«الكبتاغون»... سلاح سوري ـ إيراني جديد يهدد الإقليم

وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي يعلن الكشف عن شحنة مخدرات في 25 الشهر الجاري (أ.ف.ب)
وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي يعلن الكشف عن شحنة مخدرات في 25 الشهر الجاري (أ.ف.ب)
TT

«الكبتاغون»... سلاح سوري ـ إيراني جديد يهدد الإقليم

وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي يعلن الكشف عن شحنة مخدرات في 25 الشهر الجاري (أ.ف.ب)
وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي يعلن الكشف عن شحنة مخدرات في 25 الشهر الجاري (أ.ف.ب)

في الساعات الأولى من 27 يناير (كانون الثاني) 2022، حاول عدد من المهرّبين من سوريا العبور إلى الأردن، مستغلين عاصفة ثلجية شديدة وضباباً كثيفاً اعتقدوا أنه يمكن أن يخفيهم عن قوات إنفاذ القانون. ومع ذلك، بمجرد أن شاهدت الدوريات الأردنية المهرّبين يقتربون من السياج الحدودي، بادرها المهرّبون بإطلاق النار، فدارت اشتباكات انتهت بوقوع 27 قتيلاً وعدة جرحى في صفوف المهرّبين.
كان هذا رابع اشتباك عنيف مسجل علناً بين قوات الأمن الأردنية والمهرّبين الذين يعبرون الحدود من سوريا خلال فترة تقل عن شهر، بعد تصاعد نشاطات الاتجار غير المشروع إلى الأردن على مدار فترة طويلة منذ أن فُتح معبر «جابر - النسيم» الحدودي في أواخر سبتمبر (أيلول) 2021.
مع ذلك، يبقى العدد الكبير للقتلى (27 قتيلاً) تطوراً غير مسبوق، ويكشف نظرة الأردن الجادة لتجارة المخدرات السورية بوصفها تهديداً أمنياً خطيراً. والأهم من ذلك، أن الحادث يكشف النطاق المتسع لعمليات التهريب التي تزايدت باطّراد على طول الحدود الأردنية - السورية، مع ارتفاع أعداد المهرّبين المعتمدين أساليب أكثر تطوراً والمزودين أسلحة متطورة وعلى استعداد للتورط في اشتباكات عنيفة.
في أعقاب هذه الاشتباكات، ضبطت قوات حرس الحدود الأردنية كميات هائلة من المخدرات بحوزة المهرّبين، مخبّأة داخل أكياس من الخيش مليئة بالحشيش (القنب) ومادة من نوع الأمفيتامين، التي أصبحت محرّكاً لديناميات الأمن الإقليمي، تسوّق على نحو واسع تحت اسم «الكبتاغون».
الكبتاغون هو الاسم التجاري لعقار كان مسموحاً به قانونياً سابقاً، وهو الفينيثيلين، الذي ابتكرته شركة الأدوية الألمانية «ديغوسا إيه جي» في الستينات لمعالجة اضطرابات نقص الانتباه وفرط النشاط والاكتئاب وتعزيز فقدان الوزن. بعد جدولة الفينيثيلين من جانب منظمة الصحة العالمية عام 1986 بسبب آثاره السلبية على القلب والأوعية الدموية، وخطر إدمانه، إلى جانب ظهور بدائل أكثر أماناً في السوق، ظل الإنتاج غير القانوني من هذه المادة شائعاً لفترة وجيزة في دول البلقان خلال حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وتحديداً في بلغاريا حيث يوجد عدد كبير من مصانع الأدوية.
واكتسب الفينيثيلين شعبية بوصفه المخدر الأول للحفلات في جنوب أوروبا، وانتشر كذلك في الأسواق البعيدة في الخليج العربي أيضاً. ودفعت حملات إنفاذ القانون في البلقان، في أواخر التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، التجارة نحو بلاد الشام وتركيا، أي أقرب إلى الأسواق الاستهلاكية مع تزايد الطلب. وأصبحت سوريا على وجه التحديد مركزاً لإنتاج الكبتاغون، بسبب علاقاتها الوثيقة بشركات الأدوية والمجتمع العلمي في بلغاريا، الأمر الذي أتاح نقل المعرفة التقنية والخبرة الكيميائية حول عملية تصنيع الكبتاغون المجدية نسبياً.
اندلاع الحرب الأهلية السورية خلّف فراغاً كبيراً في السلطة وعجزاً في جهود الرقابة والمساءلة وإنفاذ القانون وحفظ النظام، ما خلق بيئة مثالية لازدهار تجارة الكبتاغون. وأثبتت الآثار الجانبية المبهجة للعقار أنها جذابة للمستخدمين الذين يسعون للحصول على راحة من الصدمات النفسية والجسدية التي يخلقها عنف الحرب، في الوقت الذي يحفّز العقار كذلك مشاعر شجاعة وجرأة كبيرتين لا تقدر بثمن من وجهة نظر الجماعات المسلحة المشاركة في الحرب على جبهات مختلفة.
وعلى الرغم من حظر تعاطي المخدرات في دول الشرق الأوسط، فإن وضع الكبتاغون السابق كسلعة دوائية مشروعة وعدم تناوله عن طريق الوريد يوفر للعقار درجة من الشرعية في نظر المستخدمين. ومن وجهة نظر كثيرين، كان يجري النظر إلى العقار بوصفه مساعداً لأولئك الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي وعدم اليقين المالي، بفضل قدرته على درء الشعور بالجوع والتعب. وسواءً داخل سوريا أو في أسواق المقصد، أصبح الكبتاغون مادة تلبّي الكثير من الاحتياجات: عقار ترفيهي للشباب يعينهم على التغلب على الملل؛ وملاذ آمن لضحايا الحرب المصابين بصدمات نفسية؛ ومحفّز للمقاتلين في صفوف الجماعات المسلحة؛ ومنقذ لحياة عمال الطبقة الوسطى والأدنى الذين يعملون لساعات طويلة والذين لا يعرفون متى يمكنهم تأمين وجبتهم التالية.
وتستهدف الشبكات عدداً من الدول العربية والخليجية، في كونها الوجهة الرئيسية لتهريب الكبتاغون. كما كشفت دراسات محدودة ارتفاع معدلات استهلاك هذا العقار وإدمانه على طول بلدان العبور البري لهذه التجارة، مثل لبنان والأردن والعراق.
خلال السنوات الـ11 التي اشتعلت خلالها الحرب الأهلية السورية، تغير التركيب الكيميائي للكبتاغون بشكل ملحوظ. وتبعاً للتحليلات المختبرية القليلة التي أُجريت على التركيب الكيميائي للأقراص، التي يجري تسويقها بوصفها كبتاغون، يلاحَظ أن التركيب بات منذ العقد الأول من القرن الحالي يحتوي على قاعدة أكبر من الأمفيتامين، ولم يعد من الممكن التعرف عليها بوصفها فينيثيلين.
إلى جانب ذلك، حدّد التحليل الكيميائي آثاراً أكبر لإضافات كيميائية ضارة أحياناً، مثل الكافيين والكينين والمخلفات المعدنية التي يجري دمجها في أثناء عملية الكبس. ويرجع السبب المحتمل وراء تطور صيغة الكبتاغون إلى عدم توفر مواد التصنيع الأولية، بسبب العنف المستمر في البلاد والعزلة النسبية عن أسواق الأدوية الخارجية. ومع ذلك، فإن مسار تطور الكبتاغون من تركيبته الأصلية (فينيثيلين) ينطوي بشكل ملحوظ على مخاطر صحية على القلب والأوعية الدموية، وكذلك مخاطر عصبية، ومخاطر صحية مزمنة أخرى على المستهلكين.
- تورط النظام
على امتداد فترة الحرب، جرى إنتاج الكبتاغون إلى حد كبير في مختبرات صغيرة ومتوسطة الحجم داخل مساكن ومواقع عسكرية سابقة ومبانٍ مهجورة، سهلة التنقل ويصعب على أنظمة إنفاذ القانون رصدها. وفي حين أن استهلاك الكبتاغون وإنتاجه وتهريبه كان مرتبطاً بتنظيم «داعش» خلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، جرى كذلك تداول العقار بين مجموعة من الجهات الحكومية وغير الحكومية التي رأت فيه مصدراً بديلاً مفيداً للإيرادات، مثل قوات المتمردين والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل «حزب الله» والمسؤولين الموالين للدولة السورية الذين استغلوا مواقع التصنيع الموجودة في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة من الحرب الأهلية السورية ازدهاراً في شحنات الكبتاغون ذات الحجم الصناعي، التي تتدفق ليس فقط إلى الأسواق الاستهلاكية الحالية في الخليج العربي، وإنما كذلك إلى مواقع عبور جديدة في البحر المتوسط وشرق آسيا. وفي عامي 2020 و2021 فقط، جرى ضبط الملايين من أقراص الكبتاغون على يد موظفي الجمارك وإنفاذ القانون في موانئ: و«بيرايوس» اليوناني، و«ساليرنو» الإيطالي، و«دمياط» و«بورسعيد» المصريين، و«كونستانتا» الروماني، و«سالزبورغ» النمساوي، و«أبابا» النيجيري، و«مجمع كواي تشونغ» المخصص للشحن في هونغ كونغ، و«كلانغ» في ماليزيا. وكشفت غالبية مضبوطات الكبتاغون زيادة طفيفة في حجم الشحنات الفردية منذ عام 2019، وغالباً ما تحتوي المضبوطات على أقراص تقدر قيمتها بمئات الآلاف، بل والملايين، ويجري تهريبها إلى موانئ دول العبور والمقصد بوتيرة أكبر.
وأصبح تجار الكبتاغون أقدر على التكيف مع إجراءات إنفاذ القانون وازدادت عمليات التهريب تعقيداً. وغالباً ما يجري إخفاء الأقراص داخل شحنات مع منتجات أخرى مشروعة (مثل العنب، وداخل الرمان المفرغ والبرتقال البلاستيكي المزيف، أو حتى داخل الأغنام الحية)، الأمر الذي يمكن أن يقلل مخاطر الرصد والضبط، علاوة على تحويل الكبتاغون عبر الطرق البحرية التجارية المشروعة إلى مواقع عبور البلدان الثانية والثالثة لتقليل الشكوك حول مصدرها، وغالباً ما يجري التنسيق مع جماعات إجرامية منظمة في دول المقصد.
يشير الحجم الكبير للتهريب وأساليبه المتقدمة إلى قدرة إنتاجية أكبر وخبرة فنية تفتقر إليها الكثير من الجهات الفاعلة غير الحكومية. وعلى الرغم من عدم وجود سياسة حكومية رسمية مباشرة، بخصوص إنتاج الكبتاغون غير المشروع، تبقى هناك أدلة محدودة على وجود معرفة بهذا الخصوص على مستوى الوزارة والتواطؤ في التجارة، فضلاً عن المشاركة النشطة في إنتاج المخدرات بين الجماعات المدعومة من النظام والقطاعات الأمنية في معاقل النظام في الجنوب وعلى طول ساحل البحر المتوسط السوري. والكثير من منشآت إنتاج الكبتاغون التابعة للنظام أكبر حجماً للتمكن من تصنيع ملايين الأقراص بثمن بخس، وتقع بالقرب من الموانئ المملوكة للدولة مثل «اللاذقية» (الذي استأجرته إيران جزئياً)، وكذلك الشبكات الداعمة التابعة النظام أو الدائرة المقربة من عائلة الأسد، التي تسهل نقل الشحنات وتوفر المواد الزراعية أو الصناعية المشروعة لإخفاء الأقراص، والتنسيق مع الجهات المسلحة غير الحكومية والمنظمات الإجرامية المنظمة لتسلم الشحنات في مراحل مختلفة من العملية.
من العناصر البارزة في إنتاج الكبتاغون والتهريب، «الفرقة الرابعة» السورية، التي يشرف عليها اللواء ماهر، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، إلى جانب أثرياء الحرب الرئيسيين، الذين تفضلهم عائلة الأسد وأبناء عمومتهم وأقاربهم، ورجال الأعمال المشاركين في تشغيل نظام النقل والبناء في سوريا وإنتاج الأدوية والشحن البحري وصيانة الموانئ وفرض الضرائب على الحدود ونظام رسوم الطرق السريعة، والعلاقات الأمنية مع الجهات الحليفة من غير الدول، مثل الجماعات المرتبطة بـ«حزب الله» و«الحرس الثوري» الإيراني.
ويلعب «حزب الله» والجماعات المسلحة المدعومة من «الحرس الثوري» دوراً داعماً في هذه التجارة، وعبر حماية منشآت الإنتاج ودعم جهود التهريب إلى جبال القلمون، وتوفير الوصول إلى الموانئ الأجنبية (مثل ميناء بيروت في لبنان) أو تسهيل حركة السلائف والمواد المضافة. ويرتبط «حزب الله» بشبكة تضم ما لا يقل عن عشرين موقعاً لتصنيع الكبتاغون على نطاق أصغر على طول الحدود اللبنانية - السورية بالقرب من طرق التهريب الرئيسية، وهي مواقع وأنشطة جرى رصدها بشكل متكرر والتصدي لها من سلطات إنفاذ القانون اللبنانية.
- التداعيات الجيوسياسية
أدى تسارع وتيرة تجارة الكبتاغون خلال فترة زمنية قصيرة إلى زيادة الاهتمام الدولي والضغط على بعض الوكلاء المرتبطين بهذه التجارة، لكنه وفرّ للحكومة السورية كذلك درجة من النفوذ على طاولة المفاوضات، في وقت يفكر جيرانها في إنهاء عزلة سوريا الإقليمية والسعي وراء فرص التطبيع مع نظام الأسد.
وتكثف السعودية جهودها لمكافحة التهريب والمخدرات. وشكّل ما يقدر بـ190 مليون قرص من الكبتاغون، دخلت الموانئ عام 2021 وحده، حافزاً لفرض حظر على الواردات الزراعية اللبنانية في أبريل (نيسان) الماضي، ثم على جميع الواردات اللبنانية في أكتوبر (تشرين الأول)، على أمل كبح جماح تجارة الكبتاغون.
الكثير من شحنات الكبتاغون الكبيرة كان يجري توجيهها عبر الموانئ اللبنانية أو الطرق البرية. مع ذلك، تستمر المعدلات المتكررة لشحنات الكبتاغون ذات الأحجام الكبيرة في إغراق موانئ الدخول البرية والبحرية للخليج العربي، ما يمثل تحدياً رئيسياً لأنظمة إنفاذ القانون والجمارك المحلية.
علاوة على ذلك، يمثل الارتفاع المفاجئ في أعمال العنف الاستباقية بين المهرّبين، الذين يعبرون من سوريا، والكثير منهم على صلة بالميليشيات المسلحة والوكلاء المدعومين من إيران، تحدياً أمنياً كبيراً أمام الأردن. وكافحت قوات الجيش الأردني ودوريات الحدود عمليات التهريب المستمرة، الأسبوعية بعض الأحيان، التي بلغ مجموع حجمها أكثر عن 15 مليون قرص عام 2021 وحده. وفي حين تسفر الاشتباكات عادةً عن سقوط ضحايا بين المهرّبين، فإن مقتل الضابط الأردني الكابتن محمد الخضيرات في 16 يناير 2022 في اشتباكات عنيفة مع نحو 200 مهرب، حفّز الأردن على تخفيف قواعد الاشتباك ما سمح لقوات الأمن بإطلاق النار لردع المهربين عن استخدام الأردن كطريق عبور لهم.
قد يؤدي التهديد بالعنف المستمر بين القوات الأردنية والمهربين السوريين إلى خلق جيوب من انعدام الأمن يتعذر السيطرة عليها، على طول المنطقة الحدودية، ويتسبب باشتباكات واسعة النطاق. في حين أن الارتفاع المستمر في التهريب قد يؤدي إلى توقف مؤقت أو طويل الأمد في جهود التقارب مع سوريا من جانب المسؤولين الأردنيين.
من ناحيته، تأثر لبنان بشكل كبير بتجارة الكبتاغون، إذ كانت الزيادة الأخيرة في الشحنات الدولية واسعة النطاق التي تتم عبر موانئه البرية والبحرية، ما أدى إلى فرض حظر خليجي على الصادرات اللبنانية. وكان هذا حافزاً للحكومة اللبنانية لزيادة الرقابة والتفتيش في الموانئ، والقيام باعتقالات في صفوف المشتبه في تورطهم بتجارة الكابتاغون، مثل حسن دقو، رجل الأعمال اللبناني المرتبط بالفرقة الرابعة في سوريا و«حزب الله» والذي يُعرف على نطاق واسع باسم «ملك الكبتاغون»، وكان متورطًا في شحنة الكبتاغون التي ضُبطت في مارس (آذار) 2021 متجهة إلى ميناء «كلانغ» الماليزي.
وكان لبعض عمليات الضبط اللبنانية الأخيرة تأثير إيجابي على العلاقات اللبنانية - الخليجية. ودفعت عملية ضبط كبرى في ديسمبر (كانون الأول) 2021 الكويت ولبنان إلى الموافقة على تعزيز التعاون الأمني وتبادل المعلومات حول تجارة الكبتاغون. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن سلطات إنفاذ القانون اللبنانية اتخذت سلسلة من الخطوات للقضاء على تجارة الكبتاغون المحلية، فإن الاستخدام المستمر للبلاد كموقع عبور للتهريب، إلى جانب نفوذ «حزب الله» الكبير سياسياً وأمنياً في لبنان، يستمر في الإضرار بهذه الجهود.
استفادت دمشق بدورها من تضاؤل مستوى المساءلة، في الوقت الذي استجابت فيه لزيادة الاهتمام الدولي بحجم ونطاق شحنات الكبتاغون. وعلى الرغم من استمرار تدفق شحنات الكبتاغون ذات الحجم الصناعي من الموانئ التي يسيطر عليها النظام السوري ومراكز الإنتاج في اللاذقية ودرعا، أقدمت القوات الأمنية للنظام على اعتراض نادر لشحنة كبتاغون كبيرة مخبأة داخل عبوات المعكرونة المعدة للشحن إلى الخليج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، واتهمت جهات فاعلة منافسة في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون بأنهم بمثابة الوكلاء الأساسيين للتجارة.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من المناقشات المعلنة مع الأردن والتي وافقت فيها سوريا على قمع مجموعات التهريب، كانت هناك زيادة مطردة في الاشتباكات العنيفة وعمليات المصادرة على طول الحدود السورية - الأردنية، ما يعد مؤشراً على ضعف الرقابة الحكومية على المهرّبين أو محاولة متعمدة من جانب الحكومة السورية لبناء نفوذ لها في إطار مفاوضات مستقبلية مع الأردنيين.
خلاصة القول، تمثل تجارة الكبتاغون تحدياً أمنياً معقداً وتنطوي على مخاطر صحية كبرى، كما أنها أصبحت تشكل بعداً جديداً للعلاقات المتطورة بين سوريا وجيرانها في الشرق الأوسط. وبسبب التداعيات متعددة الأوجه للكبتاغون، وتوافقه مع فراغات السلطة في المنطقة، أصبح يشكل تحدياً خطيراً لجهود إنفاذ القانون والنظام الإقليمي والأمن البشري. ونظراً لتنوع طيف الجهات الفاعلة في هذه التجارة، فإن أنشطة التصنيع واسعة النطاق من جانب مسؤولين مدعومين من النظام السوري ومواطنين عاديين، سمحت للتجارة بالازدهار في السنوات الثلاث الماضية، وتضاعف حجمها في أسواق الخليج العربي وفي بلدان العبور الجديدة، في شرقي البحر الأبيض المتوسط وشمالي أفريقيا وحتى شرقي آسيا.


مقالات ذات صلة

توقيف «بلوغر» مصرية لحيازتها مخدرات يجدّد أزمات صانعات المحتوى

يوميات الشرق «البلوغر» والمذيعة المصرية داليا فؤاد بقبضة الشرطة (صفحتها في «فيسبوك»)

توقيف «بلوغر» مصرية لحيازتها مخدرات يجدّد أزمات صانعات المحتوى

جدَّدت واقعة توقيف «بلوغر» أزمات صانعات المحتوى في مصر، وتصدَّرت أنباء القبض على داليا فؤاد «التريند» عبر «غوغل» و«إكس».

محمد الكفراوي (القاهرة )
أوروبا ساحة بلازا دي كولون في إسبانيا (رويترز)

إسبانيا: العثور على 20 مليون يورو مخبأة بجدران منزل رئيس مكافحة الاحتيال السابق

اعتقلت السلطات الإسبانية الرئيس السابق لقسم مكافحة الاحتيال وغسل الأموال في الشرطة الوطنية الإسبانية، بعد العثور على 20 مليون يورو مخبَّأة داخل جدران منزله.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
أوروبا الأميركي روبرت وودلاند داخل قفص المحكمة (أ.ب)

رفض استئناف أميركي مدان بتهريب المخدرات في روسيا

تتهم واشنطن موسكو باستهداف مواطنيها واستخدامهم أوراق مساومة سياسية، بيد أن المسؤولين الروس يصرون على أن هؤلاء جميعاً انتهكوا القانون.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
المشرق العربي كميات كبيرة من حبوب الكبتاغون صودرت شمال غربي سوريا أبريل 2022 (أ.ف.ب)

دمشق ترفع وتيرة القبض على شبكات ترويج المخدرات

تشهد سوريا ارتفاعاً ملحوظاً في نشاط حملة مكافحة المخدرات التي تشنّها الحكومة على شبكات ترويج وتعاطي المخدرات في البلاد.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي جنود من الجيش الأردني عند نقطة حدودية (أرشيفية - أ.ف.ب)

مقتل مهرب مخدرات في اشتباك مع حرس الحدود الأردني

قُتل مهرب مخدرات على الحدود الأردنية السورية في اشتباك بين حرس الحدود الأردني ومجموعة من مهربي المخدرات حاولوا التسلل إلى أراضي المملكة، اليوم الأحد.

«الشرق الأوسط» (عمان)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.