها تربية شقيقتها كطفلتها «أنجبتُ عمار وكنت اختبرتُ الأمومة مرتين. أنجبته بإصرار من حماتي. بعدها اكتفيتُ به».
عام أمضته وهي تُرضع طفلها وتتفرّغ له. ثم ألحّ صوت في داخلها يناديها بالعودة إلى الفن. الأم منى واصف أمام المسؤولية والشغف، لكنّ الحياة لم تُرغمها على الاختيار. فحماتها تدخّلت لمصلحتها «سأربّي الولد، لا تآكلي هم». يصغي الشريان بانتباه إلى سيرتها. تخبره أنّ أهم مرحلة نجاح عاشتها وهي حامل. يومها مثّلت في فيلمها الأول، وقدّمت ثلاث مسرحيات، إحداها في عين المريسة البيروتية. ربما لأنها كانت مطمئنة إلى أنّ طفلها بأمان في أحشائها. ثم بأمان بين يدي جدته.
هي أيضاً تتسلّى بالطبخ، وتحضير التبولة قد يطول لثلاث ساعات. عادة الفنان، التكتكة. ومنى واصف «تكتكت» في حياتها حد بلوغ الاكتفاء. تقول بأنها تعشق أقدارها، بنجاحها وفشلها، وما حدث من آلام وأحزان. «يأخذ الله ثم يعطي». وأعطاها زوجاً مُحبّاً، «وقف كالسيف في ظهري وآمن بي». أأنتِ مسيطرة؟ يطرح الشريان السؤال. تردّ بأنها قوية، لا تتسلّط ولا تسيطر.
أقرب الأدوار إلى قلبها هي أدوار النساء القويات. حتى دور المرأة الضعيفة، حين تتلبّسه، تمنحه شيئاً من القوة. «أنا بدي هالأدوار»، تقول لمحاورها بنبرتها الحاسمة. وإن كان لا بدّ من تذكر شريط الحياة، فشريط منى واصف مرّ خاطفاً؛ هي نفسها لا تدرك حجم سرعته. كأنهما على أرجوحة، ينقلها الشريان من موقف إلى صورة في ذاكرتها. ومن فرحة إلى صرخة، كصرختها الشهيرة في مسلسل «أسعد الوراق». تسرد ألمع اللحظات الفارقة في تاريخ الدراما، وتعيد تمثيل شيء من تلك اللوعة.
استمدت قوتها في «أسعد الوراق» من «الرسالة»، ودور العمر «هند بنت عتبة». تقول إنه «هدية من الله»، عزّز ثقتها في نفسها ورفع مكانتها. يصف الشريان الدراما السورية في الستينات بـ«الكنز»، ويسأل منى واصف عن سبب عدم انتشارها خارج حدودها. ويسألها أيضاً عن بقاء النجوم السوريين في سوريا وعدم هجرتهم إلى مصر. إجاباتها جاهزة، ترويها على شكل حكاية. مع رضا واكتفاء. وشبع العين.
لم تخف من الزمن، وبفخر تقول «لم أنتشِ بنجاحي ولم يحبطني الفشل». تمرّ والشريان على واقع نجمات يشبهن الدمى، من دون التورّط في الأسماء. تبتسم منى واصف للعمر ولحقيقة أنها حين تتقدّم في السنّ، تُطلب أكثر للأدوار. تزوّجت في العشرين وأنجبت في الأربعة والعشرين، وتلك الصبية الشقراء مرّت على الحياة لتلتحق بالعظماء.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».