ريكاردو كرم لـ «الشرق الأوسط»: نجوتُ من التلوّث... وبالإيمان وصلت

«مُحاوِر الكبار» يهزم الحروب والسلبيات

الإعلامي ريكاردو كرم
الإعلامي ريكاردو كرم
TT

ريكاردو كرم لـ «الشرق الأوسط»: نجوتُ من التلوّث... وبالإيمان وصلت

الإعلامي ريكاردو كرم
الإعلامي ريكاردو كرم

سؤال الترحيب بريكاردو كرم بعد السلام عبر الهاتف: أنتَ في لبنان أم في أصقاع التيه البشري؟ هو هنا، في وطنه الطافح بالتناقض، يُشذّب الشوك ويرفع شأن الورد. «نحسده» على التفاؤل: «كيف تستطيع؟ إنّه صعب جداً!». جبلته الحياة وجعلته يقدّر أبسط النِّعم: زهرة على الطريق، رائحة القهوة، تفاحة تقشّرها الأم بصدق، شروق شمس صنين... «أتطلّع إلى هذه الروائع كطفل». أراد منذ البداية أن يكون مختلفاً. وصعد السلالم بعد القفز فوق الهزائم. يتذكر المرات التي رُدّ فيها خائباً من شخصيات طلب مقابلتها، لكنه ألحّ ووصل. إعلامي لبناني لقبه «مُحاوِر الكبار»، تسأله «الشرق الأوسط» عن الحظ ونقاط التحوّل؛ عن هذا المارد الهشّ الذي يسمّونه الأمل، وعن ذاكرة عمرها 25 عاماً؛ وبيروت التي لا تموت.
يحلّ الصمت حين نسأله عن الحظ، هل ابتسم لك أم كشّر في وجهك؟ بحر من اللقاءات، ورحلة عطاءات، أتعقَّبَها الشقاء أم ظلّت مُحصّنة من براثنه وأنيابه؟ ريكاردو كرم لا يؤمن بالحظ. «هو غير موجود». يرى الحياة فرصاً، «وعلينا التصيُّد». يتوقّف أمام «نقاط تحوّل» أمسكت بيده وأوصلته إلى القمة. «لقد غيّرت حياتي». لم يعتقد يوماً أنّه سيكون حيث هو. كيف لمن تخصّص في الهندسة الكيميائية وإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية، «اقتحام» عالم التلفزيون والتواصل؟ «فعلتُ ذلك، لم يوجّهني أحد. بنيتُ نفسي».
علامَ اتّكلت، والمرء بطبعه باحثٌ عن دعامة تسنده؟ «على الإيمان». الناس تتلهّى بالقشور، وتحكم على الآخرين من المظاهر. يؤمن بأنّ التغيير يبدأ من نفسه، والنجاح الحقيقي هو بلوغ السلام الداخلي. ما الحياة؟ «لحظات تعاسة وحزن من أجل لحظة سعادة واحدة. أتعلّم ألا تستوقفني مسائل عقيمة وألا أخوض معارك هجينة. 25 عاماً من مشقات الوصول والحروب الداخلية والخارجية. كثر لم يؤمنوا بي. وبعضهم اعتذر عن عدم قبول الحضور ببرامجي. مع كل محاولة رحتُ أردّد في نفسي: مَن أنا حتى يوافقوا؟ ما جعلهم يفعلون هو أنني لم أستسلم».
تلوّع من المحاربة، «خصوصاً من أبناء بلدي»: «هذه المشكلة في لبنان؛ التربّص بنجاح الآخر والوقوف بالمرصاد لعرقلته». يوزّع أعماله اليوم ويوسّعها، ويسعده اتخاذه منذ البداية قرار «الوجود الحر»: «لم أرتبط حصرياً بشاشة. خياراتي مستقلة». يسمّي العملية «Different hats»؛ فهو إعلامي، لديه شركة إنتاج، ومؤسسة خيرية، وجائزة تكريمية، يعلّم فن الخطابة في جامعات ومنتديات عالمية. يتذكر وقوفه شاهداً على حروب مزعجة، وهو في أول الطريق. «لم أبقَ أسيرها. هزمتها وكنتُ الأقوى». اليوم يُكمل رسالته: «تجاوُز السلبيات».
يحزنه سقوط بعض الإعلام في الاستسهال والخبر الكاذب. ويَلوح في البال شريطٌ يعبق بالحنين، عن محطات ومحاولات وقرارات شخصية اتخذها، واليوم يتذكرها بفخر: «واو! لقد نجوت. لم ألوّث نفسي».
بالنسبة إليه، الإعلامي يسرد القصص. «شرط أن تكون حقيقية، على أمل إحداث تغيير وإيجاد مزيد من الوعي. هذا يخيف الناس، فكشفُ الأمور لا يروق البعض. سكنني فضول البحث عن القصص وتوثيقها، وكنتُ صغيراً حين طرقت أبواب أسماء كبيرة. لم أفكّر بهوية الشخص. طاردتُ قصصهم، وتعلّمت منهم إتقان الإنصات وتقبُّل الآخر كما هو. قد لا يصدّق البعض أنّ القامات والأسماء والمناصب، لا تحلّ قبل الأفكار وخبرة العُمر التي عاشتها الشخصية. أنا حصيلة كل هذه اللقاءات».
حاور كباراً من صنف أمين معلوف، وشارل أزنافور، وزها حديد، والدلاي لاما، وبيل غيتس، ولوتشيانو بافاروتي، وعناقيد تتدلّى تحت الشمس. «أضع قواي ومشاعري بكل لقاء». رسالته الإنسانية، «وكم يؤسفني أننا نفتقدها اليوم». يشعر بحلاوة الحياة، فـ«الألم يغذّي الرغبة في العيش». شكّل وصغيره نديم حين أُصيب بالسرطان نموذجاً ملهماً للصبر والتحمُّل. في عام 2014 كتب عبر «فيسبوك»: «ولدي نديم يتألم وهو بحاجة إلى صلواتكم»، وفي رجاء آخر، كتب: «توسّلتُ إلى الله أن يأخذ مني كل شيء وينقذه. استجاب لصلواتي وأعاده إلى الحياة. حاربنا لسنوات وربحنا المعركة. وقلوبنا المحطمة والمكسورة أصبحت مغمورة بالعاطفة». هذا النوع من الامتحانات يُغيّر المرء: «أصبحتُ أكثر قدرة على الحب. أقدّر قيمة الحياة، وفرحتي تتحقق بأبسط العطايا. تصنعنا آلامنا العميقة، وقدرتنا على الشكر».
لبنان موجوع، من أين لكَ قوة التماسك؟ يستعيد أغنية فيروز، كلمات زياد الرحباني وألحانه: «إذا ما بكينا ولا دمّعنا، ما تفتكروا فرحانين». «تثقلنا هذه الأيام، وجميعنا يتألم. أنهض صباحاً وأسأل الله ألا يحمل نهاري خسارة أخرى. لديّ أمل، لا أتخلّى عنه. قسوة الحياة تجعلني إنساناً أفضل. أتذكر دائماً أنّ وضعي قد يكون أسوأ. مقابل كل مصيبة، ثمة مصيبة أكبر. والبشر دوّامة عذابات. علينا التخطّي».
يحضّر لعودة تلفزيونية من باب الخليج في الخريف، ويفضّل التكتم على التفاصيل. «من المبكر التحدّث. أخبركِ فقط أنني سأعود بزخم». رجل مكانُه العالم، تكفيه إنسانيته ليلمس روح الكون. «لا أشعر بالغربة أينما حللت. أحمل قيمي التي تشدّني نحو الأرض؛ قيم الإنسان الحر». تغويه باريس، حيث صديقه أمين معلوف، وقد تناولا معاً العشاء قبل أسابيع. «مدينة السحر والعشق ونهر السين. والمقاهي والأفران حيث الكرواسون الساخن. أستيقظ فجراً للركض، وهي لا تزال نائمة. تُلهمني شغف الحياة».


مقالات ذات صلة

تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

العالم العربي تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

أظهر التقرير السنوي لحرية الصحافة لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، اليوم الأربعاء، أن تونس والسنغال كانتا من بين الدول التي تراجعت في الترتيب، في حين بقيت النرويج في الصدارة، وحلّت كوريا الشمالية في المركز الأخير. وتقدّمت فرنسا من المركز 26 إلى المركز 24.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم غوتيريش يندد باستهداف الصحافيين والهجوم على حرية الصحافة

غوتيريش يندد باستهداف الصحافيين والهجوم على حرية الصحافة

ندّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اليوم (الثلاثاء)، باستهداف الصحافيين، مشيراً إلى أنّ «حرية الصحافة تتعرّض للهجوم في جميع أنحاء العالم». وقال في رسالة عبر الفيديو بُثّت عشية الذكرى الثلاثين لـ«اليوم العالمي لحرية الصحافة»، إن «كلّ حرياتنا تعتمد على حرية الصحافة... حرية الصحافة هي شريان الحياة لحقوق الإنسان»، وفقاً لما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية. وأضاف أن «حرية الصحافة تتعرّض للهجوم في جميع أنحاء العالم»، مشيراً إلى أنّه «يتمّ استهداف الصحافيين والعاملين في الإعلام بشكل مباشر عبر الإنترنت وخارجه، خلال قيامهم بعملهم الحيوي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم صحافي ليبرالي في الصين يواجه تهمة «التجسس»

صحافي ليبرالي في الصين يواجه تهمة «التجسس»

ذكرت جمعية تعنى بالدفاع عن وسائل الإعلام أن تهمة التجسس وجهت رسمياً لصحافي صيني ليبرالي معتقل منذ عام 2022، في أحدث مثال على تراجع حرية الصحافة في الصين في السنوات الأخيرة، حسبما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية». كان دونغ يويو، البالغ 61 عاماً والمعروف بصراحته، يكتب افتتاحيات في صحيفة «كلارتي» المحافظة (غوانغمينغ ريباو) التي يملكها الحزب الشيوعي الحاكم. وقد أوقف في فبراير (شباط) 2022 أثناء تناوله الغداء في بكين مع دبلوماسي ياباني، وفق بيان نشرته عائلته الاثنين، اطلعت عليه لجنة حماية الصحافيين ومقرها في الولايات المتحدة. وقالت وزارة الخارجية اليابانية العام الماضي إنه أفرج عن الدبلوماسي بعد استجو

«الشرق الأوسط» (بكين)
العالم العربي المغرب: أربعة من وزراء الإعلام السابقين يرفضون لجنة مؤقتة لمجلس الصحافة

المغرب: أربعة من وزراء الإعلام السابقين يرفضون لجنة مؤقتة لمجلس الصحافة

بدا لافتاً خروج أربعة وزراء اتصال (إعلام) مغاربة سابقين ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة عن صمتهم، معبرين عن رفضهم مشروع قانون صادقت عليه الحكومة المغربية الأسبوع الماضي، لإنشاء لجنة مؤقتة لمدة سنتين لتسيير «المجلس الوطني للصحافة» وممارسة اختصاصاته بعد انتهاء ولاية المجلس وتعذر إجراء انتخابات لاختيار أعضاء جدد فيه. الوزراء الأربعة الذين سبق لهم أن تولوا حقيبة الاتصال هم: محمد نبيل بن عبد الله، الأمين العام لحزب «التقدم والاشتراكية» المعارض، ومصطفى الخلفي، عضو الأمانة العامة لحزب «العدالة والتنمية» المعارض أيضاً، والحسن عبيابة، المنتمي لحزب «الاتحاد الدستوري» (معارضة برلمانية)، ومحمد الأعرج، عضو

«الشرق الأوسط» (الرباط)
المشرق العربي «الجامعة العربية» تنتقد «التضييق» على الإعلام الفلسطيني

«الجامعة العربية» تنتقد «التضييق» على الإعلام الفلسطيني

انتقدت جامعة الدول العربية ما وصفته بـ«التضييق» على الإعلام الفلسطيني. وقالت في إفادة رسمية اليوم (الأربعاء)، احتفالاً بـ«يوم الإعلام العربي»، إن هذه الممارسات من شأنها أن «تشوّه وتحجب الحقائق». تأتي هذه التصريحات في ظل شكوى متكررة من «تقييد» المنشورات الخاصة بالأحداث في فلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما في فترات الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)