«ريش» يفوز بجائزة أفضل فيلم عربي

«الجونة السينمائي» يسدل الستار على «دورة الأزمات»

TT

«ريش» يفوز بجائزة أفضل فيلم عربي

أسدل مهرجان الجونة الستار، مساء أول من أمس، على دورته الخامسة التي مرت بأزمات عدة، بداية من الحريق الذي نشب قبل حفل الافتتاح بنحو 24 ساعة، مروراً بحالة الجدل الواسعة التي أحدثها عرض فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري، وانتهت باستقالة المخرج أمير رمسيس، المدير الفني للمهرجان، قبل 24 ساعة من حفل الختام بجانب إصابة الفنانة بشرى رئيس العمليات بالمهرجان في حادث سير أثناء تصوير أحد البرامج، بالإضافة إلى أزمات تأشيرات دخول الأراضي المصرية لبعض المخرجين العرب وعلى رأسهم المخرج الفلسطيني سعيد زاغة، وهي الأزمة التي تسببت في غياب الفنان الفلسطيني محمد بكري عن حفل الختام لتسلم جائزة الإنجاز الإبداعي، إذ أ.علن بكري تضامنه مع مواطنه المخرج الشاب سعيد زاغة وعدم حضوره المهرجان، كما أصدرت إدارة المهرجان اعتذاراً رسمياً للشعب المغربي لعدم تقديم النجم العالمي، المغربي الأصل «ريد وان» خلال الحفل «بشكل مناسب» مؤكدة أنه «خطأ غير مقصود».
غير أن كل الأزمات السابقة لم تمنع المهرجان من تقديم برنامج كبير زاخر بالأفلام المهمة، والفعاليات الكبيرة التي انفرد بها عربياً وأفريقياً، من أهمها درس السينما «الماستر كلاس» الذي قدمه المخرج الأميركي دارين أرنوفسكي، وشهد حضوراً كبيراً دفع المهرجان لنقل اللقاء من جامعة برلين إلى «فيستفال بلازا» ليستوعب العدد الكبير من صناع الأفلام والجمهور، الأمر الذي أبهر أنوفسكي ذاته، مؤكداً أنه سيعود لحضور الدورة القادمة، وكذلك المعرض الذي أقيم احتفاءً بالمخرج البولندي الكبير كريستوف كيشلوفسكي، وعرْض أفلام مرممة له، والحفل الموسيقي الذي يعد أحد ملامح الجونة السينمائي «السينما في حفل موسيقي» الذي قدمه أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة المايسترو أحمد الصعيدي، وعزفت فيه الأوركسترا موسيقى لأفلام مصرية وعالمية.
كما تميزت الدورة الخامسة ببرنامج زاخر بأهم الأفلام العالمية التي شاركت في مسابقاته المختلفة، وأفلام البرنامج الرسمي «خارج المسابقة»، وهو ما جعل انتشال التميمي مدير المهرجان يصف هذه الدورة - خلال كلمته في حفل الختام – بأنها دورة احترافية نجحت بامتياز برغم الأحداث الدراماتيكية التي شهدتها، بداية من الحريق وحتى إصابة بشرى، وشهدت نمواً ملحوظا في حضور الأفلام والندوات.
ورغم أن استقالة المدير الفني للمهرجان جاءت مباغتة، وأثارت تساؤلات عديدة، عما يحدث في كواليس المهرجان وسط تحفظ تام على إبداء أسبابها، فإن بعض التسريبات تحدثت عن وقوع خلاف بين مدير المهرجان ومديره الفني، إذ اكتفى التميمي بتوجيه الشكر إلى رمسيس خلال كلمته في حفل الختام، فيما تجاهل مؤسسو المهرجان استقالة رمسيس واكتفوا بالإشادة بالعمال الذين تصدوا للحريق.
ويرى نقاد، من بينهم الناقدة السورية ندى الأزهري، أن الأزمات التي واجهتها الدورة الخامسة لم تنل من مكانة المهرجان، لأن كثيراً من هذه الأمور تحدث في مهرجانات أخرى، موضحة في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»: «ما يعنيني بالدرجة الأولى قدرة المهرجان على تقديم برنامج يتضمن أهم الأفلام التي عرضت خلال العام في أغلب دول العالم، وكانت وجبة دسمة لكل المهتمين بالسينما، خصوصاً بعد الإغلاق الذي عشناه جراء كورونا، ومن بينها الفيلم الروسي (هروب الرقيب فولكونوجوف) فقد كانت مشاهدته فرصة عظيمة، كما شاهدت الأفلام العربية، وأرى أن معظمها لم يكن جيداً، باستثناء الفيلم المصري (ريش) فهو فيلم متميز للغاية، ومخرجه سيكون له شأن في السينما المصرية، لذا أندهش جداً من الضجة التي أثيرت حوله، فالفنان من حقه أن يطرح رؤيته دون وصاية». لافتة إلى أن «الجوائز التي أقرتها لجان التحكيم جاءت عادلة».
وفاز الفيلم الفنلندي «الرجل الأعمى الذي لم يشاهد تايتانيك» بجائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وهي أكبر جوائز المهرجان (50 ألف دولار أميركي) وكذلك جائزة أفضل ممثل لبطله «بيتري بيكولاينن» التي أعلنها الأميركي روب آلين رئيس لجنة التحكيم بمثابة فوز مستحق للفيلم الذي كتبه وأخرجه تيمو نيكي من أجل صديقه الممثل الذي يُعبر في جانب منه عن واقعة مماثلة يعيشها الممثل الذي أصيب بمرض «التصلب العصبي المتعدد» الذي جعله يفقد بصره وقدرته على الحركة تدريجياً، وقد أدى شخصية لرجل خمسيني كفيف ومقعد، كما هو في الواقع، وذهبت جائزة نجمة الجونة الفضية وقيمتها 25 ألف دولار لفيلم «غروب» من إنتاج المكسيك وفرنسا والسويد الذي يعرض رحلة رجل عجوز وحيد مهزوم يسعى للعيش ضمن حلم وعزلة لن يتحققا، وحظي الفيلم الروسي «هروب الرقيب فولكونجوف» بجائزة نجمة الجونة البرونزية.
ورغم الأزمة التي صاحبت عرض الفيلم المصري «ريش» فقد نال جائزة أفضل فيلم عربي طويل، كما فاز مخرجه عمر الزهيري بجائزة مجلة فارايتي الأميركية كأفضل مخرج في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونوه خلال كلمته أنه مخرج مصري يفخر بانتمائه للسينما المصرية رداً عن الاتهامات التي طالته شخصياً.
وشهدت دورة هذا العام حضوراً لافتاً للسينما اللبنانية عبر ثلاثة أفلام روائية ووثائقية توجت بجائزتين لفيلم «كوستا برافا» وهي جائزة نجمة الجونة الخضراء التي تمنح لأول مرة لأفضل فيلم عن البيئة، كما حصلت على جائزة اتحاد النقاد «فيبرسي»، وأكدت مخرجته مونية عقل لـ«الشرق الأوسط» عن سعادتها بالاستقبال الذي حظي به الفيلم في عرضه الأول، وتتويجه بجائزتين في تجربتها الروائية الطويلة الأولى، مؤكدة أنها تصدت من خلاله لقضية النفايات التي تراها قضية مهمة باتت أكثر إلحاحاً في لبنان.
ونالت الطفلة البلجيكية مايا فندريبك جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «ملعب» الذي تعرض لظاهرة التنمر والعنف في المدارس.
وفي مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة توج «كباتن الزعتري» للمخرج علي العربي بجائزة أفضل فيلم عربي، تتبع فيه حلم شابين سوريين داخل مخيم الزعتري باحتراف كرة القدم، كما فاز فيلم «سبايا» للمخرج السويدي هوجير هروري بجائزة نجمة الجونة البرونزية، وحصل فيلم «جزيرة مفقودة» على الجائزة الفضية، فيما ذهبت الجائزة الذهبية لفيلم «حياة إيفانا».وفي مسابقة الأفلام القصيرة التي تنافس عليها 23 فيلماً ذهبت الجائزة الذهبية لفيلم «كاتيا»، فيما ذهبت جائزة أفضل فيلم عربي قصير لـ«القاهرة برلين»، وقدمت لجنة التحكيم تنويهاً خاصاً لعائشة الرفاعي بطلة الفيلم السعودي «نور شمس» إشادة بأدائها.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)