لم تكن القمة الخليجية الـ41 التي احتضنتها مدينة العلا السعودية في الخامس من يناير (كانون الثاني) 2021 قمة المصالحة الخليجية - الخليجية فحسب، بل كانت بمثابة إشارة البدء لمصالحات في المنطقة عنوانها تصفير المشاكل وتغليب المصالح.
فبعد 43 شهراً من أزمة عصفت بمجلس التعاون لدول الخليج العربية، أنجزت قمة العلا اتفاقاً لإنهاء الخلاف الذي نشب بين 3 دول خليجية (السعودية والإمارات والبحرين) إضافة إلى مصر من جهة، وقطر من جهة أخرى. وافتتحت القمة العام بأجواء من التفاؤل، لتشرع تلك الدول باتخاذ خطوات عملية تبدي من خلالها حسن نواياها تجاه تنفيذ ما اتفق عليه.
أمام هذه القمة، لخص ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منطق المصالحة، حين ذكّر بأن «تأسيس هذا الكيان (مجلس التعاون) تم استناداً إلى ما يربط بين دولنا من علاقة خاصة وقواسم مشتركة متمثلة بأواصر العقيدة والقربى والمصير المشترك بين شعوبنا، ومن هذا المنطلق علينا جميعاً أن نستدرك الأهداف السامية والمقومات التي يقوم عليها المجلس لاستكمال المسيرة وتحقيق التكامل في جميع المجالات». وقال: «نحن اليوم أحوج ما نكون لتوحيد جهودنا للنهوض بمنطقتنا ومواجهة التحديات التي تحيط بنا، وخاصة التهديدات التي يمثلها البرنامج النووي للنظام الإيراني وبرنامجه للصواريخ الباليستية ومشاريعه التخريبية الهدامة التي يتبناها ووكلاؤه من أنشطة إرهابية وطائفية هدفها زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، مما يضعنا أمام مسؤولية دعوة المجتمع الدولي للعمل بشكل جدي لوقف تلك البرامج والمشاريع المهددة للسلم والأمن الإقليمي والدولي».
ولتأكيد المصالحة، بدأت الدول الخليجية الثلاث ومصر بفتح المباحثات مع قطر لعودة السفراء وبعث الدعوات للزيارات المتبادلة بين قيادات تلك الدول لاستكمال المصالحة وتنفيذ بنودها، ليعززها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بدعوة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد لزيارة السعودية في مايو (أيار) الماضي، ليعقد جلسة مباحثات مع الأمير محمد بن سلمان في جدة. وتعززت أجواء التفاؤل مجدداً بنشر صورة للقاء ودي أخوي جمع ولي العهد السعودي وأمير قطر ومستشار الأمن الوطني في دولة الإمارات الشيخ طحنون بن زايد في البحر الأحمر في سبتمبر (أيلول) الماضي.
- جولة عودة الخليج
وجاءت الجولة الخليجية للأمير محمد بن سلمان لتؤكد طي صفحة الخلاف بالكامل. كانت عناوين الجولة كافية لتأكيد هذه الرسالة: «تعزيز التعاون الثنائي، ودعم مسيرة التعاون الخليجي، ودعم الأمن والاستقرار في المنطقة، وتنسيق المواقف والرؤى تجاه مختلف قضايا المنطقة والأمة والعالم، وتوحيد الصف الخليجي».
عناوين دعمتها وأكدت مصداقيتها عشرات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين السعودية وشركائها الخمسة في مجلس التعاون. خرجت الجولة ونتائجها لتعبر عن مفهوم الخليج الواحد، والمصير المشترك، وتدفع بمسيرة العمل الخليجي نحو آفاق أرحب قبيل قمة دول المجلس الـ42 التي احتصنتها الرياض.
في قمة ختام العام – كما في قمة افتتاحه - أكد قادة دول الخليج حرصهم على «قوة وتماسك مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، والرغبة بتحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين، ووقوف دول المجلس صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دوله»، مع التشديد على مضامين «إعلان العُلا» والتنفيذ الكامل والدقيق والمستمر لرؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز التي أقرتها القمة الخليجية الـ36 في نهاية 2015، بما في ذلك استكمال مقومات الوحدة الاقتصادية والمنظومتين الدفاعية والأمنية المشتركتين.
- مساعٍ تركية للمصالحة
حركت المصالحة الخليجية المياه الراكدة بين دول المنطقة، فتلقى خادم الحرمين الشريفين اتصالاً هاتفياً من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مايو، هنأه فيه بعيد الفطر المبارك وجرى خلال الاتصال بحث العلاقات الثنائية بين البلدين، لتعلن بعدها دائرة الاتصال في الرئاسة التركية أن الزعيمين اتفقا على «إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين بلديهما».
وبعد الاتصال بأيام، زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الرياض ليبحث العلاقات الثنائية، فيما زار وزير التجارة السعودي ماجد القصبي إسطنبول في نوفمبر (تشرين الثاني) وبحث خلالها العلاقات الثنائية بين البلدين، وذلك على هامش «معرض المنتجات الحلال».
وفي أغسطس 2021، زار مستشار الأمن الوطني بدولة الإمارات أنقرة وألتقى الرئيس التركي، وذكرت مصادر إماراتية وتركية في ذلك الوقت أن اللقاء «عكس رغبة الدولتين في تجاوز الخلافات بينهما»، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لبحث ملفات الخلاف العالقة بينهما. وعقب زيارة الشيخ طحنون إلى تركيا بأسبوعين، أعلن عن اتصال هاتفي بين إردوغان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، أعاد التأكيد على توجهات المصالحة، ودعا خلاله إرودغان الشيخ محمد بن زايد لزيارة تركيا وهو ما تم في نهاية نوفمبر، حين بحثا في أنقرة «سُبل فتح آفاق جديدة للتعاون والعمل المشترك بين الإمارات وتركيا في جميع المجالات التي تخدم مصالحهما المتبادلة». واعتبر الرئيس التركي أن الزيارة «تمهد لمرحلة جديدة مزدهرة وواعدة من العلاقات والتعاون الذي يصب في مصلحة البلدين وشعبيهما والمنطقة»، فيما أعلنت الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات والاقتصاد التركي وتوثيق التعاون بين البلدين.
وعاد الرئيس التركي ليؤكد في زيارة له إلى قطر في 7 ديسمبر (كانون الأول) عن رغبته في تطوير العلاقات مع دول الخليج، مؤكداً أن بلاده ستفعل كل ما يلزم من أجل توطيد هذه العلاقات. وقال إنه سيواصل «تطوير العلاقات مع إخواننا في الخليج من دون أي تمييز، في إطار مصالحنا المشتركة والاحترام المتبادل». وأضاف: «نرحب بإعادة فتح الحوار والجهود الدبلوماسية لتجنب سوء التفاهم في منطقة الخليج... ونؤيد استمرار روابطنا وتضامننا مع جميع دول الخليج من خلال تقوية العلاقات المستقبلية». وأعلن أنه سيزور أبوظبي في فبراير (شباط) 2022.
مساعي المصالحة التركية مع الخليج امتدت أيضاً إلى مصر لتتطور الاتصالات الاستكشافية التي بدأت على المستوى الأمني في نهاية 2020، إلى مسار تفاوضي لتصحيح العلاقات. وشهدت القاهرة في مايو أولى الجولات الرسمية المعلنة بين وفدين من الخارجية المصرية والتركية لبحث ملفات الخلاف، والتمهيد لعودة العلاقات الدبلوماسية، وأعقبتها جولة ثانية عُقدت في أنقرة، في سبتمبر، ليكشف وزير الخارجية المصري سامح شكري عن تقديم مصر حزمة من المطالب والتوقعات للجانب التركي، مؤكداً أن رفع مستوى العلاقات سيكون «في الوقت المناسب» وبما يراعي المصالح المصرية.
وأعلن الرئيس التركي في نوفمبر اعتزام بلاده التقرب تدريجاً من مصر، بعد فتحه صفحة جديدة مع الإمارات، مشيراً إلى استعداده لتسمية السفراء وفق جدول زمني محدد عند اتخاذ هذا القرار، وإن اعتبر أن الأمر سيتم في إطار مخطط شامل. ومع هذا يتوقع أن يشهد العام الجديد مواصلة المباحثات التركية - المصرية لبدء صفحة جديدة من العلاقات.
- حوار «استكشافي» مع طهران
ولم يكن مسار العلاقات الخليجية مع إيران بعيداً عن هذه الأجواء، فاحتضنت بغداد جولة من المحادثات السعودية - الإيرانية شهدت بحث «المسائل العالقة بين البلدين وفقاً لخارطة طريق تم الاتفاق عليها سابقاً، بما في ذلك التمثيل الدبلوماسي»، وأعقبتها جولات مباحثات وصفها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بأنها كانت «ودية» و«استكشافية».
لم يعتبر الوزير السعودي الأمر تحولاً كبيراً، «فدائما ما نقول إننا نريد إيجاد سبيل لتحقيق الاستقرار في المنطقة». وشدد على أن المملكة «جادة بشأن المحادثات»، فيما أشاد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بالحوار مع السعودية، «نظراً لأهمية دور البلدين في المنطقة». وقال إن الحوار «بناء ويسير في الاتجاه الصحيح ويصب في مصلحة البلدين والمنطقة عموماً».
وبموازاة الحوارات الاستكشافية، جاءت زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي إلى طهران في ديسمبر، بعد 5 سنوات من توقف التواصل على هذا المستوى بين البلدين، لتؤكد توسع مسارات تصفير المشاكل في المنطقة. غير أن 2022 ستختبر المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه المسارات المختلفة وقدرة الأطراف على طي صراعات الماضي والنظر إلى المستقبل.
- المشهد الخليجي بين قمتين.. عهد جديد وانطلاقة واثقة نحو المستقبل