هل يحل علاج «مصاص الدماء» مكان البوتوكس

من أكثر العلاجات التي يقبل عليها المشاهير للالتفاف على العمر

علاج {مصاص الدماء} يعتمد على سحب الدم من جسم المريض وإعادة حقنه في الوجه تحت العينين أو أي منطقة في الجسم للتخلص من التجاعيد
علاج {مصاص الدماء} يعتمد على سحب الدم من جسم المريض وإعادة حقنه في الوجه تحت العينين أو أي منطقة في الجسم للتخلص من التجاعيد
TT

هل يحل علاج «مصاص الدماء» مكان البوتوكس

علاج {مصاص الدماء} يعتمد على سحب الدم من جسم المريض وإعادة حقنه في الوجه تحت العينين أو أي منطقة في الجسم للتخلص من التجاعيد
علاج {مصاص الدماء} يعتمد على سحب الدم من جسم المريض وإعادة حقنه في الوجه تحت العينين أو أي منطقة في الجسم للتخلص من التجاعيد

قد يكون اسم العلاج مقززا ومثيرا في نفس الوقت، لأنه يعرف باسم «مصاص الدماء»، واسمه العلمي «بي آر بي» اختصارا لـPlatelet Rich Plasma (الصفائح الدموية)، إلا أن الاسم الشعبي للعلاج «مصاص الدماء» أو «Vampire Facial or Facelift» متداول أكثر لأنه يرتكز على سحب الدم من جسم المريض وإعادة حقنه في الوجه، تحت العينين أو أي منطقة في الجسم، للتخلص من التجاعيد الناتجة عن تباطؤ مخزون الكولاجين تحت الجلد مما يؤدي إلى ظهور التجاعيد وأماكن تبدو وكأنها مجوفة، لا سيما في المنطقة المحيطة بالعين.
بدأ هذا العلاج الدكتور تشارلز رانلز، وتم تطويره إلى أن أصبح اليوم من أكثر العلاجات التي يتجه إليها الباحثون والباحثات عن النضارة، وبما أن هذا النوع من العلاج لا يزال غير واضح المعالم بالنسبة لكثيرين، تحوم حوله عدة أقاويل، مبالغ بها في بعض الأحيان، تماما مثلما حصل عندما نشرت نجمة برنامج الواقع كيم كارداشيان فيلما وصورا لها أثناء خضوعها لعلاج «مصاص الدماء» فإذا رأيت تلك الصور لا بد أنك عرضت نفسك لصدمة حقيقية بسبب مشهد الدماء التي تتدلى على كامل وجهها، وفي أفلام أخرى متوفرة على موقع «يوتيوب» سوف تجد تقارير متناقضة جدا، منها ما يشجع على الخضوع لهذا العلاج الذي يسميه البعض «الفيس ليفت» أو «الفايشول»، وعندما تقرأ عن العلاج سوف تشعر بالاشمئزاز، فهو فعلا يرتكز على أخذ عينة من دمك في أنبوب صغير الحجم وتحقن كمية صغيرة من البلازما التي يقوم الطبيب المختص بفصلها عن الدم في المنطقة المراد تحسين مظهرها.
ولوضع حد لهذه التكهنات والأقاويل قامت «الشرق الأوسط» باختبار علاج «بي آر بي» وتسجيل المراحل التي يمر بها المريض منذ اللحظات الأولى.
الأهم في إجراء أي علاج مهما كان سهلا التأكد من أن الطبيب المختص والتأكد من أنه يملك باعا طويلا في المهنة وفي إجراء العلاج الذي نريده بالتحديد، ففي الكثير من الأحيان من الممكن أن يكون الطبيب متمرسا بعمليات معينة، ولكنه ليس بنفس المهارة في تنفيذ عمليات أو علاجات أخرى، وبدأ المشوار على الشكل التالي: جولة على أفضل الأطباء المسجلين رسميا في الدوائر الطبية الرسمية في لندن، ومن ثم التكلم إلى مرضى قاموا بالعلاج، ومقابلة الطبيب وعدم الخجل من تغيير رأينا في حال رأينا أن الطبيب ليس مناسبا لنا، اللقاء الأول مهم ويجب أن تشعر بالارتياح إزاء الطبيب، كما أنه يجب ألا تخجل من طرح أي سؤال تريده، ففي نهاية المطاف هذا هو حقك الشرعي، وأنت تخاطر بوجهك أو جسمك كما أنك تدفع الكثير من المال تجاه ذلك، فلا يوجد أي سبب يجعلك تخجل أو تنصاع وراء إحساس خاطئ، ويبقى الأهم هو مقابلة مرضى وطلب رؤية صور لما قبل وبعد أي علاج.
وقع خيارنا على الدكتور جوشوا بيركوفيتز في عيادة «ويمبول استيتيكس» Wimpole Aesthetics الواقعة بمحاذاة شارع «هارلي ستريت» الشهير بوجود أهم الأطباء في وسط لندن. الدكتور بيركوفيتز في الستينات من العمر، بالإضافة إلى كونه جراح تجميل فهو جراح نسائي، أفضل ما فيه أنه لا يعد بالمعجزات، كما أنه يأخذ وقته في التفسير وتبسيط العلاج ليتمكن أي مريض من فهمه. تكلمنا عن علاج «مصاص الدماء» فقام بشرح كيفية إجراء العلاج وعن مراحل الشفاء، خطوة بخطوة، كما أنه طلب أن نفكر قبل إجراء الحجز لنكون على يقين بأن العلاج الذي قررنا فعله هو الأنسب لنا. وهكذا حصل، وبعد يومين من التفكير العميق، وقع الخيار على علاج «بي آر بي» للمنطقة المحيطة بالعينين، لأن الدكتور بيركوفيتز ارتأى أنه ليس هناك حاجة لحقن أي منطقة أخرى.
في الصباح الباكر وصلت إلى العيادة، ولكن لا أخفي عليكم أن الخوف كان ينتابني على الرغم من تطمينات الطبيب، فكما قلت في البداية، قرأت الكثير وشاهدت الكثير من الأفلام الخاصة بالعلاج، وبعضها أشبه بأفلام الرعب، ولكني سلمت أمري لربي ولضمير الطبيب، فعند وصولي، قام د. بيركوفيتز بدهن المنطقة تحت العينين بكريم مخدر، وانتظرت بعدها لنحو الثلاثين دقيقة، وتم استدعائي بعدها إلى غرفة العلاج، وبدقة عالية، قام الطبيب باستخراج كمية صغيرة من الدماء من ذراعي (من الممكن القيام بهذا العلاج بالدم فقط أو بخلطه مع مادة هيالورونيك أسيد Hyaluronic Acid وهذا القرار يعود للطبيب ولحاجة المريض إليه)، وبعدها وضع الطبيب ألأنبوب في ماكينة أشبه بالميكرويف، تغزل بسرعة فائقة لتفصل الدم عن البلازما الغنية بالصفائح الدموية، وبعد نحو 15 دقيقة في الماكينة، قام الطبيب باستخراج البلازما التي تطفو على صفحة الدماء وهي تشبه إلى حد كبير الزيت عندما يطفو على الماء.
وبواسطة محقنة طبية، وضع الطبيب البلازما في إبرة (الكمية لا تتعدى الملعقتين)، ليبدأ بعدها بمرحلة الوخز.
سألني إذا كنت مستعدة، وبصراحة كنت مستعدة لأوجاع مبرحة فقلت بصوت خافت: «نعم»، وسلمت أمري لمهارة الطبيب، ولكني كنت أفكر «ماذا فعلت بنفسي؟»، و«ماذا لو كانت النتيجة سيئة؟ وماذا لو تحول شكلي إلى مصاص دماء حقيقي؟».
ولكن المفاجأة الكبرى كانت أن وخز الإبر لم يكن مؤلما أبدا بسبب الكريم المخدر، كما أن مهارة الطبيب لعبت دورا مهما، فقام بوخز نحو خمس وخذات تحت كل عين، الشعور هنا ليس بالألم، إنما بشيء أشبه بالحريق تحت العين، فتشعر بالمادة وهي تدخل تحت الجلد، فالشعور ليس جميلا، ولكن ليس سيئا كما ظننت.
وعندما انتهى من وخز المنطقة طلب مني بأن أقوم بتمسيد المنطقة المحقونة بالبلازما، وقال: «ما أريده منك هو أن تمسدي هذه المنطقة، هذه هي مهتمك»، وأعطاني كيسين من الثلج، ونصحني بوضعها على تلك المنطقة، إلى أن يخف الورم.
وبدأت أشعر بأن حجم عيني يصغر، تماما مثلما تشعر عندما تتعرض للكمة في الوجه أو عند منطقة العين، شعرت بأن المنطقة تتورم، ولكن الطبيب طمأنني بأن هذا الورم سيخف ويختفي بعد يومين.
الوهلة الأولى كانت مخيفة بعض الشيء، لأن البشرة تحولت إلى لون أحمر، ولكن كان هناك تحسن وتغير على مر الدقائق، تمكنت من القيادة والذهاب إلى العمل مباشرة، أكد الطبيب أنه من الممكن استخدام الماكياج على تلك المنطقة، ولكني فضلت عدم ذلك. يكفي أن تخفي الورم تحت نظارة سوداء. الورم تحول إلى احمرار بعد نحو الساعة، وبعدها تحول إلى لون مائل إلى الأزرق، وفي نهاية اليوم أصبح اللون الأزرق يختفي، ومضت الليلة على خير، وفي الصباح الباكر كان هناك ورم بسيط، من دون أي وجع، ولكن المنطقة كانت حساسة بعض الشيء عند لمسها، واختفى الورم مع مرور الوقت، فمرحلة الشفاء كانت أشبه بالكر والفر، فتارة ترى المنطقة تتحسن وتارة أخرى تتغير من حيث اللون، ولكن ما لاحظته هو أن المنطقة المجوفة أصبحت ممتلئة بطريقة طبيعية على عكس «الفيليرز» الذي يبدو اصطناعيا. كما أن منطقة العينين أصبحت أكثر نضارة وهذا هو الهدف من العلاج الذي يعيد للبشرة نضارتها وحويتها التي فقدتها على مر السنين.
بعد مرور يومين طغى لون أصفر فاتح على المنطقة، ولكن كان من السهل تغطيته بالماكياج مثل «الكونيسلر»، ولكن النتيجة كانت مرضية، وأجمل ما في العلاج هو أن من حولك يلاحظ تحسنا وتغيرا من غير معرفة ما هو بالتحديد.
وتدوم نتيجة هذا العلاج على مدى يتراوح ما بين سنة وسنتين، ولكن هذا الأمر يختلف من شخص إلى آخر ومن بشرة وحالة إلى أخرى. ويقول الدكتور بيركوفيتز إنه من الأفضل حقن كمية قليلة من البلازما في الجلسة الأولى، لأنه من المستحسن تهيئة المنطقة التي نعالجها على إعادة بناء نفسها، وفي حال تم حقن الكثير من البلازما من المرة الأولى فمن المحتمل بأن تحصل تكتلات تحت الجلد. أما بالنسبة لما يحتاجه المريض من عدد جلسات، قال بيركوفيتز إن الأمر يعتمد على جينات المريض وكيفية تقدمه بالسن، فالأمر يختلف من شخص إلى آخر، ففي بعض الأحيان يكفي أن يقام بجلسة واحدة في العام.
تبدأ الأسعار من 600 جنيه إسترليني (نحو 1000 دولار أميركي) للجلسة الواحدة، وغالبا ما يوصى بإعادة العلاج بعد نحو الثلاثة أشهر، ولكن هذا الأمر يختلف أيضا من مريض إلى آخر وتختلف النتائج من شخص إلى آخر حسب وفرة الصفائح الدموية وجودتها في الدم، وتقوم العيادات بتقديم سعر خاص في حال أراد المريض الخضوع لأكثر من علاج، لتكون الجلسة الثانية والثالثة أقل سعرا.
الخلاصة: بعد إجراء العلاج شعرت بتحسن في المنطقة المحيطة بالعين، وهناك نضارة بارزة، والأهم من هذا هو أن هذا العلاج لا يحتوي على مخاوف على المريض لأن المادة المحقونة هي من دمه، وبالتالي ليست هناك مخاوف من انتقال أي عدوى إليه.

تعريف البلازما

> تحفز تقنية البلازما على انقسام الخلايا الجذعية القادرة على التكاثر والانقسام، وهذه الخلايا الجذعية مسؤولة عن تجديد الأنسجة وإعادة إنتاج الكولاجين لتستعيد البشرة نضارتها وحيويتها التي تفقدها بسبب التقدم بالعمر. عندما نولد تكون البشرة مكونة من 80 في المائة من الكولاجين، وعند بلوغنا سن الخامسة والعشرين نفقد واحدا في المائة من مادة الكولاجين كل عام.

> يوصى بالخضوع لجلسة «بي آر بي» أو «مصاص الدماء» للحالات التالية:
التجاعيد في منطقة اليد والوجه
تخفيف مظهر الهالات السوداء تحت العينين
تساقط الشعر



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)