بيرايوس... مركز ثقافي جديد في ميناء يوناني قديم

مدينة خارج أثينا تصبح أرض المعارض واستوديوهات التصميم

من معرض للفنان المفاهيمي القبرصي كريستودولوس بانايوتو (تصوير: ستاثيس مامالاكيس)
من معرض للفنان المفاهيمي القبرصي كريستودولوس بانايوتو (تصوير: ستاثيس مامالاكيس)
TT

بيرايوس... مركز ثقافي جديد في ميناء يوناني قديم

من معرض للفنان المفاهيمي القبرصي كريستودولوس بانايوتو (تصوير: ستاثيس مامالاكيس)
من معرض للفنان المفاهيمي القبرصي كريستودولوس بانايوتو (تصوير: ستاثيس مامالاكيس)

في إحدى أمسيات يوليو (تموز) الحارة، كانت الحشود تختلط وتشرب النبيذ في افتتاح فعالية فنية في شارع بوليديفكوس. كان طريقاً متواضعاً تصطف على جانبيه ورش إصلاح السفن والمعادن في مدينة بيرايوس الساحلية الصناعية الواقعة على الجانب الجنوبي الشرقي من أثينا، رغم أنه لم يكن يوماً مكاناً لصالات العرض التاريخية.
ورغم المباني المهجورة، كان المكان لا يبعد عن ميدان سينتاجما، مركز العاصمة الفخم، سوى 25 دقيقة بالسيارة. شعور بالتفاؤل ملأ الأجواء، إذ تُعد روديو مكان تجمع ليلي وأحد أكثر المعارض المعاصرة احتراماً وتطوراً في منطقة أثينا الكبرى، ويعد من بين القوى الإبداعية القليلة التي حولت منطقة أجيوس ديونيسيوس في بيرايوس إلى واحدة من أكثر الوجهات الثقافية إثارة في العاصمة.
تنامت سمعة أثينا الحالية كمركز فني صاعد في عام 2017، عندما اختارت منظمة «دوكيومنتا» للفنون المدينة، جنباً إلى جنب مع مدينة كاسل الألمانية، لتستضيف معرضها الذي يقام كل خمس سنوات، والذي طال انتظاره. لم تكن هذه الخطوة خالية من الجدل، إذ حدث قبل عامين فقط أن تخلفت اليونان عن سداد ديونها لصندوق النقد الدولي. وبالإضافة إلى الإيجارات المنخفضة وتكلفة المعيشة في المدينة، التي تضخمت بسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد، جعل المعرض أثينا مهيأة لتدفق الفنانين والمصممين العالميين الذين يبحثون عن بديل للعواصم الأوروبية سريعة التطور مثل برلين ولشبونة.
إن جاذبية المدينة للأنواع الإبداعية أكبر من ذلك بكثير، وذلك رغم تصريح إيلينا مافروميتشالي (49 عاماً)، مؤرخة الفن والمستشارة الثقافية للحكومة اليونانية، التي قالت «أرى حركة ديناميكية للفنانين المعاصرين مستوحاة من التاريخ اليوناني القديم للمشاركة فيه بمواقعها الأثرية». وأضافت أن أثينا تعمل حالياً على ربط وسط مدينتها بواجهة بحرية، منها منطقة بيرايوس - التي تبلغ مساحتها أكثر من أربعة أميال مربعة، والتي يعود تاريخها إلى أوائل القرن الخامس قبل الميلاد.
في مساحة «روديو» الأولية التي تبلغ 1600 قدم مربع، بدا المعرض منفرداً بقطع جديدة للفنان المفاهيمي القبرصي كريستودولوس بانايوتو، المعروف بأعمال الوسائط المتعددة التي غالباً ما تتساءل عن المفاهيم المتصورة للهويات الثقافية والوطنية. وهنا تستطيع أن ترى مظلة حمراء موصلة بالأنابيب (عمل من إبداعه بعنوان «المظلة» 2021)، وقد خرجت من جدار خرساني خشن. وخلف الرواق كان هناك عمل آخر يتكون من واجهة زائفة من الطوب، حمل اسم «الجدار الرابع» (2021)، تقطع النصف الخلفي من المعرض ويبدو أنها تطلب من المشاهدين إلقاء نظرة فاحصة على بيئتهم: ما هو حقيقي وما هو زائف؟ هل كان هذا المبنى (الشارع) مجرد عمل مؤقت وهش مثل المسارح؟ وفي غرفة على الجانب الآخر من هذا التقسيم، التي يمكن الولوج إليها من خلال الباب الخلفي للمعرض، تستطيع مشاهدة عمل فني بطول أربعة أقدام يجسد عشب «Horseweed» الذي ينبت في أميركا الشمالية وأصبح أحد الأنواع الغازية في أوراسيا، التي بدا وكأنها تنمو لترتفع عن الأرض.
أمام المبنى كان بانايوتو يتحدث مع الفنانة اليونانية سيلفيا كوفالي (40 عاماً) التي أسست معرض «روديو»، وهي التي تمتلك أيضاً موقعاً في لندن افتتحته في عام 2014، وقد نقلت مساحتها الأصلية - التي كان مقرها سابقاً في مستودع للتبغ في إسطنبول - إلى بيرايوس في عام 2018. ورغم حبها للمشهد الفني المعاصر في إسطنبول، فقد أجبرتها الاضطرابات السياسية في تركيا على الرحيل، لكنها عادت في النهاية إلى أثينا. تقول سيلفيا، «في البداية، فكرت في موقع ريفي، ولكن بعد ذلك قررت أن بيرايوس، بما فيها من بحر وقوارب ومنطقتها الصناعية وتاريخها، كانت خياراً مثيراً وجذاباً». في ذلك الوقت، لم يكن هناك شيء في شارع بوليدفوكس باستثناء المستودعات وباولو، وهو مطعم غير رسمي لكنه صاخب يقدم الأطباق الصغيرة الموسمية المستوحاة من البحر الأبيض المتوسط والنبيذ الحرفي الذي افتتح في عام 2016 من قبل صاحب المطعم الشهير جيانيس كايميناكيس. وعن اختيار بيرايوس قال، «اعتقد الجميع أنني مجنون. ولكن منذ البداية اعتقدت أن هناك شيئاً جميلاً في أن توجد بين الأشخاص الذين يصلحون السفن والمحركات على مقربة من الميناء».
بحلول الساعة التاسعة مساء، كان العديد من زوار المعرض يجلسون حول 12 طاولة في الشارع، وكان يشرف عليها موظفو «باليو»، وقد قُدمت أطباق من الطماطم المقطعة المغطاة بملح البحر وجبن الموزاريلا الطازجة مع الباذنجان اللذيذ. همس أحد الضيوف «انظر إلى ستيليوس كويز»، مشيراً إلى المهندس المعماري اليوناني، الذي انتهى لتوه من تصميم «دلتا»، المطعم الجديد في مركز «ستافروس نياركوس» الثقافي، الذي يقع على بعد حوالي ثلاثة أميال إلى الشرق، حسب الرئيس المشارك للمؤسسة أندرياس دراكوبولوس، والذي «أُنشئ كرمز ومحرك حقيقي للأمل لليونان في أعماق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي ضربت البلاد». وأضاف أن تحديد موقعه بالقرب من بيرايوس كان «جزءاً من تحقيق هذه الرؤية».
وكان ليونيداس ترمبوكيس (39 عاماً)، الذي يدير مكتب «LOT» للهندسة المعمارية، إلى جانب زوجته إيليني بيتالوتي (39 عاماً)، وشركة التصميم «Objects of Common Interest»، من بين الحشود التي ملأت المكان. عمل الزوجان لبعض الوقت في استوديو في بروكلين، لكن قبل خمس سنوات افتتحا استوديو آخر في وسط أثينا. كانت فكرة الاقتراب من صانعيهم ومصنعيهم المفضلين هي التي اجتذبتهما إلى اليونان. والآن يبنيان استوديو إنتاج في مصنع سابق تبلغ مساحته 8000 قدم مربع على مقربة من شمال شرقي روديو، الذي سيركز على تقنية فريدة لصب الأكريليك. وأوضح ترمبوكيس قائلاً «كنا نبحث في كل مكان عن مساحة صناعية خام كبيرة وبأسعار معقولة وقررنا شراء بيرايوس بسبب الأجواء والمجتمع». إنهما يأملان في التعاون مع صناع محليين، وتجربة أعمال على نطاق واسع، وربما إنتاج قطع لمصممين وفنانين آخرين.
يُنظم الشهر الحالي عرض منفرد لمنحوتات أنبوبية خشبية وأكريليك مضيء في معرض كاروان، وهو معرض تصميم طليعي انتقل العام الماضي من بيروت إلى مستودع تجاري يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر بجوار روديو. كان نيكولاس بيلافانس ليكومبت (41 عاماً) الذي يمتلك المساحة مع شريكه في العمل، المهندس المعماري الفرنسي كوينتين مويس (33 عاماً)، يفكر في أثينا كمضيف محتمل للمعرض منذ زيارته للمدينة، وقد وجد أن المشهد المعماري الصناعي والجو الانتقالي المتحرك لبيرايوس على وجه الخصوص يذكره بميناء بيروت. استطرد بيلافانس ليكومبت قائلاً «كنا محظوظين جداً لأننا انتقلنا في نهاية عام 2019، قبل الانفجار هناك (في بيروت)، لكننا شعرنا بالفعل بأزمة قادمة وفي الوقت نفسه، أصبحت قاعدة عملائنا عالمية أكثر فأكثر». وجد هواة جمع القطع الفنية أن الوصول إلى اليونان أسهل مقارنة بلبنان، واتضح أن أعمال الشحن داخل البلاد وخارجها أيسر.
* خدمة «نيويورك تايمز»



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».