سينما مختلفة في «مينا» الهولندي

«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
TT

سينما مختلفة في «مينا» الهولندي

«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة

هناك عدد متزايد من الأفلام الروائية وغير الروائية التي تدور حول أفراد عزلوا أنفسهم بعيداً عن البيئات الحضرية والمدنية ليحيوا منفردين في بقاع غير مأهولة. اثنان من هذه الأفلام، على الأقل، تضمنهما مهرجان «مينا» (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) الذي انتهت أعماله أمس الأحد.
المهرجان وليد حديث بين المهرجانات العربية والأوروبية، وهذه هي دورته الرابعة التي أقيمت افتراضياً تبعاً للوضع الحالي لوباء «كورونا». لكن بثها الافتراضي على جمهور مهتم بأحوال المجتمعات في الدول المشاركة لم يمنع إيصال هويته التي يقول عنها مدير المهرجان محمد الأمين، إنها تختلف عن الدورات السابقة. يفسر: «ارتأينا في دورة العام الحالي الانفتاح على سينمات تواجه تحديات متقاربة مع سينمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أفلام حول مجتمعات تواجه إشكاليات وتحديات عديدة بدءاً من انعدام العدالة الاجتماعية والفقر والتابو السياسي والصراع من أجل كسب الحق في التعبير مروراً بجميع الصعاب التي تواجه الفرد في مجتمعات متذبذبة بين التقليد والحداثة».
رافق كل ذلك رفع عدد الجوائز من 4 إلى 10 في مسابقتين منفصلتين. واختير رئيس شرفي للدورة متمثل بالشاعر العراقي صلاح نيازي‬، أما لجنة التحكيم فتكونت من 6 شخصيات سينمائية وثقافية، تألفت من المخرج الجزائري - الهولندي كريم طريدية، والمنتجة الإيرانية إلاهه نوباخت، والكاتب المغربي حمادي غويرم، والكاتبة الروائية الجزائرية حنان بوخلالا، والسيناريست والمخرج المغربي محمد اليونسي، والسينمائية الهولندية فريدة كونينغ.
يُضيف الأمين: «أتتني فكرة المهرجان من عملي في مجال الصحافة الفنية في هولندا ومواكبة تظاهرات سينمائية عديدة في القارة الأوروبية. من جهة أخرى، أتابع التغطيات الصحافية والإعلامية لأحداث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي تغطيات غير مطابقة للواقع أو منحصرة في إطار الأحداث الساخنة. من هنا تبلورت فكرة مهرجان يسعى إلى خلق صورة واقعية صحيحة وربما تعطي صورة مختلفة عن التغطية الإعلامية الحالية للثقافة والمجتمع والوضع السياسي».
في الأهداف أيضاً تعريف الهولنديين بما توفره الأفلام المختلفة التي يعرضها المهرجان. يقول: «هي خدمة متبادلة، من ناحية يتعرف الهولنديون على خلفيات الحياة التي توفرها هذه الأفلام، ومن ناحية أخرى يتيح المهرجان فرصة حضور إبداعات المخرجين خارج بلادهم».

أفلام الفنون
تلتصق الأفلام الطويلة والقصيرة التي عرضها المهرجان ما بين 20 و22 من الشهر الحالي بالغايات المعلن عنها على نحو جلي مع ضمان اختلاف الرؤى التعبيرية التي يختارها المخرجون لأعمالهم.
ويتمثل ذلك على أفضل وجه بفيلم الافتتاح «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة. فيلم خارج التصنيف ومشغول بدراية كبيرة للكيفية التي يريد فيها المخرج (جزائري مُقيم في فرنسا) الخروج من كل شكل معتاد ليغرف من زاد التجربة الفنية الخاصة. دقائق قليلة جداً من الفيلم كافية لأن تؤكد للمشاهد أنه ليس حيال عمل عادي لا في تركيبه ولا في موضوعه ولا في عناصر فنه. يغرف بن عمرة من موهبة لا محدودة منتقلاً ما بين الحاضر والماضي، والفردي والعام، والوجدانيات التي ينضح بها حديث الممثل محمد أدار عن نفسه وأعماله لجانب رصد الأفكار التي يستعيرها الفيلم من مواد سابقة صورها لشخصيات ثقافية وسينمائية مهمـة التقى بها في باريس أيام المناداة بسينما عربية بديلة في السبعينات.
يؤم المخرج أنواع وعناصر عمل كثيرة ويتعامل الفيلم مع مضامين عدة. إنه فيلم ذكريات وذاكرة وفيلم عن التمثيل والفن والسينما والمسرح مع أفكار وجودية تشكل المظلة وتستخدم تشكيلاً فنياً مثيراً للإعجاب يشي بالأوقات العصيبة التي لا بد أن المخرج قضاها وهو يرتب ويختار ويُوَلف لقطاته العديدة.
في صنف التجريب كذلك، عرض المهرجان الفيلم الياباني «Gong‪ - ‬ Batu» لمخرج شاب اسمه شوويشي إواموتو. هذا مخرج آت من درب الموسيقى، والموسيقى تعني الصوت وهو مشغول هنا بتسجيل الصوت في حضوره الطبيعي الأول عبر النقر على الحجر. في الواقع يبدأ الفيلم وينتهي بيد رجل ترفع حجراً ثم تتركه يعود إلى وضعه فوق صخرة كبيرة. الصوت الناتج هو ما يبحث عنه الشخص الماثل أمامنا وهو يعاود النقر على أحجار وصخور مختلفة ليسجل منها أصواتاً متعددة.
الفيلم، بالأبيض والأسود، ينتقل من طبيعة آسرة إلى أخرى موحشة. لكن هذا لا يعني المخرج كثيراً في بحثه عن الصوت والإيقاع. بعد قليل من بدء الفيلم تتسلل غرابته إلى ما تحت جلد المُشاهد الموافق على متابعة هذه التجربة حتى النهاية.

ربيع 2011
في مجال الفن كذلك عرض مهرجان «مينا» الفيلم الإسباني «أراض مبنية» لأرتورو دواناس. هذه المرة يدلف الفيلم إلى عالم الرسم من خلال التحية التي يلقيها على الرسام فيلكس جيراردرادو لوماس. رجل في الربع الأخير من سنوات حياته (وُلد سنة 1930) عاصر الحرب الأهلية صغيراً، وترعرع في حب الفن وانشغل به إلى اليوم. هو رسم كثيراً من سنة 1965، ولو أنه يعترف بأن الكثير مما رسمه توزع في أماكن شتى لا يعرفها.
يعرض رسوماته، واحدة منها تشبه تلك التي وضعها الجيورجي نيقولاي بيروسماني (1863 - 1918). في حديث لوماس عن لوحاته يؤكد أنه استلهم أعماله مما رسمه غيره عبر قرون، لكنه أضاف اللمسة العصرية التي تميز ما قام به. معظم ما يشغل الفيلم هو مقابلة مع الرسام، لكنه يقطع الاسترسال بلقطات للبيئة الطبيعية الجميلة التي يعيش فيها تسكنها موسيقى كلاسيكية تضيف تلاحم الفنون الثلاثة (الرسم والتصوير والموسيقى) مع التشكيلات الجمالية التي يتمتع بها هذا الفيلم.
بدوره يدلف فيلم «وداعاً» لبترا سليزكار (سلوفانيا) في حياة المغني توماش بنغوف الذي نشأ في مدينة ليوبليانا السلوفانية. الفترة التي وضع فيها بنغوف أغانيه (عزفها منفرداً على غيتاره) هي تلك التي بدأ فيها توق المقاطعة للاستقلال السياسي. أغانيه (ما نسمعه منها في هذا الفيلم، على الأقل) لا تدعو للثورة مباشرة، لكنها تفصح بكلماتها المنطوقة والتحتية بذلك التوق صوب الحرية والتغيير.
لكن الفيلم لا يمضي جيداً في ربط شخصية الراحل في أتون الوضع الاجتماعي العام. ويبقى مشغولاً بمشروع بيوغرافي لا يتجاوز المعطيات البدهية ويمضي في درب تقليدي ما يجعل الموضوع يخفق في أن يبدو مهماً.
على إيقاع مختلف ملؤه أصوات الحانقين على وضع قريب العهد، أنجز الإسباني مارك ألمودوفار، فيلماً تسجيلياً عن أحداث 28 يناير (كانون الثاني) سنة 2011، بعنوان «جمعة الغضب». إنه يوم صلاة المؤمنين قبل انطلاقهم للاشتراك في تظاهرات القاهرة ضد الرئيس حسني مبارك. يواكب المخرج وفريقه من المصورين والمساعدين المصريين ذلك اليوم من الظهر لساعات الليل ويلتقط المسيرات والمناوشات وإلقاء قنابل الغازات عليهم ومخاوف سقوط المصابين بأيدي رجال الأمن وكل ما شهدته «جمعة الغضب» من تفاعلات.
لكن الفيلم آت بعد عشر سنوات مضت وعشرات الأعمال المصورة للسينما وللتلفزيون حول تلك الأحداث المصيرية. لا جديد فيه ولا إضافة للمفاهيم التي ثار ضدها أو تلك التي تبناها المتظاهرون. الشيء الوحيد المختلف عن معظم ما شوهد من أفلام تلك الفترة تلك الطاقة الحثيثة التي تسود الفيلم. حيوية تعايش الوضع المسجل في مده وجزره. رغم هذا لا تتجاوز إطلالة المخرج على الوضع ما وفرته الأعمال الأخرى.

سعداء متوحدون
بعيداً عن كل هذه المشاغل، يأخذنا فيلم الروسي أليكساي غولوفغوف «عندما يذوب الثلج» إلى حياة مختلفة ومنفردة. رجل من صقاع ثلجية بعيدة يعيش وحيداً في مزرعته من الغزلان والرنة وكلبين وهو، يقول، سعيد بذلك. يشعر بأنه يمارس الحياة التي وُلد عليها الأجداد، والتي لا يمانع في أن يموت عليها ولربما اقتفى خطاه حفيد له.
يقطع الفيلم لامرأة تعمل في روما تقدم نفسها على أنها رحالة جابت مدناً كثيرة ولم تستقر بعد. نراها في عملها في محل بيع لحومات ومعلبات وفي تنقلاتها في أنحاء المدينة وخارجها.
لا يتساوى حجم الاهتمام بالرجل المنقطع عن العالم بحجم الاهتمام بتلك المرأة لا من حيث الوقت المتاح لكل منهما، ولا من حيث قدرة الأول على اختطاف كل الاهتمام أو غالبه. والمخرج يعرف ذلك ولا يداريه. ثم يكشف في النهاية عن مفاجأة رائعة عندما تجلس المرأة لكي تكتب لأبيها رسالة. الأب ليس سوى ذلك المنغولي البعيد.
في بؤرة المخرج تسجيل الحياة البيضاء، نسبة للثلوج الكثيفة، لذلك الرجل ومتابعة يومياته. يقطع الخشب للتدفئة. يستخرج من الثلج غزلاناً نافقة يُطعم منها كلبيه. يجول في تلك البقاع المقفرة ويصطاد ما يؤمن له مؤونة الأيام المقبلة. كل ذلك على نحو أكثر حرارة من الموقع ذاته ما يمنح الفيلم جوهره.
وعن قطيعة أخرى عن العالم، يمضي الفيلم التركي «حان وقت الرحيل» لسرد حكاية ذلك الرجل العجوز حسن طالاي، الذي يعيش في بيت منفرد فوق رابية تطل على قرية تركية صغيرة. يقدم نفسه قائلاً «عمري 80 سنة تقريباً قضيت نصفها في ألمانيا». ويرى الآن أنه سعيد لا بعودته إلى تركيا فحسب بل في عزلته.
حسن حالة تدعو للدهشة في هذا الفيلم التسجيلي. فرغم عمره المديد يصعد الدرجات بلا سند (بيته كوخ من طابقين ومدخله في الطابق الأعلى)، يمشي في السهوب والجبال بلا كلل. يقطع الخشب بالفأس؛ بل نراه في مشهد أخاذ وهو يصعد جبلاً ليعود منه بجذع شجرة كبير يربطه بحبل ويجره فوق وعورة المكان من ثم يجتاز به النهر قبل أن يستوي في سهل مديد. هنا يحمل الجذع على كتفه ويمضي باتجاه بيته. المشهد الأخير لحسن وهو يمشي بعيداً عن الكاميرا موفراً لمن يعيش في مدينة مكتظة جمال الخلود إلى حيث لا يعيش أحد سواه.
كلا الفيلمين يحتويان على ثراء في المناظر يتأتى بطبيعة الحال بسبب المواقع النائية حيث جرى التصوير.
وكلاهما خرج من المهرجان بجائزة ففي حين فاز «حان وقت الرحيل» بجائزة أفضل إخراج، فاز «عندما يذوب الثلج» بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل.
بالنسبة للأفلام الروائية فاز بجائزتها الأولى فيلم محمد رضا فرطوسي «أنا يوسف يا أمي» الذي كنا تناولناه في عدد السابع من هذا الشهر في «الشرق الأوسط». دراما لها حسناتها وبعض المتاعب حول الرجل المختبئ تحت أرض المنزل الذي تعيش فيه والدته منذ 21 سنة. كلما خرج من مخبئه عكس تعاملاً رقيقاً مع ذكريات من الحياة السابقة التي كانت بمتناوله. يعبث بالذكريات عبر الصور وتعبث الذكريات به. الأم هي الوحيدة التي تعرف بوجوده. فالاعتقاد السائد هو أنه لا يزال هارباً وربما ميتاً. في المرة الأخيرة التي يخرج فيها يوسف من جحره يخرج غاضباً مكرراً أنه عاش كالجرذ لكل تلك السنوات ولم يعد يحتمل. يغادر المنزل ويركض في ليل مدينة ملتهبة لاهثاً، لكن إلى أين؟


مقالات ذات صلة

«سرابيوم الإسكندرية» يوثق اندماج «الإغريق» في الحضارة المصرية القديمة

يوميات الشرق فيلم «سرابيوم الإسكندرية» (مكتبة الإسكندرية)

«سرابيوم الإسكندرية» يوثق اندماج «الإغريق» في الحضارة المصرية القديمة

يوثق فيلم «سرابيوم الإسكندرية» حالة الاندماج بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة الإغريقية، خصوصاً فترة الحكم اليوناني لمصر التي بدأت في عهد خلفاء الإسكندر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق فيلم «جلسة خير أفريقية» للمخرج إبراهيم مرسال من ضمن الأفلام المشاركة

«البحر الأحمر السينمائي» يكشف عن قائمة الأفلام العربية القصيرة لعام 2024

كشف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الأربعاء عن قائمة الأفلام العربية القصيرة المشاركة في دورته الرابعة وسيعرض المهرجان الأفلام القصيرة على الشاشة الفضية.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق جانب من تصوير فيلم «طريق الوادي» الذي تجوَّل في 10 مواقع تصوير بالسعودية (الشرق الأوسط)

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

تتأهب صالات السينما في الصين لعرض مجموعة متنوعة من الأفلام السعودية منها فيلم «طريق الوادي» و«مطارد النجوم» ضمن فعالية «ليالي الفيلم السعودي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو (أ.ف.ب)

آل باتشينو: نبضي توقف دقائق إثر إصابتي بـ«كورونا» والجميع اعتقد أنني مت

كشف الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو أنه كاد يموت في عام 2020، إثر إصابته بفيروس «كورونا»، قائلاً إنه «لم يكن لديه نبض» عدة دقائق.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين بمسابقة أفلام البحر المتوسط رفقة المخرج يسري نصر الله (إدارة المهرجان)

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

اختتم مهرجان الإسكندرية السينمائي دورته الـ40، وهي الدورة التي عدّها نقاد وصناع أفلام «ناجحة» في ظل ظروف صعبة تتعلق بالميزانية الضعيفة والاضطرابات الإقليمية.

انتصار دردير (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)