ترى الأوساط المؤيدة للمعارضة في تركيا أن رفض السياسية المخضرمة ميرال أكشينار، رئيسة حزب «الجيد» التركي المعارض، ما تعتبره محاولات القنوات الموالية للحكومة استفزازها والتشويش على جولاتها ولقاءاتها مع المواطنين في أنحاء البلاد، تجسيداً لما تتعرض له أحزاب المعارضة من تضييق واستهداف. ووفق هذه الأوساط يحصل ذلك في ظل غياب المنصات الإعلامية الداعمة للقوى المعارضة بسبب سيطرة الحكومة على أكثر من 95 في المائة من وسائل الإعلام في البلاد، بحسب ما رصدت منظمات دولية متخصصة.
هذا الوضع دفع المعارضة التركية إلى محاولة التعويض بوسائل التواصل الاجتماعي. وعبر هذه الوسائل تحاول الآن الوصول بأفكارها وآرائها إلى الجمهور، بالإضافة إلى قنوات تلفزيونية وصحف تعد على أصابع اليدين وتواجه محاولات بأساليب حكومية مختلفة للتضييق عليها. بل حتى وسائل التواصل الاجتماعي تتعرض إلى محاولات للسيطرة عليها عبر تشريعات متعددة اقترحها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم بزعامة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وحليفه حزب «الحركة القومية».
الرئيس إردوغان هاجم أكشينار لانتقادها قناة «إيه خبر» الموالية له، قائلا في كلمة خلال مهرجان للشباب في العاصمة أنقرة، أخيراً: «سامحوني سأتحدث عن السيدة التي تترأس حزب الجيد، كيف لامرأة أن تتمادى في الشتائم إلى هذا الحد، تحت سقف البرلمان... إنها لا تعلم شيئاً عن الأدب أو الحياء». وكانت أكشينار قد قالت، في كلمة أمام المجموعة البرلمانية لحزبها: «يمكنكم (الحكومة) استفزازي عبر قناة إيه خبر - الموالية للنظام -... يمكنكم استفزازي عبر مَن يزورون المواقع الإباحية، لقد فعلتم ذلك يا أخي إردوغان... ليكن، مَن يخافون منكم هم مثلكم!».
تضييق وضعف إمكانيات
في أي حال، تعاني أحزاب المعارضة في تركيا غياباً شبه تام لأي نافذة تطل عبرها على الجماهير، فتعرض أفكارها وبرامجها وحلولها للمشاكل التي تواجهها البلاد. أما السبب الأساسي، كما سبقت الإشارة، فهو خضوع ما يفوق 95 في المائة من الصحف والقنوات التلفزيونية للسيطرة المباشرة أو غير المباشرة لحزب «العدالة والتنمية الحاكم». ونتيجة لهذا الوضع تحاول الأحزاب والشخصيات السياسية المعارضة الوصول إلى الجماهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي عوضت إلى حدٍ بعيد غياب نوافذ التعبير، ووفرت تفاعلاً مباشرا ومؤثراً مع جموع المواطنين. وعلى سبيل المثال، عندما أعلن رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، في ديسمبر (كانون الأول) 2019 إطلاق حزبه المعارض الجديد باسم «المستقبل»، بعد انفصاله عن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم لخلافات مع الرئيس إردوغان، فإنه انتقد صراحة «سياسات التضييق» التي ذكر أن إردوغان وحكومته يفرضانها على المؤسسات الإعلامية.
والواقع أن داود أوغلو لم يجد قناة واحدة تغطي حفل إطلاق حزبه الجديد، ما اضطره إلى إطلاقه عبر موقع«فيسبوك»، واشتكى من أن أجهزة حكومة إردوغان «تصدر قرارات سياسية بعيدة عن القانون» بهدف التضييق على المؤسسات الإعلامية المعارضة.
إعلام المعارضة
في المقابل، يوجد عدد من الصحف والقنوات، تعد على أصابع اليدين، لا تزال في صف المعارضة، لكنها تواجه أزمات وضغوطاً من جانب الحكومة، سواء بملاحقتها بالضرائب أو فرض الغرامات الضخمة أو إيقاف البرامج. ولم تكن الحال بالنسبة لنائب رئيس الوزراء الأسبق علي باباجان أفضل بكثير مما كانت عليه مع داود أوغلو، فبعد استقالته من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في يوليو (تموز) 2019 أطلق حزبه «الديمقراطية والتقدم» في مارس (آذار) 2020، وبدوره لم يحظ حزب باباجان بتغطية إعلامية تذكر، ولم تلق تحركات باباجان إلا لقاء واحدا ظهر فيه على قناة «خبر تورك»، والظهور مرة أخرى عبر موقع «تي 24»، إلا أن الاعتماد الرئيسي لفريقه يبقى منصباً على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلا عن قناة «فوكس» التي باتت النافذة الأبرز للمعارضة مع قناتي «تيلي 1» و«خلق تي في».
من ناحية أخرى، أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي فاعلية كبيرة جداً في الحملة التي خاضها رئيس بلدية إسطنبول (المعارض) أكرم إمام أوغلو خلال الانتخابات المحلية في مارس 2019، ولقد فاز إمام أوغلو في جولتها الأولى، ثم في جولة الإعادة في يونيو (حزيران)، بفارق شاسع جداً عن منافسه رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم. وكان الأخير قد حظي بدعم «ترسانة» من القنوات والصحف الموالية لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، ومع ذلك تفوق عليه إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري في الجولتين.
وبعد هذه التجربة، اعتبر خبراء أن وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت انقلاباً هائلاً في تلك الانتخابات، وباتت القبضة المفروضة على وسائل الإعلام التقليدية من جانب الحكومة قليلة الجدوى وضعيفة التأثير بشكل كبير، لا سيما بعدما باتت جميعها صوتاً واحداً ينطق بلسان الحكومة، ما دفع المواطنين للبحث عن التنوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وحقاً، تنبهت الحكومة إلى خطورة وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح فعال في يد المعارضة، منحها قوة تأثير هائلة في الشارع التركي، وبالأخص في أوساط الشباب والمثقفين. ولهذا السبب شن إردوغان وحليفه رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، حملات لشيطنتها ووصفها بأنها «مكمن الشرور والقاذورات».
وفي السياق ذاته، أقر البرلمان التركي العام الماضي قانوناً فرض قيوداً مشددة على مشغلي مواقع التواصل الاجتماعي، وألزمها بفتح مكاتب وتعيين ممثلين في البلاد، والسماح للحكومة بالاطلاع على محتوى بعضها وتقييده، كما فرض غرامات ضخمة على المخالفين.
مزيد من القيود
أيضاً، طرحت الحكومة على البرلمان خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مشروع قانون يفرض مزيداً من القيود على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بذريعة التصدي لنشر معلومات وأخبار كاذبة. وتضمن مشروع القانون هذا محاكمة المتهمين بإهانة شخص في وسائل التواصل الاجتماعي بالسجن لمدة تتراوح من 3 أشهر إلى سنتين، كما يواجه الذين ينشرون ويصدرون أخباراً كاذبة عقوبات بالسجن من سنة إلى 5 سنوات.
هذا، وأفادت تقارير سابقة بأن حكومة إردوغان تعتزم إنشاء هيئة، ربما تسمى «المجلس الأعلى لوسائل التواصل الاجتماعي»، بالتنسيق مع «المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون» الذي هو أعلى هيئة تنظيمية ورقابية على وسائل الإعلام في البلاد. وقال إردوغان، بهذا الصدد، إننا نعتزم «منع التلوث» بإقرار لائحة لتنظيم مواقع التواصل الاجتماعي على شاكلة المعمول به في أوروبا. وتوعد السياسيين والصحافيين وغيرهم من الفئات بتقييد الوسائل التي يستخدمونها لإثارة الرأي العام. وتابع مضيفاً «لن ننسى كم عدد الشخصيات الممتلئة قلوبهم بالعداء تجاه بلدهم، من سياسيين إلى صحافيين ومتصيدين على مواقع التواصل الاجتماعي... إنهم يحاولون استغلال آلام أمتنا بالكذب والتشويه والاستفزاز».
غير أن المعارضة التركية سارعت إلى وصف مشروع القانون المقترح، بأنه «أداة جديدة من أدوات قمع حرية التعبير وكبت الآراء المعارضة والانتقادات» الموجهة لإردوغان وحكومته. وطالبت بالتوقف عن فرض المزيد من القيود. وقال علي باباجان، رئيس حزب «الديمقراطية والتقدم» في سياق انتقاده إن «الشباب اختنقوا ويحاولون الهروب خارج البلاد بسبب كثرة القيود».
ومن جانب آخر، كشفت مؤسسة «حرية التعبير» الحقوقية، عن أن عدد المواقع الإلكترونية المحجوبة في تركيا، بلغ العام الماضي 467 ألفاً، ما اعتبره معارضون «دليلا على استمرار النهج القمعي» في البلاد. وذكرت المؤسسة، في تقرير لها، أن قرار حجب المواقع الإلكترونية لا يعود فقط للجهات القضائية المختصة؛ بل هناك أكثر من 20 مؤسسة رسمية، لا صلة لها بالمحاكم، لديها القدرة على حجب أي موقع من دون الحصول على قرار قضائي. وأن نحو 95 في المائة من قطاع الإعلام يخضع الآن لسياسة قصر إردوغان التحريرية، إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبينما يثير وضع حرية الصحافة والتعبير في تركيا انتقادات واسعة من جانب المنظمات المعنية بحرية الصحافة وشؤون الصحافيين، أفاد تصنيف منظمة «مراسلون بلا حدود» بتراجع تركيا إلى المرتبة 157 بين 180 دولة في قائمة حرية الصحافة.