كم قلّدنا مغامرات تلك الحسناء الآتية من المكسيك قبل بداية الألفية! بشعرها الناعم، بفقرها، بنظافة معدنها، ثم بتبدّل أحوالها من القعر إلى الارتفاع. اسم الولادة: أرياندا تاليا سودي ميراندا، ابنة مكسيكو سيتي. وفي الذاكرة العربية، لك أن تختار: «ماريا ابنة الحي»، و«ماريا مرسيدس»، و«ماريمار» و«روزاليندا». لولا المسلسل الأخير، لكنا أمام اقتحام الـ«ماريات». تبلغ الخمسين من العمر، ولا تزال نضرة كما في العشرينات، بالابتسامة نفسها والوجه المريح.
لِمَ الكتابة عن فنانة المكسيك؟ ألأنها بلغت نصف قرن؟ بل لأنها مداعِبة ماهرة للذكريات، توقظ صوراً عتيقة، يوم كان كل شيء مختلفاً: الحياة والتلفزيون والناس. ويوم كنا أطفالاً، نسترق المشاهدة من وراء الباب؛ فالمسلسلات المكسيكية «للكبار»، وعلى أمثالنا النوم باكراً، لكنّ «ماريا ابنة الحي» طيّرت النعاس ورسمت بعضاً من أحلام الطفولة.
عذراً لـ«شخصنة» المقدمة، لكن نجمة المكسيك تمرّ على شكل رشّة حنين، فتعيد خلط مشاعر منسيّة ظنناها وراءنا. تحتفل بخمسينها، محركشة بذكريات عمرها 25 عاماً. تسبب مسلسل «ماريا مرسيدس» في خضّة خلال التسعينات، والجميع شاهد وتفاعل. العمر غمضة. لا يعقل أن تمر السنوات فننظر في المرآة لنشاهدها تهزأ من وجوهنا. إلا إن وجه الحسناء لم يتغيّر، رغم نفيها الخضوع لجراحات تجميل. عناية وهدوء أعصاب، فيعتذر العمر عن إزعاج الخواطر والتدخّل في التفاصيل الدقيقة.
اسم المسلسل الأشهر: «ماريا لا ديل باريو» والترجمة العربية: «ماريا ابنة الحي». نشِّط الذاكرة، فتقع على اللقب: «وجه القذارة»، وقد أرادوا تحقيراً وتحطيماً، إلا إنّ للأقدار غير ترتيبات، فنقلتها من مكبّ النفايات إلى المجد. شقيّة، تسعينات القرن الماضي، أتت بعشرينية مكسيكية لا نعرف عنها شيئاً، إلى ليالي لبنان. تباً لمَن تكبّر وتنمّر، ورشق البراءة بالألفاظ الأليمة، وسخر من شكلها وسلوكها وجهلها بآداب المائدة في ذلك القصر الفخم.
وتباً أيضاً لـ«ثريا مونتنغرو» (إيتاتي كانتورال)، ومن يقوى على النسيان أو الغفران؟ كم كانت شريرة وقبيحة القلب! كيف لشخصيتين افتراش الذاكرة لثلاثة عقود تقريباً من دون اهتزاز؟ واحدة عكس الأخرى. روح فراشة، ودهاء ذئب. طيبة، وجنون. وعندما حان الوقت، وعلى سبيل الدعابة، نشرت تاليا في «تيك توك» فيديو الانتقام: «ماريا ابنة الحي» تشدّ شعر «ثريا». عدالة متأخرة تفشّ الخلق!
الشريرة «ثريا» تقفز إلى البال بواحدة من أفظع مكائدها: دسّ العناكب في غرفة الشابة المقعدة، وإقفال الباب. لا تنفع محاولات تذكّر المزيد. المهم، حين تحضر سيرة تاليا، تتسلل رائحة «ثريا» وقهقهات الشر. أبعدها الله وأسعدها.
توقفت تاليا عن التمثيل مع بدايات الألفين. استمالها الغناء وإعلانات العطور والمستحضرات. لها أيضاً برنامج إذاعي، وتتفرّغ لتأليف الأغاني والكتب وتدوين المذكرات. الوقت أيضاً للعائلة، فهي أم لولدين، من زوجها الرئيس السابق لشركة «سونيك» الموسيقية تومي موتولا. الحياة اليوم بمعظمها في نيويورك. 8 سنوات مرّت على تكريمها بنجمة في ممشى المشاهير بهوليوود. العمر أوراق.
ولدت في عام 1971 ولقّبتها العائلة «يويا». حاولت الأم تعويض خسارة الطفلة أباها في سن السادسة. لمحت فيها فنانة متّقدة، فراحت تنمّي الموهبة وتصقل العطاء. كثّفت التجارب على مسارح المدارس وفي المسابقات التلفزيونية، وبدأت أضواء الشهرة تدغدغ «يويا». دائماً بصحبة الأم، حاضنة الابنة ومنقذتها من اليُتم. تساعدها في الأعمال وإدارة الوقت. لا تنسى تاليا فضلها على نشأة أقل درامية. المرأة غالباً صورة الأم أو نقيضها؛ وفي الحالتين، يعلق الأثر كالدبق على أجنحة العصافير المسكينة.
كان زمناً جميلاً، حين طبعت موجة من المكسيك حقبة وجيلاً. تأفل تماماً، ولا تبقى سوى الذكريات. تُسلّم «الأمانة» لموجة الدبلجة التركية، ويبتعد أهل مكسيكو سيتي عن السهرات اللبنانية. كانوا الدروس الأولى بالعربية الفصحى بعد المدرسة. وكنا صغاراً، لا نكترث بالفارق بين الكسرة والفتحة، ولا بالتسكين والتحريك. همّنا أنّ «ماريا» تروّضت، وما عادت صاحبة الصوت الصاخب والسلوك الفظّ.
تجمّلت باللباس الراقي وتسريحة الشعر المنضبطة. وبعد قصة الحب، رحنا نتابع مشقّة استعادة الابن. كرّر التاريخ نفسه، ووجدته بين الفقراء. من فرط عطفها عليه، اتّهمت بمعاشرته. لا تسألوا كيف تنتعش الذاكرة الآن!
تنطلق من البساطة والداخل الصافي نحو المفاجآت. في «ماريمار» كما في «روزاليندا»، «درويشة» تختبر خبث البشر. مرة وهي تبيع الورد، ومرة وهي تتنزّه على الشاطئ بسعادة المكتفين بالنعمة. مضى الوقت، وتاليا في الخمسين، يلقّبها أهل بلدها «ملكة البوب اللاتيني»، أو «الروك اللاتيني» أو «الساسا». تغني بالإسبانية، مع نكهات: البرتغالي والإنجليزي والفرنسي. حرصُ الأم على تعدد الثقافات.
آه «غودالوبي»، العرّابة الحنون. مَن يذكر؟ كانت مدبرة المنزل ورفيقة الدمع... وكم كان غزيراً، يسببه الحب والغدر وسوء الظن. طبعُ البطلة الإفراط في الشلالات. كله هيّن أمام بطلات الأتراك. نواح بأعلى العيارات، وبكاء على مد العين. أما الأحداث، فالحلقة 300 من الموسم الثالث لا تبشّر بأنّ النهاية قريبة. يتغيّر الأبطال، ينسحب ناس ويُزجّ بناس ودموع البطلة لا تجف. ما شاء الله.
تاليا المكسيكية في الخمسين: اشتعال الحنين
اشتهرت بالمسلسلات المدبلجة... أبرزها «ماريا مرسيدس» و«ماريا ابنة الحي»
تاليا المكسيكية في الخمسين: اشتعال الحنين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة