لأول مرة منذ 126 عامًا.. طاهية في المطعم الرئيسي بفندق «سافوي» اللندني

كيم وودوورد: أشعر كأنني أدون التاريخ

الطاهية البريطانية كيم وودوورد
الطاهية البريطانية كيم وودوورد
TT

لأول مرة منذ 126 عامًا.. طاهية في المطعم الرئيسي بفندق «سافوي» اللندني

الطاهية البريطانية كيم وودوورد
الطاهية البريطانية كيم وودوورد

لأول مرة منذ 126 عاما تقوم إدارة فندق «سافوي» بمنطقة ستراند في لندن بتعيين طاهية أنثى لتولي المطبخ في مطعم «سافوي غريل» الذي يعتبر من أهم مطاعم المدينة، ليس فقط لما يقدمه من طعام؛ إنما نسبة لنوعية الزبائن الذين استقبلهم على مر السنين، أمثال السير ونستون تشرشل، ومارلين مونرو، وإليزابيث تايلور، ودوريس داي، وفيكتوريا بيكام، بالإضافة إلى أهم الأسماء في عالم الموسيقى والفن والسياسة.
والطاهية الأنثى الأولى التي تتولى هذا المنصب الرفيع، هي الطاهية كيم وودوورد المتسابقة في برنامج «ماستر شيف» للطهي، ووصلت إلى المرحلة نصف النهائية منه، وهي تعيش في منطقة كامدن شمال لندن وتبلغ من العمر 34 عاما، وسيعمل في فريقها 35 طاهيا، 40 في المائة منهم نساء، وقد عملت في السابق «سو شيف» في حانة للذواقة في لندن تحمل اسم «يورك آند ألباني» وتخصصت وودوورد في طهي المأكولات الإنجليزية التقليدية مثل المشاوي الشهيرة التي تقدم يوم الأحد بوصفها تقليد طعام بريطانيا ويطلق عليه اسم «ساندي روست».
وتقول وودوورد إن حصولها على هذا المنصب حصيلة عملها الدؤوب وتقدير إدارة «سافوي» لها ولعملها، ورأت أنها بهذا التعيين تكون قد دخلت التاريخ وساهمت في تدوين حقبة جديدة منه، خاصة أن «سافوي» من أعرق فنادق لندن ويتميز بتاريخ حافل، ونزل فيه أهم الشخصيات العالمية. كما أنها تعتبر الأنثى الأولى التي تصل إلى هذا المنصب منذ افتتاح الفندق عام 1889، واعتبرت أن هذا القرار يشكل فخرا واعتزازا لها، لا سيما أن مطعم «سافوي غريل» من أهم عناوين الذواقة في المدينة.
وعن مخططها المستقبلي، قالت وودوورد إنها تسعى لأن تترك بصمتها على لائحة الطعام من خلال إضافة بعض النكهات العصرية مع المحافظة على الأطباق التقليدية التي يشتهر المطعم بتقديمها، مثل «بيتش ميلبا» الذي ابتكر عام 1893، و«ميلبا توست» الذي ابتكر عام 1897، اللذين يفتخر المطعم بتقديمها حتى يومنا هذا. يشار إلى أن أول طاهٍ ترأس المطعم عند افتتاح الفندق يدعى أوغوست إسكوفير، وكان ملقبا بـ«طاهي الملوك»، وتم تعيينه من قبل مدير الفندق حينها واسمه سيزار ريتز. وبعدها توالى على رئاسة المطبخ في المطعم كثير من الطهاة، من بينهم ماركس وايرينغ واندي كوك، ولكن لم تتولّ أي امرأة هذا المنصب من قبل.
يتميز «سافوي غريل» بديكوراته المميزة التي تعود إلى حقبة الآرت ديكو الجميلة، الفندق أقفل لفترة وأعيد افتتاحه عام 2010 وكلفت عملية التجديد 220 مليون جنيه إسترليني، وفندق «سافوي» ينتمي إلى الواء فيرمونت، وهو الفندق الأول في لندن الذي وصلت إليه الكهرباء، كما أنه أول فندق كان يضم مصعدا كهربائيا وكان يعرف باسم «الغرفة الكهربائية».
«سافوي غريل» يتبع حاليا لمطاعم الطاهي غوردن رامسي، على أن تتولى وودوورد رئاسة المطبخ فيه، ومن المقرر أن يحافظ المطعم على النمط التقليدي والكلاسيكي المعهود فيه الذي يحرص على تقديم المشويات والستيك يوميا على عربة كلاسيكية يتم اختيار اللحم المناسب للزبون منها، بالإضافة إلى أنواع من الأسماك أيضا.
المطعم خسر نجمة ميشلان للتميز عندما أغلق الفندق أبوابه عام 2007 ليخضع لعملية التجديد، وتقول وودوورد إن الهدف اليوم ليس الحصول على النجمة من جديد بقدر ما هو المحافظة على التقليد الإنجليزي الذي عهده زبائن الفندق والمطعم.
ومن الأطباق الشهيرة التي ابتكرتها وودوورد ومن المقرر أن تكون متوفرة في المطعم طبق «الميلفوي بالفراولة» و«تونكا بين».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)