فنان مليونير يصفع الزائر بأعمال عن أزهار الكرز وحبوب منع الحمل

معرضان للبريطاني داميان هيرست في باريس

هيرست ولوحات ضخمة تبتلع المتفرج
هيرست ولوحات ضخمة تبتلع المتفرج
TT

فنان مليونير يصفع الزائر بأعمال عن أزهار الكرز وحبوب منع الحمل

هيرست ولوحات ضخمة تبتلع المتفرج
هيرست ولوحات ضخمة تبتلع المتفرج

تستضيف اثنتان من كبريات مؤسسات العروض التشكيلية في باريس، لوحات الفنان البريطاني داميان هيرست، هذا الصيف. ويقام المعرض الأول في صالة «غاغوسيان» تحت عنوان: «خزانة الحبوب»، والثاني في مؤسسة «كارتييه» بعنوان: «أزهار الكرز». وتبرز أهمية هذا الرسام في أن أعماله الرئيسية تدور حول فكرة الموت وهشاشة الوجود.
وإذا كان الجمهور الفرنسي، في العموم، لا يعرف الكثير عن داميان هيرست، فإن هناك من النقاد من يعدّه النجم الفذ للفن المعاصر. وبعد إغلاق للمتاحف والمعارض بسبب الوباء، تحتفي الطوابق الثلاثة لصالة «غاغوسيان» بلوحات الفنان التي تبدو منسجمة مع فكرة الكائنات ذوات العمر القصير والمهددة بالزوال بسبب تقلبات المواسم أو الأوبئة وما شابهها. وكان الفنان البريطاني قد حظي بشهرة عالمية، بين ليلة وضحاها، في عام 1991 حين عرض عملاً بعنوان: «الاستحالة المادية للموت في عقل شخص يعيش». وكان عبارة عن نمر يسبح في مادة الفورمالين الحافظة للأنسجة. أما في المعرض الباريسي فإن الفنان يقدم عملاً أكثر غرابة من خلال واجهات تعرض أكبر مجموعة يمكن تخيلها من حبوب منع الحمل.
يتكون العمل الذي يحمل عنوان: «التسامح والنسيان» من 15 ألف حبة موضوعة واحدة بجوار الأخرى بزوايا ومسافات مدروسة من الفنان. وفي محاولته لتفسير فكرته يقول هيرست: «دائماً ما كنت أنظر إلى خزانات الأدوية هذه على أنها هاوية أو فراغ. إنها تستهلكك وتبتلعك بالكامل. والمفارقة أنها مجرد صورة تعكس من نكون، وكأن تلك الحبوب الصغيرة التي نبتلعها تشعرنا بأننا أكثر إنسانية وحيوية وبقاء».
هل يندرج هذا العمل في خانة الرسم أو النحت أو التجهيز؟ من الواضح أن داميان هيرست يسعى من خلال هذه الحبيبات الملونة بمختلف الألوان إلى أن يثير دهشة المتفرج. فالخزانات ذوات الحواف المنحنية مصنوعة من الحديد، والحبوب مصنوعة من الجص أو المعدن المتشكل والمصبوغ يدوياً. كل ذلك أمام خلفية من مرآة عاكسة تبرز قوة العمل وتعطي إحساساً بالدوار للمتفرج الذي يرى وجهه فيها. إن الحبوب تشكل قوس قزح من الألوان الجذابة التي لا تقاوم. ولا يخفي الفنان المقيم في لندن حبه الألوان ويقول إنها تنبع من داخله وتجعل رأسه يدور.
تتعدد اهتمامات الفنان البالغ من العمر 56 عاماً. وهو ينتمي لجماعة الفنانين البريطانيين الشباب الذين هيمنوا على المشهد الفني في عقد التسعينات من القرن الماضي. وبحسب الموسوعات المتاحة عنه؛ فإنه «رسام ونحات ومصمم مطبوعات وصاحب مطعم»، يمارس التشكيل التركيبي والمفاهيمي. وهو أيضاً أغنى فنان يعيش في بريطانيا، مع ثروة بلغت 215 مليون جنيه إسترليني حسب قائمة الـ«صنداي تايمز» للأثرياء. وكان لشهرة هيرست علاقة وثيقة مع تاجر اللوحات وجامعها عراقي الأصل تشارلز ساتشي «ساعة جي». لكن خلافات أنهت تلك العلاقة.
ومثل غيره من الفنانين الذين تشكل أعمالهم «صرعة» أو موضة، تتعرض موهبة هيرست للتشكيك. هل هو فنان أم تاجر؟ وما الفرق بين الإبداع وبين السلعة؟ ذلك أنه غالباً مع يخطط لفكرة العمل ثم يترك التنفيذ لمساعديه، على غرار الفنان الأميركي جيف كونز الذي تباع أعماله الساذجة بعشرات الملايين من الدولارات.
من ضمن التنويعات على فكرة الموت المباغت، يتطرق الفنان إلى موضوع المخدرات وعن اعتقاد البعض بأنها يمكن أن تطيل العمر. وبهذا؛ فإن كل معرض جديد لهيرست هو بمثابة السؤال المطروح على الزوار: «ألا تعتقد أن للفن القدرة على الشفاء مثل الطب؟». وهو لا يخفي دهشته من أن الناس يؤمنون بالطب لكنهم لا يؤمنون بالفن.
في الوقت نفسه، على الضفة اليسرى من نهر السين، تقدم مؤسسة «كارتييه» معرضاً للوحات هيرست المسماة: «أزهار الكرز». والحقيقة أن الفنان لم يمسك بالفرشاة ولم يواجه قماش اللوحة منذ وقت طويل. لكن هيرفيه شانديز، مدير مؤسسة «كارتييه» التقاه في لندن قبل عامين ودعاه للحضور والعرض في باريس. وهو أول معرض لهيرست في مؤسسة فرنسية. وقد أنتج 107 لوحات ضخمة في الاستوديو الخاص به، بعضها بطول 7 في 5 أمتار؛ نُقل 30 منها إلى الصالات الزجاجية الواقعة في شارع «راسباي» بالعاصمة الفرنسية. وفي تصريح لصحيفة «لوباريزيان» قالت ماري بيرين، المنسقة المسؤولة عن المعرض، إن «اللوحة تقفز إليك». أما هيرست نفسه فيعترف بالمبالغة المفرطة في هذه اللوحات، ويقول إنه أراد أن تكون أزهار الكرز كبيرة جداً بحيث يمكنها احتضان المتفرج الذي يسقط في لجتها. ويضيف: «لطالما أردت أن أكون عدوانياً وأن أصفع الناظر إلى أعمالي». وإذا كانت أشجار الكرز في موسم تفتح أزهارها تبدو مختلفة تماماً عن علب حبوب منع الحمل، فإنها تشترك معها في أنها تتحدث عن التجدد واستحضار الحياة والموت والوجود سريع الزوال.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».