اختيارات الجمهور تبرز الكنوز الأثرية المصرية

المتاحف تعرض قطعاً مُخزنة للتصويت عليها رقمياً

خنجر مرصع بالذهب من مقتنيات متحف المركبات الملكية (وزارة السياحة والآثار المصرية)
خنجر مرصع بالذهب من مقتنيات متحف المركبات الملكية (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT

اختيارات الجمهور تبرز الكنوز الأثرية المصرية

خنجر مرصع بالذهب من مقتنيات متحف المركبات الملكية (وزارة السياحة والآثار المصرية)
خنجر مرصع بالذهب من مقتنيات متحف المركبات الملكية (وزارة السياحة والآثار المصرية)

في تغيير جذري للعلاقة بين المتاحف والجمهور، أصبح لعشاق الآثار الحق في اختيار قطعهم الأثرية المحببة لعرضها بشكل بارز شهرياً عبر تصويت عبر مواقع التوصل ضمن مبادرة «تحفة الشهر»، التي دشنتها وزارة السياحة والآثار لزيادة الوعي الأثري بين الجمهور.
ويقوم كل متحف بتحديد ثلاثة أو أربعة قطع للاختيار بينها، ويقوم الجمهور عبر الصفحة الرسمية على موقع «فيسيوك» بالتصويت لاختيار «قطعة الشهر»، وتحظى القطعة الفائزة باهتمام المتحف من خلال عرضها في «فاترينة» خاصة توضع بمكان بارز بقاعة العرض المركزية، كما يقوم أمناء المتحف خلال الجولات بالتركيز على القطعة الفائزة وشرح تفاصيلها للجمهور، وحثهم على المشاركة في التصويت لقطعة الشهر التالي، بما يعيد اكتشاف كنوز المتاحف ومقتنياتها التي لم تعرض من قبل.
ومن بين القطع التي اختارها الجمهور للعرض طوال شهر أغسطس (آب) الحالي في متحف الفن الإسلامي بوسط القاهرة، إبريق نحاسي، مزخرف بموضوعات تصويرية متعددة مأخوذة من قصص الأدب الفارسي، ورسوم نباتية متعددة، فيما يعرض المتحف القبطي بمنطقة مصر القديمة، قنينة فخارية لحفظ الماء، على وجهيها صورة القديس مينا رافعاً يديه وعلى جانبيه جملان وصليبان على جانبي رأسه، ووقع اختيار جمهور متحف المركبات الملكية بمنطقة بولاق أبو العلا «وسط القاهرة» على خنجر له جراب من الذهب مرصع بالأحجار الكريمة، ويخص الخنجر محمد سعيد طوسون بن محمد طوسون بن محمد سعيد باشا والي مصر، بن محمد علي باشا.
بينما اتخذت القطعة الفائزة للعرض بمتحف إيمحتب بمنطقة سقارة بالجيزة (غرب القاهرة) اتجاهاً مختلفاً في الاختيار، حيث يعرض المتحف «ذراعين للقياس» مصنوعين من الشست والخشب، من عصر الأسرة 19 بالدولة الحديثة، تم العثور عليهما في مقبرة «عبريا» بسقارة، وكان الذراع أحد المقاييس التي استخدمها المصري القديم وتساوي تقريباً 52.4 سم، وهو يمثل طول الذراع البشري حتى المرفق، واختار جمهور متحف مطار القاهرة الدولي عرض ملعقة للزينة، ذات مقبض على هيئة كلب يعض ذيل سمكة، من عصر الدولة الحديثة، وتم استخدم هذا النوع من الملاعق في تجميع المستحضرات المرهمية.
وساهم تقليد «قطعة الشهر» في جذب المزيد من الجماهير للمشاركة، وإعادة اكتشاف كنوز المتاحف المصرية، بحسب الدكتور أشرف أبو اليزيد، المشرف العام على الإدارة المركزية للمتاحف النوعية بوزارة السياحة والآثار، والذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن: «الهدف من تقليد (قطعة الشهر) هو خلق تفاعل بين المتحف والجمهور، وهو شكل من أشكال الديمقراطية، حيث أصبحت الطريقة القديمة رتيبة، ولا يمكن للمتاحف العمل من جانب واحد وفرض مقتنيات بعينها على روادها، وقد ساهمت الطريقة الجديدة في إضفاء تنوع على القطع المعروضة، وجذبت جمهوراً جديداً، فعندما تصوت لقطعة ما، ويتم عرضها فعلاً، تشعر أن رأيك مهم».
ويؤكد أبو اليزيد: «زيارة الكثيرين للمتاحف لرؤية القطع التي اختاروها بأنفسهم، عن قرب، كما لاحظنا زيادة التفاعل على صفحات المتاحف بموقع (فيسبوك)، حيث يطرح الرواد أسئلة كثيرة قبل التصويت ويطلبون معلومات أكثر عن القطع».
ومن أبرز القطع النادرة التي تعرض خلال الشهر الحالي، مصحف شريف كامل، من الورق، يعرضه متحف رشيد، وهو مكتوب بخط اليد، والمداد الأسود داخل إطار باللون الذهبي والأحمر، وعناوين السور بالمداد الأبيض، والتواصل بين الآيات بالمداد الأصفر، وذكر في الجزء السفلي أنه تم الانتهاء من نسخه عام 1294 هجرية، ومصحف نادر آخر يعرضه متحف سوهاج القومي، وهو «مصحف رحالة» كُتب بالخط المغربي المميز، منسوخ على ورق خشن بالمداد الأسود وأوراقه مفككة، وفي بعض الصفحات رسوم هندسية بسيطة بالألوان، وجرت العادة على حفظه داخل حافظة جلدية سهلة الحمل ليتنقل به المسافرون من مكان لآخر أو يستخدمونه للقراءة في رحلات الحج والتجارة والسفر لمسافات طويلة، ويلاحظ مراعاة الناسخ لحجم وهيئة المصحف ليلائم غرض القراءة أثناء التنقل والترحال، ويرجع للقرن 12 الهجري، (18 ميلادي).
ويسلط متحف قصر المنيل الضوء على سلطانية من البللور الأبيض كروية الشكل، عليها زخارف نباتية محورة مذهبة بداخلها فصوص باللون الأحمر والأخضر والأزرق، لها غطاء بمقبض من المعدن على شكل ثمرة الكمثرى. وللسلطانية طبق ذو حافة مموجة مذهبة مزين بنفس زخارف السلطانية وترجع لعصر أسرة محمد علي.
وتحرص المتاحف المصرية على اختيار قطع للتصويت عليها، لم تعرض على الجمهور من قبل، ويتم جلبها من مقتنيات المخازن وفق محمد السيد البرديني، وكيل متحف قصر المنيل، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «القطع التي يتم طرحها للتصويت تكون من مخزن المتحف ولم تعرض من قبل، وخصصنا (فاترينة) لعرض القطعة الفائزة كل شهر، موضوعة في سراي الإقامة، وهي أقدم أبنية القصر وأشهر قاعات المتحف، ويقوم أمناء المتحف بالتركيز عليها خلال الجولات العامة للجمهور».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)