عمر راجح: الجهل يسيطر على بيروت... لكن الأفكار لا تموت

يتحدث لـ «الشرق الأوسط» بعدما منحته فرنسا وساماً برتبة فارس

الكوريغراف والراقص اللبناني عمر راجح
الكوريغراف والراقص اللبناني عمر راجح
TT

عمر راجح: الجهل يسيطر على بيروت... لكن الأفكار لا تموت

الكوريغراف والراقص اللبناني عمر راجح
الكوريغراف والراقص اللبناني عمر راجح

لم يجرؤ الكوريغراف والراقص اللبناني عمر راجح، على اتخاذ قرار مغادرة بيروت قبل سنوات، لشعوره بالالتزام حيال المدينة ومشهدها الثقافي. كان يعلم أن الرحيل سيمنحه فرصاً ينتظرها، وظل يؤجل حتى حان الوقت. غادر وزوجته ميا حبيس، وهما المديران الفنيان لفرقة «مقامات» الرائدة للرقص المعاصر، لبنان، للإقامة في ليون الفرنسية قبل نحو السنتين، ومنها يقدمان فناً رصيناً يحوم حول الذات والوجود. «لم نرد أن نشعر بالغربة. أردنا مكاناً يحتضننا كأننا في بيروت»، يقول في حوار هاتفي مع «الشرق الأوسط» من موسكو، حيث قدم عرضاً يحاكي الكون الفسيح والداخل الإنساني العميق.
شكل قرار الدولة إقفال «سيترن بيروت» ضربة على رأس مؤسسه عمر راجح، فتساءل: «لِمَ أضيع مزيداً من الوقت؟». وضب الحقائب وغادر. فسحة ثقافية في منطقة الكارنتينا، أقيمت على مسارحها العروض وجمعت الباحثين عن حيز للتعبير. جفن الدولة لم يرف، وبأعصاب باردة أنهت كل شيء.
يتحدث عمر راجح عن الواقعية في مقاربته الأمور: «مشروع ثقافي ضخم، شُطب من دون إحساس بالذنب. أصبحتُ أمام واقع يحتم التحرك لمواجهته. أسستُ على الفور منصة أونلاين تحمل اسم (سيترن دوت لايف) للإبقاء على بث العروض. أمكن أن تكون بيروت واحدة من أهم العواصم الثقافية. اليوم، يسيطر الجهل».
عشرون سنة، وهو يعبر عن وجوده بالرقص الخلاق القائم على الأسئلة. خبرة مُصقلة بالتجارب، يحملها إلى مسارح عالمية، آخرها في روسيا. بشغف المتطايرة روحه بين الذرات الهائلة، فلا يعود يشعر بأي ثقل، يتحدث عن عرض «يونيون» (اتحاد): «هو امتداد لعرض قدمناه في موسكو قبل سنتين. طلب مركز (كالوغا) الثقافي من (مقامات) استمرار التعاون. أرادوا عرضاً مستلهماً من عالم الصواريخ والفضاء، يربط مصير الكائن بمصير الكون. تفاعُل الناس كان مدهشاً».
تغمر الراقص المجتهد السعادة والجمهور يصفق على وَقْع خفقان قلبه، في عرضَي مدينتَي كالوغا وموسكو. كإحساسه بالتأثر وهو يتسلم وسام الفنون والآداب برتبة فارس من وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشيلوت ناركين. وقبل أن نهم بطرح السؤال الحزين، شعر بوخز المقارنات الأليمة، فأكمل بنفسه: «الدولة اللبنانية وبعض مدعي الثقافة (يلبطون فينا). هناك مَن يقدر الفنون والعروض الإبداعية، لكنها ليست الدولة ولا وزارة الثقافة. في فرنسا، يعاملون الفنان باحترام. يدعمونه ويساندونه في أحلامه ومشاريعه. يكفي الاهتمام لنشعر بالحماسة لتقديم المزيد. يراقبون جيداً المشهد الثقافي، ويبادلون المبدعين بالتقدير والتكريم. الوسام تحية لمشاريعنا التي لم يشلها (الكوفيد)، وتصميمنا على العروض الرقمية والخروج بأفكار مختلفة تتيح التقدم الإنساني».
يعمل في ليون كأنه لا يزال في بيروت، بالزخم والشغف والحب الذي لا يتغير، وإن تبدلت الأماكن. الوطن بالنسبة إليه مسألة عاطفية، فهو الطفولة والتربية والذاكرة، لكن الحياة تصبح فجأة في مكان آخر: «لا شأن لذلك بما يُحكى عن وطن بديل. لم نتخذ قرار المغادرة بسهولة. رحلنا بعد إدراكنا بأن الأمور لن تتحسن قريباً. تركنا بيروت لنُكمل ما بدأناه من أجلها».
يقرأ الصحف اللبنانية يومياً ولا يريد انقطاع الصلة. بينما يُكرم بأحد الأوسمة الوزارية الأربعة الرئيسية للجمهورية الفرنسية، وتلمح فيه وزيرة الثقافة رؤية فنية تتيح التفكير والإبداع وتطوير الرقص بأساليب مستدامة؛ وبينما يشارك الروسَ في عروضهم الضخمة، بعد أن كانت «مقامات» الفرقة العربية الأولى التي تعرض في «مسرح البولشوي»، ينظر بأسى إلى لبنان ويقول: «فجروا حتى الأمل».
يهون على نفسه: «من فرنسا يمكنني العمل لبيروت. يحق لعائلتي حياة أفضل من المأساة. تكفي الحروب التي عشناها، فلِم نورثها لأولادنا؟». يتساءل عن جدوى المعاناة في الوطن الذي غادره، ولا تزال عاصمته تعني له كثيراً: «لبنان محكوم بمشاريع عنجهية وانتصارات وهمية. التراشق الكلامي الحاقد في أعلى مستوياته، لكن الإنسان الفقير عاجز عن شراء ربطة خبز. أكثر ما يؤلم أن العدالة مفقودة. يبقى السؤال: لماذا على اللبناني انتظار الاتفاق الأميركي الإيراني ليقرر شكل مستقبله؟».
الأهم، وفق عمر راجح، هي الرؤية والنظرة إلى الأشياء. الإقفال القسري لـ«سيترن بيروت»، لم يقتل فكرة الرقص. التحول إلى عالم «الديجيتال» وعروض «الأونلاين»، والإبقاء على صفوف الرقص المجانية، وإقامة «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر» كل عام، كلها خلاصة التمسك بعظمة الأفكار وقوتها. «هكذا نراكم ونبني ونستمر»، يقول، مقتنعاً دائماً بجدوى المخارج.
في إمكان عرض مسرحي واحد (أو فيلم أو رواية) تغيير النظرة إلى الحياة. عمر راجح ممن يحتضنون هذا الصنف من الفن: التغييري المختلف. يشبه الأمر بكاتب يبحث في مؤلفه عن معلومة جديدة أو أسئلة لم تُطرح: «إنها الطريقة التي أتعامل بها مع الرقص.
أندفع في اتجاه الزوايا المجهولة وأبحث عما لا تتيح عجلة الأيام السريعة التفكير به. قد يكون ما ألاحقه شيئاً هائماً في الهواء. لكنني أصر على الحلم مثل شاعر يلاحق قصيدة مختلفة خارج اليوميات الجامدة». فرنسا لمحت الإصرار ومنحت صاحبه ما يستحق.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».