البحث عن الألوان الطازجة في منابع الشمس ووهج الأنوثة الفائر

«نوا نوا» أو يوميات بول غوغان في تاهيتي

بول غوغان عام 1891
بول غوغان عام 1891
TT

البحث عن الألوان الطازجة في منابع الشمس ووهج الأنوثة الفائر

بول غوغان عام 1891
بول غوغان عام 1891

يشترك الرسامون والكتاب، بخاصة الشعراء منهم، في التقاط الإشارات التي ترسلها إليهم الحياة على شكل صور متناثرة أو احتدام عصبي، أو وميض غامض يحتاج إلى من يتقن تظهيره وينقله إلى طور التشكل. على أن الطرفين اللذين يغرفان من اللهب ذاته أو الينابيع إياها، يفترقان كما هو معلوم في طريقة تعبير كل منهما عن مكابداته، حيث الكتاب والشعراء يتخذون من اللغة أداة للإفصاح عن كشوفهم الرؤيوية، فيما يجعل الرسامون من الألوان والخطوط سبيلهم إلى الهدف نفسه. وقد تكون عبارة «الرسم بالكلمات»، التي وصف نزار قباني من خلالها فن الشعر، هي التجسيد الأمثل للعلاقة الوثيقة بين الكتابة وفن الرسم، حيث لا يحتاج توصيف هذا الأخير إلا إلى قلب العبارة القبانية لتصبح «الكلمات بالألوان». أما الشواهد الأبلغ على تفاعل كل من الوسيلتين التعبيريتين مع الأخرى، فتتمثل في العدد الهائل للقصائد التي استوحاها الشعراء من لوحات التشكيليين ومنحوتاتهم، ومن الأعداد المماثلة للوحات والمنحوتات التي تم استلهامها من قصائد الشعراء والنصوص النثرية العالية.
على أن التقاطعات العديدة بين الكتاب والتشكيليين لم تدفع كلاً من الطرفين إلى الالتزام النهائي بالفن الذي يتقنه إلى درجة الاحتراف، أو على وضع خطوط تماس صارمة بين الطرفين، بل عمد كل منهما إلى اختراق المجال الحيوي للآخر، من خلال الهوية المركبة التي مكنت بعض المبدعين من توزيع موهبتهم على غير حقل تعبيري، بحيث أظهر شعراء وكتاب كثر براعة حقيقية في الرسم، كما هو حال غارسيا لوركا وجبران خليل جبران وناظم حكمت وإيتيل عدنان، فيما أظهر رسامون وتشكيليون عديدون براعة موازية في مجال الكتابة، كما هو حال رامبرانت وفان غوخ وسلفادور دالي وكثر آخرين.
تكشف المذكرات التي كتبها الرسام الفرنسي الشهير بول غوغان، عن رحلته إلى تاهيتي، التي صدرت طبعتها الثانية مؤخراً عن دار «خطوط وظلال»، ونقلتها إلى العربية أبية حمزاوي تحت عنوان جديد هو «يوميات بول غوغان في تاهيتي»، عن قدرة الفنانين الكبار على المواءمة الناجحة بين الكتابة وفنون التشكيل، سواء من حيث الفضاء التخييلي الشاسع، أو من حيث القدرة على تحويل الحواس إلى منصة للتأمل والكشف والتبصر الروحي والرؤيوي. ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن الجانب الأهم في رحلة غوغان إلى الجزيرة الواقعة في الطرف الأخير للكوكب ليس المذكرات بحد ذاتها، بل هو الرحلة نفسها بوصفها مجازفة نادرة ومحفوفة بالمخاطر، لا يرتضي خوضها سوى كوكبة من المغامرين، الذين يديرون ظهرهم دون ندامة، لبهرج الحضارة المستجدة وقشورها الزائفة، دون أن ينتقص ذلك بالطبع من الجمالية العالية للغة المؤلف، أو من أسلوبه السردي المحكم والمشوق.
ولعل المآل المرير الذي انتهت إليه علاقة غوغان بصديقه فان غوخ في الجنوب الفرنسي، بعد فترة من الألفة والتناغم الشخصي والإبداعي، قد شكل العامل الحاسم في دفع غوغان إلى النأي بنفسه بعيداً عما يعرقل مسيرته من عوائق ومنغصات، باحثاً عن المنعطف الجذري الذي يضع حياته وفنه في مسار آخر.
وإذا كان البحث عن سحر الشرق، الممتد بجغرافيته الشاسعة من شواطئ المتوسط إلى جزر اليابان، قد شكل السمة المشتركة لعدد من كتاب الغرب وفنانيه، كما كان حال غوته ونوفاليس وأرنست رينان وغيرهم، فإن صاحب غوغان قد ذهب بعيداً في تعطشه إلى اكتشاف المجهول والبحث لضربات فرشاته عن الألوان الصارخة في توهجها، قاصداً الجزيرة الواقعة في الأحشاء الشرقية الجنوبية للمحيط الهادئ، التي كانت فرنسا قد ضمتها حديثاً إلى ما سمته مستعمرات ما وراء البحار.
«في ليلة الثامن من حزيران، وبعد ثلاثة وستين يوماً من السفر، ثلاثة وستين يوماً من التلهف والانتظار، لمحنا عن بُعد ناراً غريبة تتماوج على صفحة الماء، ومن السماء أفلتت قمة بركانية ذات أثلام». بهذه اللغة البصرية الباذخة يستهل غوغان انطباعاته عن تاهيتي، التي لا يصح في رأيي نعتها باليوميات لأنها لا تعتمد على التقسيم الزمني اليومي لتأريخ الرحلة، بل على التدوين التلقائي والحر لما علق في ذهن المؤلف من أحداث وانطباعات. فالكتاب الصغير الذي لا يكاد عدد صفحاته يبلغ المائة، لا يغطي سوى بعض وقائع المرحلة الأولى من إقامة غوغان في الجزيرة النائية، التي غادرها مؤقتاً لتسويق أعماله التشكيلية في باريس، قبل أن يعود إليها من جديد ليقضي بقية حياته في كنف عوالمها البدائية وأهلها البسطاء الذين تتأرجح أمزجتهم بين السكينة الوادعة والتماهي الكلي مع شراسة الطبيعة وتحولاتها المباغتة.
وإذا كانت الصدفة المجردة هي التي شاءت أن يترافق دخول غوغان إلى العاصمة التاهيتية بابيتي مع رحيل الملك المريض بوماري، فقد حرص غوغان على توثيق تلك اللحظة المفصلية في تاريخ الجزيرة، سواء من خلال انتقالها النهائي إلى عهدة الفرنسيين، أو من خلال الطقوس الجنائزية المحلية التي تتم في مثل هذه الحالات، والتي يشارك في إحيائها سكان الجزر الصغيرة المجاورة، قبل أن ينتهي كل شيء وتعاود عجلة الحياة دورانها الأبدي. فخلال أيام قليلة يستعيد الناس مرحهم الاعتيادي وحيويتهم الفائضة الممهورة بلهب الشموس، حيث الرجال الأشداء الذين يضربون الأرض بأقدام مثيرة للغبار، يمسكون بأيدي نساء مبرعمات الصدور لهن، كما يقول غوغان «وداعة وليونة حيوان صغير، قوي ومعافى، وتفوح منهن رائحة حيوانية ونباتبة، كما عطر دمائهن وأريج الغاردينيا المشكولة في شعرهن، ويهزجن بصوت واحد: (يني ميراهي نوا نوا)». ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هذه العبارة التي تعني بالعربية «الآن نفوح شذى» هي العنوان الأصلي لمذكرات بول غوغان الذي عرف من خلال علاقاته العاطفية بنساء تاهيتي، كيف ينقل ذلك الشذى النفاذ إلى لوحاته اللاحقة.
لم تُصب العاصمة بابيتي أي هوى في قلب غوغان. لا لافتقارها إلى الجمال، بل لأن الأوروبيين قد حولوها بفعل جشعهم المفرط وهوسهم بالتجارة والربح، إلى مدينة هجينة يتم بشكل ممنهج إبعاد سكانها عن نقائهم الأصلي وإدخالهم في شبكة أخرى من علاقات الانتفاع والرياء والتكاذب الاجتماعي. ولأن المرأة بالنسبة لغوغان هي المعيار الحساس والأكثر تعبيراً عن الحقيقة الإنسانية، فهو لم يستطع مواصلة علاقته بالأميرة فاييتوا التي كُلفت برعايته أثناء المرض، لأنها أجهدت نفسها بغية إرضائه في تقليد السلوكيات الغربية الوافدة، وفي استعراض ثقافتها الأوروبية، فيما كان هو يبحث على النقيض من كل ذلك، عما تتركه براكين البلاد في أعماق نسائها من وهج الأصالة وذهبِها المختزن.
ولم يتوان الرسام الأربعيني في إطار المقارنة بين التقاليد الاجتماعية الغربية والأخرى التاهيتية، عن الانتصار للثانية على الأولى، ليس فقط بما يخص براءة السلوك ونقاء السريرة، بل بما يخص العلاقات العاطفية بين الجنسين، وخلوها التام من العقَد والتابوهات. ففي تاهيتي «تمنح الغابة والنسيم الآتي من البحر، القوة للرئة فتتسع، وتنمو الأكتاف عريضة. رجالهم ونساؤهم يتعرضون بالقدر نفسه لأشعة الشمس ويدوسون الحصى والرمال. وهذا التقارب بين الجنسين جعل علاقاتهم شديدة السهولة، وحالة التعري الطبيعية الدائمة أبعدت أذهانهم عن مشاغل الجسد (الغامض) التي تولَد توتراً شديداً لدى الشعوب المتمدنة». أما في بيئتنا الأوروبية، يقول غوغان «فبفضل الأحزمة والمشدات، نجحنا في جعل المرأة كائناً كامل التشوه، وأبقيناها في حالة من الضعف العصبي والدونية الجسدية».
ومع أن غوغان يفرد صفحات شتى للحديث عن الحضارة الماوورية وما تحفل به من حكايا وأساطير متصلة بأصل الخليقة وآلهتها الكثيرة المنوط بها تنظيم شؤون الطبيعة والبشر، فإن الاسترسال في تعقب معتقدات السكان الأصليين، قبل وصول بعثات التبشير المسيحي، قد أسهم في إبطاء السرد وحشوه بفائض غير مبرر من الأسماء والتفاصيل من جهة، وفي حرمان القارئ من تعقب مسيرة المؤلف بكل ما يكتنفها من غرابة وقدرة على الإدهاش. أما زواج غوغان من الفتاة اليافعة تاهورا، فيعود الفضل فيه إلى الصدفة وحدها، حيث عرضت عليه امرأة أربعينية أن تزوجه من ابنتها الجميلة، فيما لو قطع لها وعداً صادقاً بإسعادها والاعتناء بها. وهو ما حدث بالفعل، حيث استطاعت هذه الفتاة، بما تمتلكه من فتنة وذكاء، أن تحرض زوجها على الرسم، وأن تجسد بالنسبة له الروح الماوورية المترعة بالاندفاع الشهواني والغموض الساحر. إلا أن تاهورا التي بدأت تتعلق شيئاً فشيئاً بزوجها القادم من وراء المحيط، ما لبثت أن شعرت بصدمة قاصمة وهو ينقل إليها خبر مغادرته للجزيرة وعودته إلى بلاده الأم، قبل أن يكتشف فيما بعد أنه لم يعد قادراً على تحمل العلاقات الرأسمالية المنفرة التي بدأت تلقي بظلالها على البشر في بلاد الغرب، ويعود أدراجه ثانية إلى الجزيرة الفردوسية التي شهدت ولادته الثانية، والتي أراد لها أن تكون مثواه الأخير. وحين لوحت له تاهورا بمنديل الوداع، لم يملك غوغان سوى أن يستعير لها من إحدى شاعرات تاهيتي هذه الأبيات المؤثرة:
إيه يا نسائم الجنوب والشرق اللطيفة
تحومين بعذوبة وتحلقين فوق رأسي
أسرعي إلى الجزيرة المجاورة
هناك ستجدين في ظل شجرته المفضلة
ذلك الذي هجرني
قولي له إنك رأيتِني أبكي



غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.