سينما مختلفة في «مينا» الهولندي

«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
TT

سينما مختلفة في «مينا» الهولندي

«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة

هناك عدد متزايد من الأفلام الروائية وغير الروائية التي تدور حول أفراد عزلوا أنفسهم بعيداً عن البيئات الحضرية والمدنية ليحيوا منفردين في بقاع غير مأهولة. اثنان من هذه الأفلام، على الأقل، تضمنهما مهرجان «مينا» (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) الذي انتهت أعماله أمس الأحد.
المهرجان وليد حديث بين المهرجانات العربية والأوروبية، وهذه هي دورته الرابعة التي أقيمت افتراضياً تبعاً للوضع الحالي لوباء «كورونا». لكن بثها الافتراضي على جمهور مهتم بأحوال المجتمعات في الدول المشاركة لم يمنع إيصال هويته التي يقول عنها مدير المهرجان محمد الأمين، إنها تختلف عن الدورات السابقة. يفسر: «ارتأينا في دورة العام الحالي الانفتاح على سينمات تواجه تحديات متقاربة مع سينمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أفلام حول مجتمعات تواجه إشكاليات وتحديات عديدة بدءاً من انعدام العدالة الاجتماعية والفقر والتابو السياسي والصراع من أجل كسب الحق في التعبير مروراً بجميع الصعاب التي تواجه الفرد في مجتمعات متذبذبة بين التقليد والحداثة».
رافق كل ذلك رفع عدد الجوائز من 4 إلى 10 في مسابقتين منفصلتين. واختير رئيس شرفي للدورة متمثل بالشاعر العراقي صلاح نيازي‬، أما لجنة التحكيم فتكونت من 6 شخصيات سينمائية وثقافية، تألفت من المخرج الجزائري - الهولندي كريم طريدية، والمنتجة الإيرانية إلاهه نوباخت، والكاتب المغربي حمادي غويرم، والكاتبة الروائية الجزائرية حنان بوخلالا، والسيناريست والمخرج المغربي محمد اليونسي، والسينمائية الهولندية فريدة كونينغ.
يُضيف الأمين: «أتتني فكرة المهرجان من عملي في مجال الصحافة الفنية في هولندا ومواكبة تظاهرات سينمائية عديدة في القارة الأوروبية. من جهة أخرى، أتابع التغطيات الصحافية والإعلامية لأحداث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي تغطيات غير مطابقة للواقع أو منحصرة في إطار الأحداث الساخنة. من هنا تبلورت فكرة مهرجان يسعى إلى خلق صورة واقعية صحيحة وربما تعطي صورة مختلفة عن التغطية الإعلامية الحالية للثقافة والمجتمع والوضع السياسي».
في الأهداف أيضاً تعريف الهولنديين بما توفره الأفلام المختلفة التي يعرضها المهرجان. يقول: «هي خدمة متبادلة، من ناحية يتعرف الهولنديون على خلفيات الحياة التي توفرها هذه الأفلام، ومن ناحية أخرى يتيح المهرجان فرصة حضور إبداعات المخرجين خارج بلادهم».

أفلام الفنون
تلتصق الأفلام الطويلة والقصيرة التي عرضها المهرجان ما بين 20 و22 من الشهر الحالي بالغايات المعلن عنها على نحو جلي مع ضمان اختلاف الرؤى التعبيرية التي يختارها المخرجون لأعمالهم.
ويتمثل ذلك على أفضل وجه بفيلم الافتتاح «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» للمخرج حميد بن عمرة. فيلم خارج التصنيف ومشغول بدراية كبيرة للكيفية التي يريد فيها المخرج (جزائري مُقيم في فرنسا) الخروج من كل شكل معتاد ليغرف من زاد التجربة الفنية الخاصة. دقائق قليلة جداً من الفيلم كافية لأن تؤكد للمشاهد أنه ليس حيال عمل عادي لا في تركيبه ولا في موضوعه ولا في عناصر فنه. يغرف بن عمرة من موهبة لا محدودة منتقلاً ما بين الحاضر والماضي، والفردي والعام، والوجدانيات التي ينضح بها حديث الممثل محمد أدار عن نفسه وأعماله لجانب رصد الأفكار التي يستعيرها الفيلم من مواد سابقة صورها لشخصيات ثقافية وسينمائية مهمـة التقى بها في باريس أيام المناداة بسينما عربية بديلة في السبعينات.
يؤم المخرج أنواع وعناصر عمل كثيرة ويتعامل الفيلم مع مضامين عدة. إنه فيلم ذكريات وذاكرة وفيلم عن التمثيل والفن والسينما والمسرح مع أفكار وجودية تشكل المظلة وتستخدم تشكيلاً فنياً مثيراً للإعجاب يشي بالأوقات العصيبة التي لا بد أن المخرج قضاها وهو يرتب ويختار ويُوَلف لقطاته العديدة.
في صنف التجريب كذلك، عرض المهرجان الفيلم الياباني «Gong‪ - ‬ Batu» لمخرج شاب اسمه شوويشي إواموتو. هذا مخرج آت من درب الموسيقى، والموسيقى تعني الصوت وهو مشغول هنا بتسجيل الصوت في حضوره الطبيعي الأول عبر النقر على الحجر. في الواقع يبدأ الفيلم وينتهي بيد رجل ترفع حجراً ثم تتركه يعود إلى وضعه فوق صخرة كبيرة. الصوت الناتج هو ما يبحث عنه الشخص الماثل أمامنا وهو يعاود النقر على أحجار وصخور مختلفة ليسجل منها أصواتاً متعددة.
الفيلم، بالأبيض والأسود، ينتقل من طبيعة آسرة إلى أخرى موحشة. لكن هذا لا يعني المخرج كثيراً في بحثه عن الصوت والإيقاع. بعد قليل من بدء الفيلم تتسلل غرابته إلى ما تحت جلد المُشاهد الموافق على متابعة هذه التجربة حتى النهاية.

ربيع 2011
في مجال الفن كذلك عرض مهرجان «مينا» الفيلم الإسباني «أراض مبنية» لأرتورو دواناس. هذه المرة يدلف الفيلم إلى عالم الرسم من خلال التحية التي يلقيها على الرسام فيلكس جيراردرادو لوماس. رجل في الربع الأخير من سنوات حياته (وُلد سنة 1930) عاصر الحرب الأهلية صغيراً، وترعرع في حب الفن وانشغل به إلى اليوم. هو رسم كثيراً من سنة 1965، ولو أنه يعترف بأن الكثير مما رسمه توزع في أماكن شتى لا يعرفها.
يعرض رسوماته، واحدة منها تشبه تلك التي وضعها الجيورجي نيقولاي بيروسماني (1863 - 1918). في حديث لوماس عن لوحاته يؤكد أنه استلهم أعماله مما رسمه غيره عبر قرون، لكنه أضاف اللمسة العصرية التي تميز ما قام به. معظم ما يشغل الفيلم هو مقابلة مع الرسام، لكنه يقطع الاسترسال بلقطات للبيئة الطبيعية الجميلة التي يعيش فيها تسكنها موسيقى كلاسيكية تضيف تلاحم الفنون الثلاثة (الرسم والتصوير والموسيقى) مع التشكيلات الجمالية التي يتمتع بها هذا الفيلم.
بدوره يدلف فيلم «وداعاً» لبترا سليزكار (سلوفانيا) في حياة المغني توماش بنغوف الذي نشأ في مدينة ليوبليانا السلوفانية. الفترة التي وضع فيها بنغوف أغانيه (عزفها منفرداً على غيتاره) هي تلك التي بدأ فيها توق المقاطعة للاستقلال السياسي. أغانيه (ما نسمعه منها في هذا الفيلم، على الأقل) لا تدعو للثورة مباشرة، لكنها تفصح بكلماتها المنطوقة والتحتية بذلك التوق صوب الحرية والتغيير.
لكن الفيلم لا يمضي جيداً في ربط شخصية الراحل في أتون الوضع الاجتماعي العام. ويبقى مشغولاً بمشروع بيوغرافي لا يتجاوز المعطيات البدهية ويمضي في درب تقليدي ما يجعل الموضوع يخفق في أن يبدو مهماً.
على إيقاع مختلف ملؤه أصوات الحانقين على وضع قريب العهد، أنجز الإسباني مارك ألمودوفار، فيلماً تسجيلياً عن أحداث 28 يناير (كانون الثاني) سنة 2011، بعنوان «جمعة الغضب». إنه يوم صلاة المؤمنين قبل انطلاقهم للاشتراك في تظاهرات القاهرة ضد الرئيس حسني مبارك. يواكب المخرج وفريقه من المصورين والمساعدين المصريين ذلك اليوم من الظهر لساعات الليل ويلتقط المسيرات والمناوشات وإلقاء قنابل الغازات عليهم ومخاوف سقوط المصابين بأيدي رجال الأمن وكل ما شهدته «جمعة الغضب» من تفاعلات.
لكن الفيلم آت بعد عشر سنوات مضت وعشرات الأعمال المصورة للسينما وللتلفزيون حول تلك الأحداث المصيرية. لا جديد فيه ولا إضافة للمفاهيم التي ثار ضدها أو تلك التي تبناها المتظاهرون. الشيء الوحيد المختلف عن معظم ما شوهد من أفلام تلك الفترة تلك الطاقة الحثيثة التي تسود الفيلم. حيوية تعايش الوضع المسجل في مده وجزره. رغم هذا لا تتجاوز إطلالة المخرج على الوضع ما وفرته الأعمال الأخرى.

سعداء متوحدون
بعيداً عن كل هذه المشاغل، يأخذنا فيلم الروسي أليكساي غولوفغوف «عندما يذوب الثلج» إلى حياة مختلفة ومنفردة. رجل من صقاع ثلجية بعيدة يعيش وحيداً في مزرعته من الغزلان والرنة وكلبين وهو، يقول، سعيد بذلك. يشعر بأنه يمارس الحياة التي وُلد عليها الأجداد، والتي لا يمانع في أن يموت عليها ولربما اقتفى خطاه حفيد له.
يقطع الفيلم لامرأة تعمل في روما تقدم نفسها على أنها رحالة جابت مدناً كثيرة ولم تستقر بعد. نراها في عملها في محل بيع لحومات ومعلبات وفي تنقلاتها في أنحاء المدينة وخارجها.
لا يتساوى حجم الاهتمام بالرجل المنقطع عن العالم بحجم الاهتمام بتلك المرأة لا من حيث الوقت المتاح لكل منهما، ولا من حيث قدرة الأول على اختطاف كل الاهتمام أو غالبه. والمخرج يعرف ذلك ولا يداريه. ثم يكشف في النهاية عن مفاجأة رائعة عندما تجلس المرأة لكي تكتب لأبيها رسالة. الأب ليس سوى ذلك المنغولي البعيد.
في بؤرة المخرج تسجيل الحياة البيضاء، نسبة للثلوج الكثيفة، لذلك الرجل ومتابعة يومياته. يقطع الخشب للتدفئة. يستخرج من الثلج غزلاناً نافقة يُطعم منها كلبيه. يجول في تلك البقاع المقفرة ويصطاد ما يؤمن له مؤونة الأيام المقبلة. كل ذلك على نحو أكثر حرارة من الموقع ذاته ما يمنح الفيلم جوهره.
وعن قطيعة أخرى عن العالم، يمضي الفيلم التركي «حان وقت الرحيل» لسرد حكاية ذلك الرجل العجوز حسن طالاي، الذي يعيش في بيت منفرد فوق رابية تطل على قرية تركية صغيرة. يقدم نفسه قائلاً «عمري 80 سنة تقريباً قضيت نصفها في ألمانيا». ويرى الآن أنه سعيد لا بعودته إلى تركيا فحسب بل في عزلته.
حسن حالة تدعو للدهشة في هذا الفيلم التسجيلي. فرغم عمره المديد يصعد الدرجات بلا سند (بيته كوخ من طابقين ومدخله في الطابق الأعلى)، يمشي في السهوب والجبال بلا كلل. يقطع الخشب بالفأس؛ بل نراه في مشهد أخاذ وهو يصعد جبلاً ليعود منه بجذع شجرة كبير يربطه بحبل ويجره فوق وعورة المكان من ثم يجتاز به النهر قبل أن يستوي في سهل مديد. هنا يحمل الجذع على كتفه ويمضي باتجاه بيته. المشهد الأخير لحسن وهو يمشي بعيداً عن الكاميرا موفراً لمن يعيش في مدينة مكتظة جمال الخلود إلى حيث لا يعيش أحد سواه.
كلا الفيلمين يحتويان على ثراء في المناظر يتأتى بطبيعة الحال بسبب المواقع النائية حيث جرى التصوير.
وكلاهما خرج من المهرجان بجائزة ففي حين فاز «حان وقت الرحيل» بجائزة أفضل إخراج، فاز «عندما يذوب الثلج» بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل.
بالنسبة للأفلام الروائية فاز بجائزتها الأولى فيلم محمد رضا فرطوسي «أنا يوسف يا أمي» الذي كنا تناولناه في عدد السابع من هذا الشهر في «الشرق الأوسط». دراما لها حسناتها وبعض المتاعب حول الرجل المختبئ تحت أرض المنزل الذي تعيش فيه والدته منذ 21 سنة. كلما خرج من مخبئه عكس تعاملاً رقيقاً مع ذكريات من الحياة السابقة التي كانت بمتناوله. يعبث بالذكريات عبر الصور وتعبث الذكريات به. الأم هي الوحيدة التي تعرف بوجوده. فالاعتقاد السائد هو أنه لا يزال هارباً وربما ميتاً. في المرة الأخيرة التي يخرج فيها يوسف من جحره يخرج غاضباً مكرراً أنه عاش كالجرذ لكل تلك السنوات ولم يعد يحتمل. يغادر المنزل ويركض في ليل مدينة ملتهبة لاهثاً، لكن إلى أين؟


مقالات ذات صلة

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

يوميات الشرق جانب من تصوير فيلم «طريق الوادي» الذي تجوَّل في 10 مواقع تصوير بالسعودية (الشرق الأوسط)

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

تتأهب صالات السينما في الصين لعرض مجموعة متنوعة من الأفلام السعودية منها فيلم «طريق الوادي» و«مطارد النجوم» ضمن فعالية «ليالي الفيلم السعودي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو (أ.ف.ب)

آل باتشينو: نبضي توقف دقائق إثر إصابتي بـ«كورونا» والجميع اعتقد أنني مت

كشف الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو أنه كاد يموت في عام 2020، إثر إصابته بفيروس «كورونا»، قائلاً إنه «لم يكن لديه نبض» عدة دقائق.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين بمسابقة أفلام البحر المتوسط رفقة المخرج يسري نصر الله (إدارة المهرجان)

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

اختتم مهرجان الإسكندرية السينمائي دورته الـ40، وهي الدورة التي عدّها نقاد وصناع أفلام «ناجحة» في ظل ظروف صعبة تتعلق بالميزانية الضعيفة والاضطرابات الإقليمية.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق ‎⁨تضم النسخة الثانية معرضاً يجمع «سلسلة القيمة» في أكثر من 16 مجالاً مختلفاً ومؤتمراً مختصاً يتضمن 30 جلسة حوارية⁩

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

بعد النجاح الكبير الذي شهده «منتدى الأفلام السعودي» في نسخته الأولى العام الماضي 2023، تستعد العاصمة السعودية الرياض لانطلاقة النسخة الثانية من «المنتدى».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ياسمين رئيس مع أسماء جلال في مشهد من الفيلم (حسابها على «فيسبوك»)

فنانون مصريون يتجهون للإنتاج السينمائي والدرامي

انضمت الفنانة المصرية ياسمين رئيس لقائمة الممثلين الذين قرروا خوض تجربة الإنتاج السينمائي من خلال فيلمها الجديد «الفستان الأبيض».

أحمد عدلي (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».