في العام المقبل يكون قد مرت 20 سنة على إطلاق «سبايدر مان» كما حققه سام رايمي. وما يلحظه الناقد ليس فقط أن نسخة رايمي ما زالت أفضل من النسخ التي تلته، بل إن الوقت كان لا يزال مُتاحاً لنرى على الشاشة كيف تنطلق خيوط العنكبوت من أصابع الرجل - العنكبوت لتمكنه من السباحة في الفضاء والتأرجح من ناطحة سحاب إلى أخرى.
في الفيلم الجديد «سبايدر - مان: لا عودة» (Spider - Man: No Way Home وكلمة «هوم» تعني الوطن والبيت والألفة مدمجة معاً)، تختفي الثواني التي كان يتطلبها «سبايدر – مان» لصنع شبكته من الخيوط. نراه ينتقل عبر الأجواء القريبة من الأرض كيفما أراد بسرعة متناهية. لا علم لنا بأي خيط رماه بأي اتجاه؛ بل هو قرار مبرم: يستطيع هذا البطل الخارج عن الطبيعة الإنسانية فعل ما يريد متى يريد بالطريقة التي يريد. هو أسرع من «سوبرمان» وأسرع من «باتمان» وكل «مان» آخر.
عدو الشعب
الفيلم كذلك سريع النجاح. مع صباح يوم الاثنين 27 من الشهر الحالي، بلغت إيراداته ملياراً و95 مليون دولار، مستحوذاً على 44 في المائة من إيرادات العالم. نذكر أن آخر مغامرة لـ«سبايدر – مان» عبر فيلم «Spider - Man: Homecoming» سجلت ملياراً و131 مليون دولار، وهذا يعني أن الفيلم الجديد آيل، بعد أقل من أسبوعين من الآن، لتجاوز هذا الرقم واعتلاء قمة أعلى أفلام المسلسل نجاحاً.
«سوني»؛ الشركة المنتجة لجانب «مارفل ستديوز»، ربحت الجولة. حاربت محاولة «ديزني» اقتناص شخصية «سبايدر – مان» منها عندما اشترت حقوق الشخصيات الكوميكية الأخرى لـ«مارفل». السلسلة التي تتحدث عن شاب لدغه عنكبوت يحمل إشعاعات اليورانيوم هو أشبه بآلة طبع العملة لأي ستديو أو شركة أفلام تستطيع أن تحظى به.
هذه هي القيمة التجارية لـ«سبايدر – مان»، القيمة الفنية هي نتاج مختلف. قليل من العناية التي تتجاوز مبدأ كيف ندهش المشاهدين في كل لحظة وماذا نفعل لكي ننجز فيلماً من ساعتين ونصف الساعة محبوكة لدرجة أن يصبح التفكير بما هو معروض أمر محال.
«سبايدر - مان: لا عودة» لا يترك للمشاهد مجالاً لمراجعة أي شيء. المخرج جو ووتس سبق له أن أنجز ««سبايدر - مان: هوم كمينغ» (Spider - Man: Homecoming) سنة 2017 و«سبايدر - مان: بعيداً عن الوطن» (Spider - Man: Far From Home (سنة 2019)، وهو يدرك مسالك العملية بأسرها، وفي كل فيلم يسارع الوتيرة أكثر من السابق.
في الأساس لدغ العنكبوت المشع باليورانيوم بطله بيتر باركر، لكن بدل أن يموت هذا بالإشعاع أو يُصاب بمرض خبيث، تحول إلى شاب خارق القدرات كما نعلم جميعاً. في الفيلم الجديد؛ على «سبايدر – مان» إنقاذ نفسه من هجوم مركز عليه بعدما كُشفت هويته. بات عدو الشعب رقم واحد؛ والناس تصدق ما تسمعه من حكوماتها. يطلب العون من «دكتور سترانج» (بندكت كمبرباتش)، لكن أشرار النسخ السابقة من هذا المسلسل تنتهز الفرصة لمحاولة القضاء عليه؛ من بينهم ذا غرين غوبلن (ويليام دافو) و«دكتور أخطبوط» (الجيد ألفرد مولينا). هذا الخليط من الشخصيات يبدأ ولا ينتهي. لا عجب أن «سبايدر – مان» طلب من «دكتور سترانج» أن يمحو ذاكرته من كل شخص في العالم. مهمة لو قدر لها أن تتم طبيعياً لتحققت بعد 20 سنة أخرى. لكن ما حدث هو أن الخطة لم تؤت ثمارها؛ مما حشد لـ«سبايدر – مان» المحن التي تسعد المشاهدين وتخبرنا، نحن النقاد، كما تمادت المؤثرات البصرية والخدع وبرامج الكومبيوتر (غرافيكس) في تشكيل أفلام اليوم بحيث لم تعد الحكاية وحدها غير قابلة للتصديق؛ بل الفيلم بأسره.
مقطوعون من شجرة
بالطبع ليس من مهام فيلم كهذا أن يجعلك تصدق ما تراه، لكن - وكما الحال بالنسبة لتلك الخيوط التي يستخدمها «سبايدر – مان» لرياضته المفضلة فوق نيويورك - قليل من المنطق من الممكن له أن يرفع الفيلم من مستوى الإجادة التقنية إلى إجادة فنية قائمة على معطيات مثيرة بحد ذاتها. هناك كثير من الشخصيات التي كان يمكن الاستفادة من وجودها والفيلم يفعل ذلك مع الشخصيات الشريرة ومع ماريسا توماي، التي تؤدي دور العمة.
في هذه الناحية لا بد من التذكير بأن العديد من شخصيات «السوبر هيروز» فقدوا آبائهم مبكراً: «سوبرمان» عاش في كنف مزارع وزوجته لم ينجبا وذلك بعد موت أبيه. «باتمان» فقد والده في حادثة اغتيال. «آيرون مان» فقد والده في عملية إرهابية في أفغانستان، و«كابتن أميركا» فقد والده الآيرلندي حين كان طفلاً ومن ثم رحلت والدته وهو لا يزال ولداً.
لا ننتظر تفسيراً لذلك على أي شاشة من شاشات هؤلاء الأبطال الخارقين، ولا من «سبايدر – مان» بالتحديد. في الواقع كاتبا الفيلم (كريس ماكينا وإريك سومرز اللذان كتبا الفيلم السابق من هذه السلسلة)، يبدوان كما لو أن الشيء الوحيد الذي جال في مخيلاتهما هو كيف يمكن تأليف حكاية من دون ضرورة شرح أسباب ما يدور. ليس، على الأقل، شرح كل سبب وجيه. هذه من المسائل التي من أجلها يبدو الفيلم تجميع أحداث ومفارقات مع حكاية لا تتوقف عند ذكر دافع أو مبرر أو لتسد ثغرة في الحدث الماثل.
لكن هناك لحظات إنسانية تمس المشاعر التي ما زالت تلهث وراء كل هذه القفزات التي يقوم بها «سبايدر – مان» والحكاية التي يقودها. هي أقل مما تبدى في الأفلام الأولى (أقل بكثير من نسخة سام رايمي)، لكنها متوفرة في الأماكن الصحيحة؛ قبل أن تتشتت طويلاً، قبل أن تعود من جديد.
من بين هذه اللحظات ما ينجح الفيلم في تصديره مثل شعور باركر/ سبايدر بالوحدة والعزلة أحياناً. مثل العلاقة العائلية التي تربطه بعمته، ومثل تلك التي تربطه بالفتاة التي أحبها. هذه منسوجة من الأفلام السابقة ولا بد من العودة إليها في كل مرة ولو بخيط قصصي متصل بما يقع من أحداث. الفصل الأخير من هذا الفيلم يحتوي على الأهم من هذه اللحظات؛ مما يعزز السبب الذي من أجله يختلف «سبايدر – مان» عن كل «مان» آخر. هو الأقرب إلى تداول المشاعر الإنسانية والعاطفية من سواه.
في ثنايا كل شيء، هناك خيط عاطفي إضافي يتمحور حول ما إذا كان على «سبايدر – مان» أن ينأى بنفسه عن فعل الانتقام من الأشرار أو الاندفاع صوب ذلك بكل قدراته. هذا موقف يتجاوز العاطفة بحد ذاتها ليتضمن السؤال الوجداني مسألة التسامح من عدمه.
هذا ورد في معظم ما سبق من أفلام السلسلة، وهو ما جعل، ولا يزال، شخصية «سبايدر – مان» محبوبة من قِبل عدد مساوٍ (واليوم أكبر) من الباحثين عن العوالم الداكنة في شخصيات «باتمان» و«فلاش غوردون» و«آيرون مان»... وسواهم.
مثل سواه من أفلام الـ«سوبرهيروز» في العامين الماضيين، يجمع الفيلم الجديد شخصيات عدة تمتد طولاً وعرضاً وتتلاقى في طي الحبكة الأكبر من أن تُلخص هنا. مواقف هذه الحبكة في الواقع لا تحتوي على مشاهد كثيرة يمكن العودة إليها في الذاكرة. بعضنا سيجد أنه بدأ يفقد ذاكرته حول مشاهد محددة في هذا الفيلم بمرور الساعة الأولى. احتواء شخصيات عدة مثير بحد ذاته وسبب للخلط بين توجهات الفيلم وأفكاره.
لا يعني ذلك أن «سبايدر - مان: لا عودة» يجمع العديد من شخصيات البطولة كما يفعل «ذا أڤنجرز» مثلاً («كابتن أميركا» على «فلاش غوردون» على «آيرون مان» وبلاك ويدو... إلخ)؛ بل بطريقة خالية من الفرض والرغبة في توظيف كل بطل خارق في وقت واحد. هذه أيضاً ميزة إضافية لكنها مستنتجة أكثر منها فاعلة.