الثقة في وسائل الإعلام والسعي نحو تحقيق المصداقية والمهنية لاجتذاب الجمهور من أحد الأهداف المهمة لوسائل الإعلام، التي تتحدث بعض التقارير والدراسات الدولية عن تراجعها خلال السنوات الأخيرة الماضية، كنتيجة طبيعية لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
ويربط مراقبون بين تراجع الثقة في الأخبار وتدني مستوى المهنية سعياً وراء «الترند» على مواقع التواصل، أو تحقيق مزيد من القراءات والمشاهدات بغض النظر عن مدى الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية التي تأسس عليها الإعلام. بينما تجددت مطالب الخبراء بـ«ضرورة التمسك بالمهنية والجودة وتنويع المحتوى» كـ«أساس لاستعادة ثقة الجمهور بوسائل الإعلام، في ظل المنافسة الشديدة مع وسائل التواصل».
ووفقاً لدراسة نشرها «معهد رويترز لدراسات الصحافة» التابع لجامعة أوكسفورد البريطانية في سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن «معدلات الثقة في الأخبار تراجعت على مدار العقود الأخيرة في أجزاء متعددة من العالم، حيث أصبح الإعلام في المركز من مناقشات العامة حول القضايا الخلافية، والجدلية، والعرقية، والسياسية، والأوبئة. وفي معظم الأوقات تقود هذه المناقشات إلى الهجوم على وسائل الإعلام والإعلاميين من جانب أشخاص يعبرون عن عدم ثقتهم في الإعلام».
الدكتورة أروى الكعلي، أستاذة صحافة البيانات بـ«معهد الصحافة وعلوم الأخبار» في تونس، تقرّ خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» بـ«تراجع مستوى الثقة في الأخبار»، لكنها تشير إلى «وجود دراسات علمية أخرى تتحدث عن ارتفاع مستوى الثقة في وسائل الإعلام مع جائحة (كوفيد - 19). من بينها تقرير (رويترز) السنوي لعام 2021 الذي تحدث عن أن الجائحة ساعدت في إعادة بناء القليل من الثقة المفقودة في وسائل الإعلام، وساهمت في اتجاهها أكثر إلى الفضاء الرقمي وأبرز تراجعاً سريعاً للصحافة المكتوبة».
وتقول أروى الكعلي إنه «مع تزايد الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، هناك بحث عن المصادر التي من الممكن أن تقدم المعلومات الدقيقة والصحيحة، خاصة أن (المعطيات المغلوطة المتعلقة بـكوفيد - 19 هي حرفياً مسألة حياة أو موت»، وتذكر أن «تقرير رويترز في يونيو (حزيران) الماضي رصد ارتفاعاً في الاتجاه نحو الدفع مقابل الحصول على الأخبار، أي الاشتراكات في وسائل الإعلام الرقمية خاصة لدى البلدان الاسكندنافية، فهناك قناعة بأن وسائل الإعلام هي التي تقدم معلومات موثوقة إلى حد ما».
هذا، وسبق أن أشار تقرير «معهد رويترز السنوي العاشر عن الإعلام الرقمي» الصادر في 23 يونيو الماضي، إلى «تنامي الثقة في الأخبار لتصل إلى 44 في المائة، بزيادة ست نقاط على العام الماضي. وتصدرت فنلندا قائمة الدول من حيث ارتفاع معدلات الثقة في الأخبار بين متابعيها بنسبة 56 في المائة، في حين احتلت الولايات المتحدة الأميركية ذيل القائمة بنسبة 29 في المائة». غير أن المعهد نفسه أفاد قال في دراسته الأخيرة المنشورة في سبتمبر الماضي عن أنه «رغم أن كوفيد - 19 أعادت بعض القيمة، وذكّرت الناس بأهمية الصحافة والإعلام المستقل، وأعادت جزءاً من الثقة في بعض المناطق... فإن كثيرين ما زالوا ينظرون للأخبار بتشكك».
وتوضح أروى الكعلي أنه «بشكل عام، وإذا ما استثنينا الجائحة، يمكن أن نقول إن هناك نسقاً عاماً لتراجع الثقة في وسائل الإعلام، لعدة أسباب منها: المنافسة الشديدة التي تجدها وسائل الإعلام مع وسائل التواصل. والصعوبات المادية التي يمكن أن تعترضها وهو ما يؤثر في المحتوى. وحالة النفور من المحتويات السلبية التي تأتي مدارس مثل (صحافة الحلول) و(الصحافة البناءة) لتحاول أن تعطي صورة أخرى عن العالم. وهذا إضافة إلى (التوجيه)، الذي يمكن أن تنخرط فيه بعض المؤسسات الإعلامية. والأهم من كل ما سبق هو (غياب الجودة) لدى بعض المؤسسات الإعلامية، فعندما لا تنتج وسائل الإعلام معلومات وأخبار سليمة ودقيقة تفتقر إلى التعمق والتجديد، من الطبيعي أن يتراجع الإقبال على متابعتها، بل وتراجع الثقة فيها».
عدة أسباب للتراجع
بدورها أرجعت كارولين إلياس، عضو هيئة التدريس في كلية الإعلام بالجامعة الأميركية بالقاهرة، تراجع الثقة في الإعلام إلى عدة أسباب على رأسها «المستوى المهني للإعلام». وأشارت كارولين إلياس إلى أنه «مع تطور وسائل الإعلام وسيطرة الإعلام الإلكتروني، أصبح الصحافي مطالباً بتقديم عدد معين من الأخبار يومياً، وتحت ضغط العدد غاب عنصرا الجودة والتحقق من الأخبار، إضافة إلى ضعف العائد المادي للصحافيين، ما لا يحفزهم لبذل مزيد من الجهد لتحسين جودة القصة الصحافية»، لافتة إلى «قلة عدد دورات التأهيل الإعلامي، وفتح المهنة لكل من يرغب في العمل فيها دون تدريب».
من جهته، يرفض الصادق أحمد عبد السلام، الصحافي السوداني المقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، «الادعاء بتراجع الثقة في الإعلام». ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «ظهور وسائل التواصل الاجتماعي أحدث تغييراً كبيراً في المشهد الإعلامي العالمي. وهكذا أصبح في استطاعة الملايين من الأفراد على مستوى العالم، التحول من خانة المتلقي السلبي فقط للأخبار والمعلومات، إلى التفاعل مع ما ينشر عبر وسائل الإعلام التقليدي بالرد والتعليق والاتفاق والاختلاف معها». ويضيف عبد السلام أن «الأمر تطور إلى إنتاج رسائل إعلامية خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أي أنها أصبحت قنوات تنشر مادة خاصة بها، ولا تقوم فقط بالرد والتعليق على ما ينشر عبر الوسائل التقليدية. وهذا ما أدى لزيادة الثقة في وسائل الإعلام التقليدية خاصة بين المتخصصين في مجالات الإعلام، والأمن، والدبلوماسية... وبين السياسيين، الذين ما عادوا يتعاطون مع ما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي على أنه حقيقة، إلى حين التأكد من دقة المعلومة كلياً أو جزئياً بعد نشرها عبر وسائل الإعلام التقليدية».
غير أن عبد السلام يشير إلى «غياب المهنية كسبب لتراجع الثقة في الكثير من وسائل الإعلام التقليدية»، على حد قوله. فيوضح أن «الكثير من وسائل الإعلام ابتعد عن المهنية، وعن الاهتمام بتحقيق نوع من الحياد»، مشيراً إلى أنه «لا يدعو إلى الحياد الكامل، لكن توفير قدر من الاحترام لعقل القارئ والمتلقي وقدرته على تحليل وتمحيص ما ينشر».
عودة إلى دراسة «معهد رويترز» الأخيرة، التي اعتمدت على بيانات من بريطانيا والهند والبرازيل والولايات المتحدة، فنراها تشير إلى أن «الناس يثقون بالمصادر التي يستخدمونها بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، والعكس لا يثقون في المصادر التي لا يستخدمونها، ومن بينها منصات المواقع الإلكترونية، كما أن كثيراً من الناس لديهم تصورات سلبية عن الممارسات الصحافية الأساسية».
ووفق الدراسة فإن «معدلات الثقة تقل لدى كبار السن غير المتعلمين، والذين لا يهتمون كثيراً بالسياسة». وأيضاً كشفت الدراسة «وجود كثير من الاهتمام بمدى التغير في نظرة الناس للأخبار، في أعقاب انتشار مواقع التواصل، واعتماد الناس عليها كمصادر للمعلومات».
هنا تعلق كارولين إلياس فتقول إن «السعي وراء الترند على مواقع التواصل أفقد الإعلام دوره ومصداقيته، فبدلاً من أن يكون صانعاً للحدث، ومنتجاً للمعلومات الصحيحة، أصبح لاهثاً وراء ما يتناوله الجمهور على مواقع التواصل، من دون تحقق أو تقديم قيمة مضافة للجمهور، وهو ما يضعف مستوى الثقة في الإعلام بشكل عام»، على حد قولها.
أما أروى الكعلي فتشير إلى أن «وسائل التواصل لها تأثير كبير على مستوى الثقة في الإعلام... والناس يحصلون على المعلومات عبر تصفح الشبكات الاجتماعية. ولكن، للأسف فإن بعض وسائل الإعلام وفي ظل المنافسة الشديدة في الفضاء الرقمي، سقطت في بعض الممارسات التي تتنافى مع أخلاقيات المهنة من أجل تحصيل أعداد متابعين مرتفع، مثل نشر عناوين مضللة أو أخبار غير دقيقة، أو اللجوء إلى الإثارة، فأثقل السعي لإرضاء الخوارزميات كاهل المؤسسات الإعلامية، وطرح عليها إشكالية أخلاقية وعملية أيضاً، وهي هل نكتب، ونصور، ونصمم للمستخدمين أم للخوارزميات؟».
ومن ثم، تضيف أروى الكعلي أنه «في مقابل ذلك هناك ما يعرف بـ(تعب السوشيال ميديا) عندما يشعر الناس بأنهم مغمورون بكمية كبيرة من المعلومات فيتجهون إلى الانسحاب من وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يؤثر على وسائل الإعلام التي وجدت أن عليها أن تهاجر إلى هذه الفضاءات الجديدة». وأكمل أنه «من الذكاء في العصر الحالي، الاستثمار في المحتويات الرقمية مع الحفاظ على أخلاقيات المهنة والممارسات السليمة، ففي النهاية ما يميز الصحافي عن أي صانع محتوى آخر هو التزامه بهذه الأخلاقيات».
في المقابل، يشدد عبد السلام على أن «الانتشار الكبير للأخبار عبر وسائل التواصل رفع من مستوى الثقة في وسائل الإعلام التقليدية من صحف، ومجلات، وقنوات تلفزيونية وإذاعية وجعلها تبدو كمراجع لتأكيد أو نفي صحة أي معلومة، فضلاً عن أن كل وسائل الإعلام التقليدية أصبح لها حسابات خاصة بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي».
شروط لبناء الثقة
بحسب دراسة «معهد رويترز» فإن «بناء قدر مستقر من الثقة في وسائل الإعلام يتطلب اتباع مناهج مختلفة بحسب نوعيات الجمهور واهتماماتهم، واختبار كيف يستجيب الجمهور للرسائل المختلفة. ومن خلال ذلك يمكن لوسائل الإعلام، أن تبني استراتيجية للمضي قدماً في تحقيق مزيد من الثقة».
هنا أكدت كارولين إلياس أن «الحل لاستعادة الثقة، هو زيادة دورات التأهيل والتدريب للإعلاميين، والعمل على التحقق من الأخبار والمعلومات قبل نشرها، وزيادة رواتب الإعلاميين، والأهم من ذلك كله محو الأمية الإعلامية والمعلوماتية، وجعل هذه المادة مقررة على الأطفال في المدارس... فمع التطور التكنولوجي أصبحت علاقة الإنسان بالإعلام تبدأ مبكراً من الطفولة، ولا بد أن نعلم أولادنا كيف يتعاملون مع وسائل الإعلام ويتحققون من المعلومات المنتشرة على الفضاء الإلكتروني؟».
ومن ثم، دعت كارولين إلياس إلى «تدريس مادة أخلاقيات الإعلام في الجامعات لجميع التخصصات، فلا يوجد تخصص الآن لا يتعامل أو ينشر معلوماته على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن هنا بات ضرورياً معرفة أخلاقيات استخدام هذه الوسائل، فالإنترنت اليوم أصبح لغة عالمية للحوار والحياة».
أما عبد السلام فيطالب «وسائل الإعلام التقليدية بالاهتمام أكثر بتحقيق الأداء الإعلامي المهني في عملها، والمتمثل أولاً في احترام عقل المتلقي، وعدم الإفصاح المباشر عن رسائل تبدو أنها في صالح هذا الخط أو ذاك حول أي قضية من القضايا المثارة. إذ أن القيمة الأساسية لأي وسيلة إعلامية تتمثل في مقدرتها على احترام عقل المتلقي، وليس التعامل معه كطفل يسهل التحكم فيه وتوجهيه، خصوصاً أن المعلومة أصبحت أسهل ما يمكن الحصول عليها في عصرنا هذا».
وفي موضوع الثقة، ترى أروى الكعلي أن «جائحة كوفيد - 19 أظهرت أنه عند الأزمات يعود الناس إلى وسائل الإعلام بالضرورة، وهذا يدل على أن الحفاظ على الثقة أو استعادتها ممكن، بالتأقلم مع خصوصيات الفضاء الرقمي، وتنويع المحتويات المقدمة والتأقلم مع مستخدم يتغير باستمرار».
وتوضح أنها «ليست من مؤيدي النظرة المتشائمة حول مستقبل وسائل الإعلام، لأن وسائل الإعلام تستمد وجودها من مصداقيتها ومن تطبيق أخلاقيات المهنة، ومن ضمان جودة المعلومة، وتقديم مختلف وجهات النظر... ومن دون وسائل الإعلام لن نكون إلا أمام سرديات التزييف والتضليل أو الاستقطاب وخطاب الكراهية، فالإعلام ركيزة أساسية في عصر ما بعد الحقيقة».
ولكن في الوقت نفسه – حسب أروى الكعلي - «لا يمكن لوسائل الإعلام أن تستمر أمام هذه المنافسة على وسائط التواصل الاجتماعي إن لم تستثمر أكثر في الجودة والدقة، إذ أصبحت وسائل الإعلام هي أيضاً مصدراً للتضليل والتوجيه... وعندها يصعب أن تستمر».