فيلم الافتتاح للدورة الـ51 من مهرجان روتردام السينمائي يبدو واحداً من تلك التي تتوخى جذب الاهتمام إلى الموضوع أكثر مما تنجح في معالجته.
المهرجان الهولندي الذي سعى منذ البداية لأن يكون المنافس القريب من مهرجان برلين حشد هذه السنة عدداً كبيراً من الأفلام. كثير منها لافت للنظر والاهتمام. في زمن الوباء قرر قبل أسابيع قليلة من افتتاحه في 26 من يناير (كانون الثاني) الحالي أن يلغي الحضور الشخصي والفعلي لجمهوره ومجتمع الإعلام، واللجوء إلى النت لعرض أفلامه عليه. السبب لا يحتاج إلى ذكر. هذا هو زمن صعب وغريب.
لكن ما هو أصعب وأغرب أنّ نهر السينما لم يتوقف وأعداد الأفلام التي تُنتج وتُوزّع إما على الأثير أو في صالات السينما أو في المهرجانات عموماً مستمر بـ«كورونا» ومن دونه.
وفي حين أنّ بعضنا يتوقف هذه الأيام عند أفلام كان يمكن أن تمر من دون لغط، مثل «أميرة» و«أصحاب ولا أعز» وأن تُنسى بعد حين وجيز، نشهد سعياً متواصلاً من قِبل صانعي الأفلام حول العالم لدخول المهرجانات كافة. ليس أن كل فيلم منها يستحق الاشتراك في مهرجانات العالم، لكن معظمها مصنوع ومشغول عليه وفي البال أن يدخل أحد المهرجانات الكبيرة الثلاث برلين (بعد أيام) وكان وفينيسيا.
«أصحاب ولا أعز» لوسام سميرة، ليس من عروض روتردام ولو كان لمر بقدر من الإعجاب لم يحرزه بين قطاع كبير من الذين شاهدوه (وعدد من الذين هاجموه من دون أن يشاهدوه) في ربوعنا العربية. السبب هو السرعة في الانتقاد وسهولة الانحياز مع وضد على أسس غير صحيحة.
صف أول
قائمة المهرجانات الأساسية حول العالم تطول، لكن تصنيفها حسب أهميتها بالنسبة لصانعي السينما ولنا نحن النقاد لا يتغير كثيراً. هناك المهرجانات الثلاث الأولى، تلك المذكورة منذ قليل، وهناك سبعة في الصف التالي هي روتردام الهولندي، وصندانس الأميركي، وتورونتو الكندي، ولوكارنو السويسري، وكارلوفيفاري التشيكي، وسان سابستيان الإسباني، ولندن البريطاني. هذا ما يجعل عدد المهرجانات التي لا بد من حضورها لمن يرغب في متابعة الجديد والمثير من التجارب والأفلام عشرة.
بعد ذلك هناك صف ثانٍ، من الممتع أن يحضره المرء، إن لم يكن بسبب أفلامه فبسبب جمال موقعه أو هدوئه أو اختصاصه. في هذا النطاق «ترابيكا» في نيويورك، و«سان فرانسيسكو» و«بالم سبرينغز» في ولاية كاليفورنيا، و«فيزيون دو ريل» السويسري وIDFA التسجيلي (في العاصمة الهولندية أمستردام) و«أنيسي» الفرنسي المتخصص بالرسوم المتحركة، وحفنة قليلة من هنا وهناك لا يمكن تجاهلها كاختيار ثانٍ. كثير منها يوفر أفلاماً جديدة لم تُعرض سابقاً، وعدد كبير يجمعه من تلك المهرجانات الأولى.
بالنسبة لروتردام، فإنّ المهرجان انطلق مرّتين. الأولى في سنة ميلاده قبل 50 سنة، والثانية قبل نحو 25 سنة عندما قرر أنّه لا يريد أن يلعب دور الممهد لمهرجان برلين (كون المسافة بينهما لا تتعدّى أسبوعين) بل لا بد له من القفز إلى الواجهة الأولى وترك الأثر الكبير الذي يتوخاه. كان ذلك طموحاً كبيراً والبعض اعتقد أنّ المنافسة لا ريب فيها.
هذا الاعتقاد صحيح. المهرجانان يستوليان على أهم ما هو متوفر في هذه الحقبة من السنة. طبعاً الميزان يميل لصالح برلين الذي يسبق روتردام بنحو أكثر من عقدين أسس خلالهما نفسه على ناصية الطريق الرئيسي بين شوارع الأفلام وقنواتها. لكن من يراجع خطوات روتردام الحثيثة وتاريخه القريب يدرك أنّ المهرجان حفل سابقاً، وكما في هذه الدورة، بأعمال لا يمكن تجاهلها. كونه يقع في بداية السنة يجعله يجذب سريعاً أعمالاً لافتة منتقاة بعناية، وعدداً من الأعمال التي لا ينتمي مخرجوها إلى المهرجانات الثلاث الأكبر («برلين» و«فينيسيا» و«كان») كزبائن مداومين.
استبدال
فيلم الافتتاح تغير قبيل بدء هذه الدورة من «روتردام». حتى ساعة إعلان انتقاله من الصالات الكبيرة إلى بيوت المشتركين قرّر أصحاب فيلم «على طول الطريق» (Along the Way) للمخرجة الهولندية مييكي دو يونغ، سحب فيلمهم من المهرجان من دون سبب معلن رسمياً، لكن السائد هو أنّ المنتجين والمخرجة رأوا أنّهم يفضلون الانتظار بضعة أشهر لن يكون الوباء فيها سبباً لدفع الفيلم في عروض منزلية عبر قنوات التحميل.
بمقارنة ذلك الفيلم مع الفيلم الذي انتخب بديلاً، وهو «أرجوك يا حبي» (Please (Baby Please لمخرجة أخرى، هي الأميركية أماندا كرامر، يتمنى المرء لو انسحب هذا الفيلم عوض انسحاب ذاك.
هذا التمني له دواعيه على صعيد الموضوع على الأقل. ففيلم «على طول الطريق» هو فيلم رسالة حول فتاتين توأم من أفغانستان تحاولان الهرب غرباً من جحيم حياتهما ليواجها جحيماً آخر قوامه مهرّبو البشر والمخدرات وأصحاب النوايا الشريرة، المنتشرون على الحدود التركية والإيرانية الذين قد يتعرّضون للفتاتين زهرة وفاطمة بالأذى لو استطاعوا الوصول إليهما.
فيلم أماندا كرامر لا علاقة له بما يدور في عالمنا من أحداث، بل له علاقة بما يدور في الصدور من أهواء عاطفية تقع لدى زوجين حدث أنّهما كانا يتمشيان في إحدى الحدائق العامّة ليلاً عندما شهدا عصابة من الشبّان ترتكب جريمة قتل. يتبادل الزوجان وأحد أفراد العصابة نظرة طويلة تقودهما للوقوع في حبه من النظرة الأولى.
بالنسبة للزوج طالما شكا وتصرّف على أساس أنّه غير راضٍ على أنّه وُلد رجلاً. بالنسبة للزوجة طالما شكت من أنّ زوجها حائر في جنسه. الشاب تَدي يبدو خلاصهما معاً. إذا ما نجحا في جذبه سيمنح كليهما ما يبحث عنه من الحب والجنس.
تَدي هو اسم جائزة خاصة بالأفلام المثلية والمنحرفة التي تُمنح للفيلم الذي يناسب هواها في مهرجان برلين، والفيلم الجديد - عن قصد أو بدونه - يتّخذ منه اسم الشاب (يؤديه كارل غلوزمان) والهدف هو أنّه إذا ما أخفق الفيلم في استحواذ جائزة «روتردام»، فلربما فاز بواحدة من جوائز الجمعيات المثلية في الولايات المتحدة أو خارجها. هو بالتأكيد موجّه لهذا الفريق من المشاهدين ولجمهور المهرجانات ككل.
المثلية ليست في الموضوع فقط، بل في الطريقة التي أخرجت بها كرامر فيلمها. يتأتى ذلك عبر التصاميم الفنية للأماكن (المنازل تبدو كما لو أنّها مما خلفه المخرج جون ووترز في بعض أفلامه)، وعبر تفاعل الكاميرا مع الموضوع ومنحه ذلك القدر من الاضطراب. يجاور كل ذلك طروحات تتمحور حول ما إذا كانت الرجولة هي فعلاً بتلك الأهمية كما نعتقد.
خارج التصنيف
فيلم آخر في المسابقة هو للآن أفضل ما شوهد فيها، عنوانه «الفائض سينقذنا» Excess Will Save Us. العنوان بالإنجليزية وكذلك عناوين الفصول السبعة التي يأتي الفيلم عليها، لكن الفيلم فرنسي الأماكن والشخصيات والمضمون. فوق ذلك، هو فيلم من خارج التصنيف، لا هو وثائقي ولا هو روائي ولا هو - أيضاً - دوكيودراما، كما يحب البعض تسمية أعمال تخلط بين النوعين.
«الفائض سينقذنا» عبارة عن سجل تاريخي في يومنا هذا لقرية في شمال فرنسا، اسمها فيلييرو؛ يبدأ برجل يشرح وهو واقف على ربوة عالية، لكاميرا بعيدة عنه، أنّه استيقظ ليلاً على أصوات انفجار. «لا بد أنّهم الإرهابيون». حركته وهو يصف ذلك كوميدية «بانغ… بانغ… بانغ». وعلى أساس ذلك الصوت تم الاتصال بالشرطة، فهرعت سيارات الأمن ومكافحة الإرهاب والقوة الخاصة والإسعاف والإطفاء (نحو 50 حافلة) إلى القرية تحسباً، فلربما تكون يد الإرهاب قد أخذت تمتد إلى القرى البعيدة والخالية من كل عنصر جذب. تسخر المخرجة من دون أن تبتسم وهي تقف في نهاية الفصل الأول واصفة قريتها وتقول: «لا محطة قطار، لا شوبينغ مول، لا صالة سينما، لا مسبح، لا صيدلية، لا صالون نسائي».
رغم ذلك، الفيلم في نحو ساعتين حافل بالملاحظات عن أناسٍ يشكّلون عماد تلك القرية ومشاكلها الصغيرة - الكبيرة. بعد إشاعة أنّ هناك هجوماً إرهابياً، هناك يد خفية تحرق مستودع أعلاف وبندقية صيد تقتل الطيور ومشاكل بين أب متعصّب وابنته التي تحب عربياً (يعيش في المدينة). ثم هناك قصّة حب والد المخرجة بامرأة كانت تعمل لديه قبل سنوات عديدة ولم يلتقيا منذ ذلك الحين.
لا تحاول المخرجة مرجان دزيريلا - بيتيت تقصّي ما يدور كمحققة، لكنّها تتوقف في فصولها اللاحقة على وقائع تدلي بالكثير. والدها في غمرة سكره يقتل دجاجاته. يهوي عليها ليلاً بالضرب حتى يقتلها. تدخل ابنته صباح اليوم التالي، توقظه وتسأله، لماذا فعل ذلك. يدّعي أنّه لا يتذكّر شيئاً مما تقول. بعد قليل يؤلّف مع زوجته حكاية مفادها أنّ كلب جاره هو الذي هاجم الدجاجات وقتلها. الكذبة تنتشر ويؤخذ بها وها هي الزوجة تجمع تواقيع أهل القرية لاتخاذ إجراء ما بحق الكلب. على أنّ قاتل الدجاجات لن ينتظر. سيأخذ بندقيّته ويطلق النار على الكلب. هذا يتم خارج الكاميرا.
الأمر الثاني هو عندما أنجزت المخرجة فيلماً قصيراً قبل ثلاث سنوات (وبالعنوان نفسه) قُبِل في مهرجان «كليرمو - فيران» للأفلام القصيرة. لا نرى الفيلم، بل تعرض لنا كيف تصرّف والداها عندما جاءهما الخبر بأنّ فيلمهما قد قُبل في مسابقة المهرجان.
ينطلق والد الفتاة وزوجته إلى المدينة. نسمعه يردد أن «كليرمو - فيران» هو «أعظم مهرجان في العالم»، وحين يعود منه لاحقاً للقرية، يُخبر جميع من حوله أنّه بات «نجماً سينمائياً هناك». نراه يقرّر وزوجته ترك القرية إلى تلك المدينة ليلتقي بـ«جمهوره» ويستثمر نجاحه (!).
على الرغم مما يثيره الفيلم من مرح ومشاهد فكاهية، فإنه فيلم عابق بالدكانة والنقد. عرض المخرجة الشابة مرجان لما يدور في القرية يبدأ مبهجاً من ثمّ يتدرّج في الدكانة. مع بلوغها الفصل السابع، تكون وصفت شخصيات الفيلم (بمن فيهم أقربهم إليها)، بنعوت شديدة، لا كلاماً بل من خلال ما يرد من مفادات خلال العرض. بالنسبة لها، قريتها هي محفل أكاذيب وقتل لحيوانات بريئة (اللقطة الأولى من الفيلم لحمامة مقتولة) ورجالها عنصريون (يُطرد العربي من حفل العرس، مما يقطع العلاقة بينه وبين الفتاة التي لاحقاً ما تنزح صوب المدينة بدورها). حتى في شجار يقع بين رجلين من القرية صوّرته المخرجة بالتركيز على منظر طبيعي. نسمع الشجار ولا نراه. يصف فيه أحدهما الآخر بأنّ لكنته بلجيكية كمأخذ عليه. نوع من الإهانة والتشكيك بفرنسيّته. أصواتهما تتعالى ولاحقاً ما نسمع انتقال الشجار الشفهي إلى جسدي… لكن المخرجة تؤثر عدم تصويره. المضمون يصل بكامله.
لا علم لنا بأين تدخلت المخرجة لتطلب من شخصياتها إعادة أداء ما قامت به في حياتها، لكنّ المؤكد أنّها تصوّر كل شيء من زاوية تسجيلية بحتة. لا دراما في الأداءات ولا تناقض بين وقائعه. تضمن المخرجة لفيلمها وحدة نص ووحدة أسلوب رائعتين.
إذ يتدرّج الفيلم من نكهة مرحة إلى أخرى مُرّة وداكنة، تتدّرّج تلك الدكانة بدورها لتغطي مساحة الفيلم بأسره، صورة ومفاداً. هذا فيلم عن عالم غير مرتاح في شأنه. يَخاف وبدوره مُخيف. معاكس لما نتداوله عادة من مفهوم أنّ للريف وقراه الصغيرة مناخ آمن وطيّب ووديع. فيلم «دزيريلا - بيتيت» ينقل واقعاً غير مسبوق على هذا النحو، من مزج ناجح للروائي من دون دراما، والتسجيلي من دون وثيقة.