أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»

«مشروع أومّا» للطفية الدليمي

أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»
TT

أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»

أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»

السخرية اللاذعة التي يواجه بها «فلاح» أصدقاءه المثقفين المتحمسين لإنقاذ أنفسهم وبلادهم من يأسها في شقة العزاب ببغداد، بتشبيههم بقادة «الفيالق السومرية» في مدينة «أوما» في عهد ملكها القوي «لوكال زاكيسي» الذي كان يتحضر لغزو «لكش» والاستيلاء على كنوزها ثم توحيد بلاد سومر، هي حجر الأساس المهمل الذي يتنكر السرد له في رواية الكاتبة العراقية لطفية الدليمي «مشروع أوما» - منشورات «المدى»، 2021. هذه السخرية نقرأها، ابتداءً، في استرجاع خارج زمن السرد الذي يبدأ بعودة إبراهيم الصافي لبلدته/ قريته الصافية. لم تستقر الرواية على توصيف نهائي للصافية؛ فهي بلدة، وهي قرية أيضا، برغم أن توصيف البلدة أكثر تواترا واستخداما في الرواية.
قصة العائد وما يتصل بها من عوالم سردية مغرية، إذن، هي الأصل الذي تدافع عنه الرواية وتتعمد تبريزه عبر العنوان، أولا، بما يقدمه من تأويل سردي مخصوص. وهناك، ثانيا، ثيمات العمل المتعلقة ببناء عالم متخيل يوازي عالمنا الحقيقي؛ غير أن المفارقة أن مقاصد الرواية وعالمها السردي لا تنجح في إخفاء و«طرح» القيمة الفائقة لـ«سخرية» فلاح السوداء وقد تكفلت، بمفردها، بصناعة المشهد بطرفيه اللذين سيحيلاننا إلى زمنين ومكانين وقصتين مختلفين تماما «وقد نتحدث عن ثلاث قصص!»، وهي ذاتها ما سيحسم توزيع المادة الحكائية في الرواية على قسمين: الأول بعنوان «وقائع بلدة الصافية»، والثاني بعنوان «مشروع أوما»، وينشغل القسمان بتوزيع مادتهما الحكائية على فقرات تحمل عناوين مختلفة.
القصة المضمرة: حي بن يقظان... أربعة مؤلفين لقصة واحدة، أربعة ينفذون «مشروع أوما».
ولكن لماذا كل هذه الأهمية لسخرية «فلاح»، الشاب شبه الفوضوي الذي لم يستقر، في حياته، على «عمل» أو «دراسة»؛ فمن دراسة الفلسفة في الجامعة التي هجرها ليعمل «بائع كتب» ومصمم ديكورات ومصور أفلام قصيرة وعازفا في فرقة موسيقية، إلى «صيغة المبالغة» الملازمة لاسمه كما يصحح لأصدقائه: «فَلّاح» وليس بـ«فلاح» «يا ناس اسمي على وزن (فعّال)». هذا القدر اللافت من «الفوضوية» المصاغة بسخرية فاقعة أعطت كلامه وسلوكه النافرين قيمة كبرى نجدها بصياغة أخرى ومختلفة لقصة ضمنية لا يصرح بها السرد سوى مرة واحدة ثم يهملها. إنها قصة «حي بن يقظان» التي تعاقب على «تأليفها» أربعة فلاسفة مسلمين، هم: الفيلسوف «ابن سينا» وقد كتبها أثناء سجنه، وأعاد كتابتها الشيخ شهاب الدين السهروردي، وتولى إعادة كتابتها، مجددا، الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، والكتابة الأخيرة كانت على يد ابن النفيس. عندنا هنا أربع صياغات لقصة واحدة، تتحدث عن شخص واحد يسمى «حي بن يقظان» الذي ينشأ على جزيرة منعزلة برعاية «ظبية» تجده هناك، وقد ضاع منها ابنها، فترضع الطفل وترعاه. يستعيد إبراهيم الصافي «لأمر لم يعلنه» قصة حي بن يقظان أمام أصدقائه ويجري بينهم حديث عن القصة الفلسفية التي تنسجم وقائعها مع رغبة المتحاورين بالخروج من مأزقهم الشخصي في بلادهم المحطمة؛ فتصطدم القصة المستعادة بسخرية «فلّاح» الذي يستعيد، ساخرا، مشهد المدينة السومرية المتأهبة للانقضاض على «لكش» وتوحيد سومر. وشتان بين المشهدين، مشهد الفيالق السومرية ومشهد الأصدقاء المتحمسين لإنقاذ أنفسهم من الطوفان. في المشهد الأول كان هناك «ملك» قوي يحكم «مدينة» صاعدة ستنجح بتوحيد بلاد سومر، فيما المشهد الثاني يختصره أربعة شباب يائسين لا يملكون غير «الثرثرة» سبيلا لإنقاذ أنفسهم من الطوفان القادم.
يهمل السرد قصة «حي بن يقظان» ومقاصدها، مثلما لا يحتفي كثيرا بسخرية فلّاح، ويدشن عالمه بمنطق العائد «إبراهيم الصافي» إلى قريته بعد تسع سنوات؛ غير أن إبراهيم لا يعود لبلدته المخربة وبساتينها المحترقة ليروي ما حصل، كما تعودنا في سردية المنفي العائد في روايات عراقية وعربية كثيرة. إنه يعود ليفتح بيت أهله المهمل بعد وفاة أمه، يعود لحب عمره «زهيرة الصافي»، ويعود ليحول سخرية «فلاح» إلى واقع وفي باله أن «الصافية»، بلدته، هي أوما السومرية التي يجب «الشروع» ببنائها. يترك إبراهيم أصدقاءه في بغداد ويعود ليبدأ العمل بـ«مشروع أوما». وقبل أن يغادر يدعوهم للالتحاق به، وسنجد، بعد حين، أن فلّاح وفيصل هما الملتحقان الوحيدان به. هكذا تكتمل الأركان الأربعة للقصة المضمرة، قصة أربعة مؤلفين تركوا لنا قصة واحدة بأربع صياغات سردية فلسفية، فيما نحن، الآن، أمام أربعة أشخاص سينفذون «مشروع أوما».
أي قصة: زمن أوما المستعاد... زمن الصافية المتخيل؟
لا يزيد الزمن في الرواية عن ثلاث سنوات. يبدأ في اليوم العاشر من أغسطس (آب) سنة 2026 وينتهي في صيف 2028؛ ولكن يوجد زمن آخر يقابله حينا، ويمثل غالبا ذاكرة يستعيدها زمن السرد ويتبناها. إنه زمن «أوما» المدينة السومرية في أقصى الجنوب العراقي في عهد ملكها «لوكال زاكيسي». الزمن الأول هو زمن متخيل، تجري أحداثه في المستقبل لكنه، كذلك، زمن مشبع بالإحالات إلى أحداث كبيرة وخطيرة حصلت في عقد زمني يسبق زمن السرد المتخيل. عندنا إشارات واضحة عن وقائع تخص وتؤرخ لسقوط مدن كبرى بيد عصابات القتلة المسلحة وميليشيات لا رادع لها تعيث فسادا في البلاد، إشارات عن مظاهرات كبيرة تسبقها أخرى عن مدن وبيوت تُسقط على رؤوس أهلها. ثمة حكومة ضعيفة تعجز عن توفير أبسط الخدمات من ماء وكهرباء، ناهيك عن حماية الناس، مواطنيها المفترضين. وثمة «الصافية» التي نعرف، من إشارات ضمنية، أنها تقع في مدينة عراقية شرق بغداد «ديالى». فيما يظل الزمن الثاني، زمن أوما المستعاد «في حدود 2327 قبل الميلاد، المقابل لبعض زمن السرد 2027 بعد الميلاد»، خلفية حكائية يتكئ إليها السرد، فهي أقرب إلى مرآة كبرى ترى فيها شخصيات الرواية ذواتها المضطربة والمتحولة في آن واحد. ومثلما يختلف الزمنان، يختلف المكانان كذلك؛ «الصافية» في شرق البلاد، وأوما في الجنوب. والرابط بين المكانين والزمنين هو مقاومة اليأس والنجاة من الطوفان القادم لا محالة بعد توحيد البلاد مجددا.
وبعودة إبراهيم الصافي إلى «الصافية» يتقرر كل شيء في الرواية: الوقائع السردية لقسميها الأول والثاني، وصور الراوي ومنطق السرد ومشهدية المكان، بل حتى عتبة العنوان ذي الحمولة الإخبارية التي تظهر للقارئ بصيغة السؤال، فيما يكون النص جوابا مفترضا لسؤال ابتدائي: ما مشروع أوما؟ ولا بأس؛ لكن هل، حقا، أن ثيمة «العودة» تحظى بكل هذه القيمة؟ تقرر هذه الأهمية، ابتداء، تراجعا سرديا لقيمة «السخرية» التي أهملها السرد والمتمثلة بشخصية «فلّاح» عبر كلامه وأفعاله. وهذا التراجع مفهوم ومسوغ لصالح تنامي قيم العمل والبناء الثاوية في العنوان «مشروع أوما». لكن السرد ينشغل، في الخفاء، بقصة ثانية، هي الأصل كما نعتقد، تمثلها قصة الفلاسفة الأربعة الذين تركوا لنا أربع قصص عن حي بن يقظان، وهم في الرواية إبراهيم الصافي وزهيرة الصافي فيصل «ولاحقا زوجته معلِّمة التلاميذ» ثم فلّاح «ولاحقا مها الفتاة المغتصبة».
كم قصة عندنا هنا؟ هل نحن إزاء قصة مدينة «أوما» السومرية بوصفها «الأمثولة» الكلية للذاكرة؛ أم أننا إزاء قصة بلدة «الصافية» كما يقدمها القسم الأول، أم أننا إزاء قصة الجدة المتسلطة، أم قصة العمة «روضة» التي حبستها الجدة في قبو البيت الكبير وماتت مع جنينها، أم أن «مشروع أوما» هو التمثيل الموازي الأحدث لقصة حي بن يقظان بصياغاتها الأربع؟ يمكننا أن نقول إننا أمام كل هذه الحكايات؛ نحن أمام قبو الحكايات، القبو الذي تنزل إلى قاعه زهيرة فتصدمها رائحة العفونة وأسرار الجدة الراحلة ومصائبها، وهي ذاتها أسرار بيت الصافي الكبير، أسرار الصافية. نحن إزاء هذه الحكايات كلها؛ ولكن كيف؟
لنترك عتبة العنوان ونتأمل الصور التي يظهر عبرها راوي السرد. هو الراوي المراقب الذي يحكي وينقل لنا رؤى وخطابات الشخصيات السردية، وفي مواضع ليست كثيرة يترك مكانه ويتولى السرد الراوي كلي العلم، ثم نجد الراويين، في الخاتمة، يتركان الشخصيات تتكلم، بعد أن حقق المشروع قدرا ملحوظا من النجاح، وصار بقاؤه ودوامه رهن قدرة الجميع، لا سيما إبراهيم وزهيرة، على المقاومة والصمود. زهيرة، مثلا، تنتظر مولودها من إبراهيم، وهي تعرف أن القتلة وعصابات الإرهاب لن يتركوهم بسلام. فيصل يعود بزوجته «المعلِّمة» إلى «الصافية» ويستكمل معها مشروع التعليم الحر للأولاد. فلّاح يتوج حبه لـ«مها/ علياء»، الفتاة المغتصبة التي تعهدت الجدة برعايتها وتبنيها. تنتهي الرواية كما لا تبدأ، بالأمل ومشهد البساتين المزدهرة بعد أن كانت محض رماد في مفتتح الرواية، لكن مشهد الخاتمة لا يخدع القارئ بأوهام الانتصار إنما يضعه في قلب مشهد «القتلة» المتربصين بالحالمين.
تنسجم مشهدية المكان مع تحولات الراوي وأصواته السردية، فالـ«صافية»، مثلا، كما يقدمها القسم الأول من الرواية، هي مكان بلا ملامح حقيقية؛ مجرد قرية شهدت الخراب والموت، نكتشف تفاصيلها الأولى بعيني زهيرة في مطلع الرواية. قرية لا يميزها سوى بستان الورد ومشهد بيت الصافي الكبير على مرتفع مكاني ليس بعيدا عن النهر. لكنها ستأخذ سمات المكان الحقيقي ذي الملامح الذاتية بتحول السرد إلى منطق الراوي المتكلم، إذ سنشهد تفتح المكان وازدهاره عندما يتولى الرواة الأربعة سرد قصة كل منهم. لنقل عندما يتولى الرواة «كتابة» قصة «مشروع أوما»، وهو الأصل الذي جهد السرد لإخفائه بلا جدوى.

- ناقد وأكاديمي عراقي



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.