«تصحيح المسار»... بايدن يكمل ما بدأه أوباما في الشرق الأوسط

بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)
بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)
TT

«تصحيح المسار»... بايدن يكمل ما بدأه أوباما في الشرق الأوسط

بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)
بايدن وأوباما في 2017 (أ.ب)

قبل عشرة أيام، اتصل مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، بنظيره الإسرائيلي، وأعاد عقارب الساعة إلى الوراء. بحسب العرض الأميركي للحوار، دعا سوليفان إلى «التعبير عن مخاوف الولايات المتحدة الخطيرة» بشأن أمرين: الإخلاء المعلق -بأمر من المحكمة- لعدد من العائلات الفلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح في القدس، والاشتباكات العنيفة التي وقعت في نهاية الأسبوع في الحرم القدسي بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين فلسطينيين. بعبارات أخرى، أكدت إدارة الرئيس جو بايدن علناً إعلاء المصلحة الوطنية الأميركية في منع عمليات إخلاء الشيخ جراح، بغض النظر عن إملاءات القانون الإسرائيلي -تماماً في الوقت الذي كانت «حماس» ترسل فيه صواريخ وأجهزة حارقة إلى إسرائيل لتبعث بالرسالة نفسها. كان هذا الجهد الواعي لوضع «رؤية واضحة» بين الولايات المتحدة وإسرائيل بمثابة عودة واضحة لنهج الرئيس باراك أوباما.
إن دعوة سوليفان تدعونا لإعادة فتح الجدال الذي لم يُحسم بعد، والذي بدأ حتى قبل أن يؤدي الرئيس جو بايدن اليمين الدستورية: هل يشق الرئيس الجديد طريقه في الشرق الأوسط أم أنه يسير على خطى أوباما؟ وحتى الآن، فإن أولئك الذين كانوا يخشون أن تصبح رئاسته ولاية ثالثة لأوباما قد ركزوا عيونهم الحذرة على روبرت مالي الذي اختاره الرئيس مبعوثاً لإيران. ففي أثناء خدمته في البيت الأبيض لأوباما، ساعد مالي في التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني، وهو الذي سعى إلى التسويات مع طهران؛ هذه التسويات التي جاءت على حساب حلفاء أميركا في الشرق الأوسط. وفي مقالة لمجلة «فورين أفيرز»، كُتبت في 2019، أعرب مالي عن أسفه لأن أوباما فشل في التوصل إلى مزيد من هذه الإجراءات التيسيرية. وكتب مالي أن اتجاه سياسة أوباما جدير بالثناء، ولكن «اعتداله» كان عدواً لمشروعه. وكونه «أحد أنصار المنهج التدريجي»، فقد أشرف على «تجربة تم تعليقها في منتصف الطريق».
والآن، ينصح مالي -صاحب المقالة التي تقود المرء إلى تولي المسؤولية- بايدن بالمضي قدماً وبسرعة. ولكن من المؤكد أن الرئيس، وليس مبعوثه إلى إيران، هو الذي يحدد اتجاه السياسة ووتيرتها. وعلى مدار مسيرته المهنية في واشنطن التي امتدت لنصف قرن تقريباً، لم يوقف بايدن أبداً أياً من ملفات الراديكالية المتطرفة، وكذلك لم يفعل سوليفان، ولا وزير الخارجية أنطوني بلينكن. إن وجود هذا الزوج إلى جانب بايدن يشير لكثيرين إلى أن مالي لن يقوم بتوجيه دفة السياسة تجاه إيران. وبعد فترة وجيزة من الانتخابات، أشار أحد المخضرمين في واشنطن إلى أن «بلينكن وسوليفان هما بالتأكيد من الجناح الأكثر اعتدالًا في الحزب، وهذا أمر مطمئن».
وفي جلسة الاستماع بمجلس الشيوخ التي تمت في يناير (كانون الثاني) الماضي، واصل بلينكن طمأنته من خلال التعبير عن نيته إصلاح عيوب خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني. وفي الشهر التالي، ذكرت «فورين بوليسي» أن انقساماً حدث داخل الحكومة، حيث حقق سوليفان وبلينكن الآمال المعلقة عليهما. فعندما أيَّد مالي إعطاء «حوافز» لإيران لإقناعها بالعودة بسرعة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، سيطر سوليفان وبلينكن على النقاش، من خلال «اتباع نهج أكثر تشدداً».
وخلال الشهر الماضي، أصبح هذا المسار أكثر صعوبة -كما كان من الصعب رؤيته. ففي 2 أبريل (نيسان)، أجرى مالي مقابلة مع قناة «بي بي إس» أثارت الدهشة في القدس والرياض، وفي الكونغرس. وقبل المحادثات النووية في فيينا، حيث كان الأوروبيون على وشك استضافة مفاوضات غير مباشرة بين مسؤولي بايدن وممثلين إيرانيين حول إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، أعرب مالي عن حرصه على رفع العقوبات الأميركية عن إيران، وضمان «تمتع إيران بالمزايا التي كان من المفترض أن تحصل عليها وتتمتع بها بموجب الاتفاق». وحول المقابلة، قال مسؤول إسرائيلي كبير لم يذكر اسمه: «إذا كانت هذه هي السياسة الأميركية، فنحن قلقون».
هذا وقد تعجب عملاء المخابرات الإسرائيلية بسبب تلك العبارة عندما قاموا بتخريب مولد طاقة في منشأة التخصيب النووي الإيرانية في نطنز. وبينما أضرت العملية ببرنامج إيران النووي، أشارت أيضاً إلى معارضة إسرائيل للموقف الأميركي في محادثات فيينا.
إن الأصوات التحذيرية في القدس لها ما يبررها، حيث كان البيان الصادر في الأول من مايو (أيار) الحالي من عباس عراقجي، كبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا، بمثابة نقطة بداية. فقد ادعى أن المفاوضين الأميركيين وافقوا بالفعل من حيث المبدأ على إزالة العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الإيراني، وصناعة السيارات، والخدمات المالية، والصناعة المصرفية، والموانئ -من أجل إزالة، بعبارة أخرى، جميع العقوبات الاقتصادية الأكثر أهمية على الإطلاق التي فُرضت على إيران. إن التصريحات الأخيرة لمسؤولي إدارة بايدن لا تقدم لنا أي سبب لعدم تصديق عراقجي، والآن أصبح الرهان الذكي متمثلاً في إحياء كامل لخطة العمل الشاملة المشتركة في وقت قصير نسبياً.
لكن حتى الإسرائيليين لم يستوعبوا النطاق الكامل والحجم الكامل لتكيف بايدن مع إيران. والمشكلة لا تكمن في أن سوليفان وبلينكن يفشلان في كبح جماح مالي، بل في أنهما يسيران بخطى ثابتة معه. ويسود إجماع داخل الإدارة، ليس فقط على خطة العمل الشاملة المشتركة، ولكن على كل مسألة كبيرة تتعلق باستراتيجية الشرق الأوسط: يتفق الجميع، بداية من الرئيس إلى المسؤولين الأقل درجة، على ضرورة استكمال ما بدأه أوباما، مما يعني أن الأسوأ لم يأتِ بعد.
فإذا لم تكن السيطرة التي يمارسها مشروع أوباما على كل عقل في إدارة بايدن واضحة بالفعل، فذلك لأن الارتباك لا يزال يسود حول الطبيعة الحقيقية للمشروع. هل تشك في ذلك؟ إذن، أجرِ الاختبار القصير التالي المكون من سؤال واحد: إلى ماذا، على وجه التحديد، كان روبرت مالي يشير عندما تحدث عن «تجربة» أوباما نصف المكتملة؟
إذا أجبت بخطة العمل الشاملة المشتركة، فأنت على خطأ. وإذا قلت: تحسين العلاقات مع إيران، فإنك تحصل على درجات أعلى من ذلك بكثير، لكنك ما زلت لم تقدم الإجابة الصحيحة.
كتب مالي أن «الهدف النهائي» للرئيس كان «مساعدة الشرق الأوسط على إيجاد توازن أكثر استقراراً للقوى يجعله أقل اعتماداً على التدخل المباشر للولايات المتحدة أو طلب حمايتها»؛ هذه طريقة ملتوية للقول إن أوباما يحلم بنظام شرق أوسطي جديد، نظام يعتمد أكثر على الشراكة مع إيران.
وما زال الحلم مستمراً. ففي مايو 2020، بعد ستة أشهر من كتابة مالي مقاله في مجلة «فورين أفيرز»، كتب سوليفان، بصفته مستشاراً لحملة بايدن الرئاسية آنذاك، وشارك في كتابة مقاله الخاص الذي وضع استراتيجية للشرق الأوسط. ويتمثل الهدف الذي قام بشرحه في أن يكون «أقل طموحاً» من الناحية العسكرية «ولكن أكثر طموحاً في استخدام النفوذ والدبلوماسية الأميركية للضغط من أجل تخفيف التوترات. وفي نهاية المطاف، هي طريقة مؤقتة جديدة بين اللاعبين الإقليميين الرئيسيين». فإذا استبدلنا بكلمة «توازن» كلمة «تسوية مؤقتة»، وإذا أدركنا أن «خفض التصعيد» و«الدبلوماسية» يتطلبان تعاوناً مع إيران، فإن رؤية سوليفان مطابقة لـ«الهدف النهائي» لأوباما، كما وصفه مالي. وشدد سوليفان على هذا التكافؤ عندما عرف هدف خطته على أنه «تغيير دور الولايات المتحدة في نظام إقليمي ساعدت في إنشائه».
ويستحق هذا المشروع الخاص بإنشاء نظام شرق أوسطي جديد الذي يمتد الآن عبر إدارتين رئاسيتين أن نعطيه اسماً. إن «مبادرة أوباما - بايدن - مالي - بلينكن - سوليفان» خيالية مبهمة إلى حد كبير. وبدلاً من ذلك، نطلق عليها «تصحيح المسار». وهذا الأمر يجب أن يقع على عاتقنا، وفي هذا الوقت المتأخر؛ كما أن تسمية مشروع عمل يضم كثيراً من الموهوبين الذين يعملون بشكل أفضل على مدار عقد من الزمان يبدو أكثر من غريب بعض الشيء. فعادة ما يطلق الرؤساء مبادرات كبيرة، مثل هذه المبادرة مع منحها عنوان رئيسي، ويقومون بتجميل رؤيتهم بعشرات الخطب والمقابلات الأصغر. ويتم البحث عبثاً عن خطاب أوباما عن «نظام جديد في الشرق الأوسط».

روبرت مالي في فيينا الأسبوع الماضي

ويبدو واضحاً أن أوباما شعر أن مشروعه سيتقدم بشكل أفضل من خلال التخفي والتضليل، وليس من خلال براعة البيع العدائية. ويستخدم بايدن قواعد اللعبة نفسها، مع الحفاظ على فريق السياسة الخارجية لأوباما للولاية الثانية على حاله تقريباً. ويدرك هو ومساعدوه أن التشويش حول «الهدف النهائي» يجعل تحقيقه أسهل. وفي الواقع، يبدو أن التشويش هو أفضل صديق لتصحيح المسار.
إن فكرة كون الهدف «محسوب على التشويش» من شأنها أن تجعل منه ذكرى حزينة مناسبة لخطة العمل الشاملة المشتركة، إذا كان من المفترض خلط هذا الملف المميت. في 159 صفحة، تحتوي على خمسة ملاحق، مليئة بصفقات جانبية سرية، كانت هذه الخطة معبأة في ملف واحد يحتوي على أمور مشوِّشة من شأنها أن تبقي الجمهور الأميركي مرتبكاً على مدار السنوات الست الماضية. وعلى الرغم من أن خطة العمل المشتركة الشاملة ليست سوى عنصر واحد من مشروع أوباما الكبير، فإن دورها لا غنى عنه.
لنبدأ بما لم تقُم به خطة العمل الشاملة المشتركة. فعلى عكس ما ادعى واضعوها منذ عام 2015، فإن الخطة لم تمنع كل مسارات الوصول إلى سلاح نووي إيراني. كيف يمكن ذلك؟ إن ما يسمى «بنود انقضاء المدة» المنصوص عليها في الاتفاق -البنود التي تلغي جميع القيود ذات المعنى على برنامج إيران النووي- ستدخل جميعها حيز التنفيذ في أقل من عقد من الزمان. وستختفي بعض أهم القيود بحلول عام 2025. وبحلول عام 2031، سيكون لدى الجمهورية الإسلامية، في ظل حماية ومساعدة دولية، برنامج أسلحة نووية غير مقيد، يعتمد على قدرة على التخصيب النووي للاستخدام في الأغراض الصناعية. وعلى أساس هذه الحقيقة وحدها، أفضل ما يمكن للمرء أن يقوله عن الاتفاق هو أنه يشتري عقداً من التحرر من الابتزاز النووي الإيراني.
ولكن حتى هذا الادعاء المتواضع لم يصمد أمام إمعان النظر، إذ يسمح الاتفاق ببرنامج بحث وتطوير قوي، وعدم تدمير المنشآت (مثل المخبأ المحصن في الجبال في فوردو) التي هي بلا منازع جزء من برنامج نووي عسكري، وليس مدني. بمعنى آخر، تسعى إيران إلى تحقيق طموحاتها في الحصول على أسلحة نووية حتى خلال هذه الفترة من القيود المفترضة، وبرنامجها مستمر، كما يرى أي قارئ صحيفة، ليكون ذلك بمثابة أداة من أدوات الابتزاز.
إن إخفاقات الاتفاق صارخة لدرجة أن مسؤولي بايدن لا ينفون وجود المشكلة. وبدلاً من ذلك، يتظاهرون بوجود حل. إذن، ما خطتهم؟ «متابعة تنفيذ الاتفاق»! إنهم يزعمون أن خطة العمل الشاملة المشتركة هي المرحلة الأولى في عملية متعددة المراحل، مثل منتج وادي السيليكون الذي ينتظر الترقية.
وفي مقاله المنشور في «فورين أفيرز»، كان سوليفان أول من طرح فكرة «المتابعة». حينها، وعد بلينكن، خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ في يناير (كانون الثاني)، وفي أثناء انعقاد المؤتمر الصحافي في أول يوم له في المنصب، بالعمل من أجل «اتفاقية أطول وأقوى».
«الإطالة والقوة مع سوليفان وبلينكن!» سيكون شعاراً جذاباً إذا كان لدى الإصدار الثاني من خطة العمل الشاملة المشتركة فرصة على أرض الواقع. لكن إدارة بايدن تصر على أنها لن تثير فكرة اتفاقية أطول وأقوى حتى بعد الاستعادة الكاملة لخطة العمل الشاملة المشتركة الأولى. ومع ذلك، كما أشرنا، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة الأولى تلغي بسرعة جميع القيود المهمة المفروضة على برنامج إيران النووي -بشكل دائم، وبموافقة دولية. فمن خلال منح طهران كل ما تريده مسبقاً، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة الأولى تلغي خطة العمل الشاملة المشتركة الثانية.
ويدعي سوليفان وبلينكن أنهما أدركا العيوب البشعة لخطة العمل الشاملة المشتركة، حتى وهما يتعرقان ويكدحان لإحيائها من القبر حيث دفنها دونالد ترمب. وزاد الشعور بالراحة التي منحوها للعقول القلقة عندما، وفقاً لتقرير «فورين بوليسي» الصادر في فبراير (شباط) الماضي، خالفوا مالي، رافضين مطالبة إيران بأن ترفع الولايات المتحدة جميع العقوبات، في شرط مسبق للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. لقد كنا نعتقد أن الرجال من أصحاب الفهم هم أيضاً رجال حقيقيون.
ولكن هذا التقرير صرف الأنظار الساهرة عن القصة الحقيقية: المساومة بين واشنطن وطهران التي بدأت في اللحظة التي تولت فيها الإدارة السلطة. فحتى قبل بدء مفاوضات فيينا في أبريل (نيسان)، كانت الرسائل تشق طريقها من طهران إلى واشنطن، من خلال وسطاء توسطوا بأفكار حول كيفية تخفيف الولايات المتحدة للعقوبات من دون رفعها رسمياً.
ونتيجة لذلك، قام سوليفان وبلينكن بتسليم حزمة الحوافز إلى طهران -الكثير منها. ولإعطاء بعض الأمثلة فقط، نذكر ما يلي: أسقطت إدارة بايدن الاعتراضات الأميركية على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار تم منحها لإيران؛ ألغت سياسة الأمم المتحدة في عهد ترمب التي أطلقت ما يسمى الآلية الانتقامية -وهي خطوة لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران بسبب انتهاكها للاتفاق؛ أفرجت عن أموال النفط الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية والعراق وسلطنة عمان. وتنذر هذه الخطوات بنهاية وشيكة لنظام العقوبات، مما شجع الصينيين على شراء النفط الإيراني بمعدل أعلى بكثير من أي وقت مضى منذ عام 2017. وفي ظل هذه الخلفية، جاءت مقابلة مالي في 2 أبريل (نيسان) على قناة «بي بي إس» التي عبر فيها عن حرصه على رفع جميع العقوبات في أسرع وقت ممكن.
جاء حماس الإدارة لاستيعاب إيران إلى أقصى حد بمثابة صدمة لكثير من المراقبين، ومن بينهم السيناتور جيمس إينهوف من أوكلاهوما، العضو الجمهوري البارز في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، الذي أصدر بياناً يتهم الإدارة بخرق كلمتها. لقد وصف إينهوف والإسرائيليون وعدد لا يحصى من الآخرين خطاب بلينكن بالخاطئ، بصفته خطة فعلية لاستخدام النفوذ الذي بناه ترمب لـ«إصلاح» الاتفاق النووي.
ولكي نكون منصفين، ذكر بلينكن دائماً أن الإدارة تعتزم العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي هذا الإطار، لم يكذب هو ولا سوليفان ولا أي مسؤول إداري آخر، لكنهم شجعوا الناس بشكل استراتيجي على الاعتقاد أن الأشياء التي يعرفونها لم تكن -ولن تكون- أبداً صحيحة.
لقد ذهبت خداعاتهم إلى ما هو أبعد من الأسئلة النووية الضيقة. وعلى عكس مزاعم الإدارة الأميركية، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة تنهي جميع العقوبات الأكثر ضرراً على إيران -النووية وغير النووية على حد سواء. فبفضل أحد بنودها المبكرة، أنهت خطة العمل المشتركة الشاملة بالفعل حظراً دولياً على مبيعات الأسلحة التقليدية لإيران، مما أتاح لطهران سبلاً لتوسيع تعاونها الدفاعي مع روسيا والصين. ونظراً لأن «الحرس الثوري» سيزداد ثراءً من مبيعات النفط، فإن شراكاته الدولية ستزداد قوة أيضاً. وستتوسع شبكة الميليشيات المحيطة بإسرائيل وحلفاء أميركا العرب، وستصبح لدغتهم التي يتم إطلاقها بأسلحة دقيقة التوجيه أكثر سُمِّية. كما تتفاقم صعوبة احتواء مشروع إيران الإقليمي بسبب دعم الأصدقاء الأقوياء مثل روسيا والصين. إن هذا التحليل لا يمثل نظرية، ولكنه رأي مبني على الحس السليم.
إن عمليات الخداع المحيطة بخطة العمل الشاملة المشتركة لها هدف واضح: جعل الإدارة تبدو داعمة للاحتواء، بينما أنها -في الواقع- تنهيه. لكن لماذا يشعر المسؤولون مثل بلينكن وسوليفان بالارتياح تجاه مثل هذه الازدواجية؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال الدخول في عقلية تصحيح المسار. تقدم مقالات «فورين أفيرز» بالتأكيد طريقة واحدة للدخول، ولكن الطريق المباشر للفهم يتمثل بالفعل في الدخول من خلال عقل باراك أوباما، مؤلف السياسة التي ينهجها بلينكن وسوليفان.
سوليفان وبلينكن في البيت الأبيض مارس الماضي
سوليفان وبلينكن في البيت الأبيض مارس الماضي
لقد تبلورت عقلية تصحيح المسار بالكامل في 31 أغسطس (آب) 2013، وهو اليوم الذي أزال فيه أوباما خطه الأحمر بشأن استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية. وكان أوباما قد رسم الخط الأحمر للمرة الأولى للعمل العسكري الأميركي في صيف 2012، بعد تلقيه تقارير تشير إلى أن الديكتاتور السوري بشار الأسد كان إما يستخدم أو يستعد لاستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين. ورداً على ذلك، حث بعض مستشاري أوباما على زيادة الدعم للمتمردين الساعين للإطاحة بالأسد. وبدلاً من ذلك، رسم أوباما خطه الأحمر، آملاً في أن تتمكن موسكو وطهران من كبح جماح الأسد، وحينها لن يكون البيت الأبيض مضطراً إلى اتخاذ إجراء. لكن بعد عام واحد تقريباً، حطم الأسد آمال أوباما بهجوم بغاز السارين أسفر عن مقتل مئات المدنيين، ربما أكثر من ألف.
ومع ذلك، كان أوباما مصمماً -كما كان دائماً- على منع التدخل الأميركي في سوريا، والتمسك بمساعدة موسكو وطهران. وسأل نفسه: ماذا لو كانت الولايات المتحدة قادرة على العمل في شراكة أكبر مع روسيا وإيران لتحقيق الاستقرار ليس فقط في سوريا، ولكن أيضاً في بؤر التوتر الأخرى؟ وبعد كل شيء، كان هناك بالفعل ترتيب أميركي ضمني مع إيران في العراق، على أساس العداء المتبادل المفترض للمتطرفين السنة. ألا يمكن توسيع هذا النموذج ليشمل الشرق الأوسط بأكمله؟ يمكن للشراكة مع روسيا وإيران أن تعمل على استقرار هذه المنطقة المضطربة. ومع ذلك، فإن شن هجوم على سوريا سيعزل كلاً من موسكو وطهران، ويلحق الضرر بحلم أوباما في إقامة نظام إقليمي جديد.
وفي حين كان الجيش الأميركي يستعد لتنفيذ ضربة ضد نظام الأسد، بحث أوباما عن ذريعة لإلغائها. وقد وجد ذلك عندما تذكر فجأة واجبه الدستوري في السعي للحصول على إذن من الكونغرس للعمليات العسكرية. عرف أوباما أن الجمهوريين في الكونغرس سيرفضون الإذن بعمل عسكري، مما يجعلهم مسؤولين عن محو خطه الأحمر. برفض الجمهوريين لتنفيذ الضربة ضد نظام الأسد، أخبر بن رودس، أحد مساعديه عضو دائرته المقربة، بأنهم «سيضعون خنجراً في قلب المحافظين الجدد؛ سيرى الجميع أنه ليس لديهم أصوات».
لم يكن لدى أوباما أي مصلحة في إضعاف الوفاق الروسي - الإيراني. وبدلاً من ذلك، سعى إلى عرقلة «ارتباط القوى» (باستخدام المصطلحات السوفياتية) التي كان يعتقد أنها كانت تحاصره. وشملت هذه القوى، بالإضافة إلى مجموعات متنوعة في السياسة الداخلية الأميركية، حلفاء تقليديين في الشرق الأوسط، مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا -وجميعهم منزعجون، كل لأسبابه الخاصة، من القوة الصاعدة للوفاق الروسي - الإيراني.
ومن جانبه، فهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معضلة أوباما. وسرعان ما قدم ذريعة قبلها أوباما عن طيب خاطر. وتظاهر الاثنان معاً بتجريد الأسد من أسلحته الكيماوية. ونقول «تظاهر» لأن المبادرة الروسية - الأميركية المشتركة كانت واجهة بوتين التي تهدف إلى وضع وجه مشرف على انسحاب أوباما. وفي مقابل جائزة الامتناع الأميركي عن توجيه ضربة ضد سوريا، كان بوتين أكثر سعادة بتدمير بعض أسلحة الأسد الكيماوية.
لكن بعض من هذه الأسلحة فقط. لقد قامت منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية، والمجموعة التي نفذت السياسة الأميركية - الروسية المشتركة، بتدمير الأسلحة الكيماوية التي أعلنها الأسد رسمياً فقط. وبالطبع لم يصرح الأسد رسمياً بكل شيء، وهي حقيقة أصبحت غير قابلة للدحض في أبريل (نيسان) 2017، عندما شن الأسد هجوماً آخر بغاز السارين، قتل هذه المرة ما يقرب من 100 شخص.
لكن بالنسبة لأوباما، كان ردع الأسد دائماً مصدر قلق ثانوي. لقد حقق الآن ما رآه أكبر جائزة على الإطلاق؛ أي أنه فتح طريق لتسوية استراتيجية مع إيران، حليف روسيا في سوريا. وقد ذكر رودس لأحد المراسلين في نهاية رئاسة أوباما: «لو كانت الولايات المتحدة قد تدخلت بقوة أكبر في سوريا، لكانت هذه الظروف ألقت بظلالها، وسيطرت على مجريات الأمور في ولاية أوباما الثانية، وكان من المستحيل تحقيق خطة العمل الشاملة المشتركة».
ومع بقاء مثال سوريا ثابتاً في أذهاننا، أصبحنا أخيراً في وضع يسمح لنا بتحديد ماهية خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل حقيقي واقعي، وليس على نحو مشوش. كما يفهم من قبل واضعيه، فإن الاتفاق يشمل جانبين في وقت واحد: أولاً، هو وسيلة لسحب البرنامج النووي الإيراني من المسارات الرئيسية للعلاقات الأميركية - الإيرانية ووضعه جانباً، وبالتالي خلق مساحة سياسية ودبلوماسية لتفاعل أكبر بين واشنطن وطهران -وهو شرط أساسي لبناء النظام الإقليمي الجديد الذي يطمح إليه تصحيح المسار.
ثانياً، هو أداة لمحو خيار الاحتواء في السياسة الخارجية الأميركية. وقد فسر كثير من المحللين إلغاء العقوبات غير النووية من قبل خطة العمل الشاملة المشتركة على أنه نتاج مساومة غير ذات كفاءة. وقيل لنا مراراً إن المفاوضين الإيرانيين الماكرين خدعوا أوباما الساذج المسكين الذي لا يبدو أنه يدور برأسه حول مفهوم النفوذ في المفاوضات.
على العكس من ذلك، خدع أوباما الذكي المحللين بإخفاء خطة العمل الشاملة المشتركة على أنها اتفاقية لحظر انتشار الأسلحة النووية. وفي الواقع، كان الاتفاق هجوماً مباشراً على السياسة الخارجية الأميركية التقليدية. لقد كان -ولا يزال- حصان طروادة مصمماً لإعادة تشكيل مكانة أميركا ودورها في الشرق الأوسط. وتتمثل مهمة سوليفان وبلينكن في دفع حصان طروادة إلى الميدان المركزي للسياسة الخارجية الأميركية، من خلال التلويح بمؤهلاتهم السياسية «الوسطية» والتسويق لها على أنها وسيلة احتواء غير كاملة، ولكنها قيّمة.
يعتمد مبدأ تصحيح المسار على الافتراض الخاطئ بأن إيران هي قوة الوضع الراهن، قوة تشترك في عدد من المصالح الرئيسية مع الولايات المتحدة. ووفقاً لهذه العقيدة، يركز الأميركيون المحافظون وأنصار إسرائيل على آيديولوجية إيران -الغارقة في التعصب الأعمى تجاه غير المسلمين بشكل عام، التي تعلن عن تطلعاتها في الإبادة تجاه الدولة اليهودية بشكل خاص- ولكنها ليست مفيدة بصفتها دليلاً عملياً لسلوك طهران. هذا ما علمنا إياه السيد أوباما في مقابلة عام 2014، عندما ادعى أن قادة إيران «استراتيجيون»، وهم أناس عقلانيون «يستجيبون لمبادئ التكاليف والفوائد... والحوافز».
وفي مقابلة أخرى، ذكر أوباما أنه كان على حلفاء الولايات المتحدة أن يتعلموا «مشاركة الجوار» مع إيران. لقد كان عداؤهم يمنع واشنطن من الوصول إلى الأبعاد الأكثر براغماتية لطابع الحكومة الإيرانية. تتغذي إسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية على مخاوف وطموحات ضخمة تجذبهم إلى حروب الظل مع إيران. وبسبب الولاء المفرط لحلفائها، سمحت أميركا لنفسها بالانجرار إلى دعم حروبهم، مما أدى إلى توتر العلاقات الأميركية - الإيرانية من دون داعٍ، بينما أدى ذلك في الوقت نفسه إلى تفاقم الصراعات المحلية.
وفقاً لنظرية تصحيح المسار، ستساعد أميركا حلفاءها في حماية أراضيهم السيادية من الهجمات الإيرانية أو المدعومة من إيران، ولكن لن تتنافس مع إيران خارج حدودها. وفي المناطق المتنازع عليها في سوريا واليمن والعراق، ستجبر الولايات المتحدة الآخرين على احترام «الحصص» الإيرانية، وهو مصطلح كان أوباما ذات مرة يستخدمه لوصف مواقع القوة الإيرانية. وبالتالي، ومن الناحية العملية، ستستخدم أميركا نفوذها لإعلاء مصالح إيران على مصالح حلفاء الولايات المتحدة في المناطق الرئيسية من الشرق الأوسط.
وفي الداخل، بدت هذه السياسة مثيرة للجدل، على أقل تقدير، كما تتطلب تطوير تكتيكات لتمويه الميل نحو طهران. ويعد تقديم خطة العمل المشتركة الشاملة على أنها اتفاقية ضيقة للحد من الأسلحة من أهم هذه التكتيكات، لكن هناك تكتيكين آخرين جديرين بالملاحظة بشكل خاص.
الأول هو عناق الدب: وهو عبارة عن ضغط يمكن تقديمه للعالم الخارجي بصفته بادرة حب، لكنه يشل حركة متلقيه. أتقنت إدارة أوباما التحرك تجاه إسرائيل خلال مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة. وتباهى المسؤولون الأميركيون بشكل روتيني بأنهم رفعوا العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى آفاق جديدة باهرة. وكي نكون منصفين، فإن هذا الادعاء ليس عارياً تماماً عن الصحة، وذلك بفضل المشاريع المشتركة، مثل نظام الدفاع الصاروخي المسمى (القبة الحديدية) الذي يسمح لإسرائيل بحماية أراضيها من الهجمات الصاروخية التي ترعاها إيران. ولكن إذا كانت القبة الحديدية هي المظهر المحب على ما يبدو لعناق الدب، فإن الجزء الذي يعيق الحركة كان تثبيطاً قوياً للعمليات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية ضد برنامج إيران النووي وشبكتها العسكرية الإقليمية. لقد جعل أوباما كليهما يبدوان أقل أهمية من خلال الإشارة باستمرار إلى القبة الحديدية التي أصبحت أداة أميركية لإجبار إسرائيل على اتخاذ موقف أكثر سلبية في مواجهة قوة إيران المتزايدة وعدوانها المستمر.
عناق الدب هو أيضاً أداة لإلقاء الضوء على النقاد الذين يزعمون بدقة أن تصحيح المسار يمثل شجاعة سياسة الاحتواء. فالتوفير المستمر للمساعدات الأمنية الأميركية للحلفاء يسمح للإدارة بأن تدعي بشكل معقول أن الاحتواء ما زال قائماً وبصحة جيدة، وأن الولايات المتحدة بالفعل «تقاوم» أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، وأنها بعيدة عن التخلص من حلفائها القدامى، وأنها ملتزمة بسلامتهم.
ويتمثل التكتيك الثاني في خدعة القيم. فعندما تميل واشنطن نحو إيران، فإنها تخفي دوافعها الحقيقية بتصريحاتها حول النزعة الإنسانية السامية -فتتوقف عن أن تكون قوة عظمى. وبدلاً من ذلك، أصبحت ممرضة بين الدول، مستنكرة المعاناة الإنسانية، مرددة عبارات مثل: «لا يوجد حل عسكري لهذا الصراع». تحث خدعة القيم الحلفاء، وبشكل علني، على عدم التراجع أمام إيران، ولكن الانخراط في «النقاط الثلاث»: الدبلوماسية والحوار ووقف التصعيد. هذا الثلاثي الذي نشره أوباما للمرة الأولى في سوريا يتراجع الآن بشكل روتيني عن التعبير عنه على ألسنة مسؤولي بايدن الذين سايروا الخطة المقدمة في مقال سوليفان في «فورين أفيرز»، إذ إنهم منشغلون في تشجيع حلفاء أميركا على الجلوس والتفاوض مع الإيرانيين.
جانب من مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي في فيينا
جانب من مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي في فيينا
وقد قال حسن نصر الله مطلع الشهر الحالي: «نحن ندعم أي حوار إيراني مع قوى دولية أو إقليمية أو عربية، ونعده مفيداً في تهدئة التوتر في المنطقة». إن زعيم «حزب الله» اللبناني، أكثر الميليشيات المدعومة من إيران فتكاً في العالم العربي، يوافق بشدة على خطة سوليفان. ولمَ لا يقوم بذلك؟ فالدبلوماسية والحوار ووقف التصعيد تحول إيران ووكلاءها إلى شركاء أميركا في شكل «دبلوماسية السلام»، ويحولون أولئك الذين يسعون لاحتوائهم إلى أعداء للسلام متعطشين للدماء.
الآن، وبعد أن أصبح بإمكاننا رؤية ما وراء الحيل اللطيفة التي تخفي الأهداف الحقيقية لتصحيح المسار، يمكننا تحديد ضروراتها الاستراتيجية الأربع بلغة بسيطة سهلة: أولاً، السماح لطهران ببرنامج أسلحة نووية غير مقيد بحلول عام 2031. ثانياً، إنهاء العقوبات المفروضة على النظام الاقتصادي والمالي الإيراني. ثالثاً، تنفيذ سياسة استيعاب إيران ومخالبها في العراق وسوريا واليمن ولبنان. رابعاً، فرض تلك السياسة على أقرب حلفاء أميركا. وإذا اتبعت الولايات المتحدة هذه الوصايا، فسيحدث نوع من التوازن الإقليمي الطبيعي. إن الولايات المتحدة، كما يذهب التفكير، ستخرج نفسها أخيراً من قاعدة الحرب التي فرضها عليها الحلفاء التقليديون، بأجندتهم المعادية لإيران. وبعد ذلك، سيكون التواصل الدبلوماسي مع إيران هو الأداة الأساسية اللازمة للحفاظ على الاستقرار الإقليمي (إذا كنت تشك في هذا الأمر، فامنح مقالات مالي وسوليفان في «فورين أفيرز» قراءة أكثر تعمقاً).
يستند تصحيح المسار، بعبارة ملطفة، إلى نظرية جوفاء. إنه يخطئ في ذكر طبيعة الجمهورية الإسلامية ونطاق طموحاتها. فالنظام الذي قاد هتافات «الموت لأميركا» على مدى الأربعين سنة الماضية هو نظام رجعي عنيد، إذ ترى الجمهورية الإسلامية نفسها قوة عالمية زعيمة للعالم الإسلامي، وتطمع في الهيمنة على الخليج الفارسي -والشرق الأوسط بأكمله في الواقع. لكن الأداة الوحيدة التي امتلكتها لتحقيق أهدافها هي التخريب الإقليمي.
إن آية الله خامنئي، رئيس هذا المشروع الضخم، هو سيد الفوضى. وبعد النفط، يُعد عنصر التصدير الرئيسي للجمهورية الإسلامية هو الميليشيا الإرهابية التي يقودها «الحرس الثوري» الإيراني -وهي الصادرات الوحيدة التي تنتجها إيران باستمرار على مستوى منقطع النظير. لقد أخطأ مالي وسوليفان تماماً عندما جادلوا، في الواقع، بقولهم إن الحلفاء يغرقون الولايات المتحدة في صراع مع إيران. ليس الحلفاء، بل الجمهورية الإسلامية هي التي تملأ العالم العربي بالميليشيات الإرهابية، وتسلحها بأسلحة دقيقة التوجيه، وتصف التحالف الذي تقوده بـ«محور المقاومة». إنها تفعل ذلك لسبب واحد بسيط: إنها تسعى في الخارج إلى تدمير النظام الأميركي في الشرق الأوسط.
فشبكة الميليشيات الإيرانية والبرنامج النووي جعلاها قوية بما يكفي لتكون عاملاً رئيسياً في كل ركن مضطرب في الشرق الأوسط، ولكن ليس بالقوة الكافية لبناء نظام بديل. وهنا يكمن تناقض غريب في مشروع خامنئي. ولا يمكن لإيران في الواقع الاحتفاظ بالمناطق المتنازع عليها أو استقرارها من دون موقف أميركي مفيد.
هذا التناقض نفسه يربك تصحيح المسار الذي يعتقد واضعوه أن الشراكة مع إيران هي تذكرة عبور لإنهاء التدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. لكن تجارب كل من العراق وسوريا أثبتت مغالطة هذه الرؤية. ففي عهد أوباما، عندما سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق، زاد نفوذ إيران بشكل كبير. وما الذي حدث؟ انتشرت الميليشيات المدعومة من إيران مثل الأعشاب عبر الأرض، وخلقت الفوضى التي أعقبت ذلك الفراغ الذي ملأه تنظيم داعش، مما أجبر أوباما على إعادة التدخل عسكرياً -ولكن الآن مع الخدمة العسكرية الأميركية، في الواقع، بصفتها قوة جوية لميليشيات إيران. لم ينهِ أوباما التدخلات العسكرية، لقد بدّل جوانبها وجهاتها.
لقد حدثت عملية مماثلة في سوريا. فمن أجل إنقاذ نظام الأسد، لم تكن إيران بحاجة فقط إلى تدخل الجيش الروسي لتعزيز موقفها ضد قوات المعارضة السورية، ولكن إلى مساعدة الولايات المتحدة. لقد أبقى أوباما كلاً من تركيا وإسرائيل في مأزق، بينما قتل الروس والإيرانيون والميليشيات الإيرانية أكثر من 500 ألف شخص، وهجَّروا 10 ملايين آخرين من منازلهم.
لقد اختبر أوباما وموظفوه -الذين هم الآن موظفو بايدن- بالفعل إمكانات تصحيح المسار. لقد جلبت المعاناة والموت فقط، ناهيك من الضعف العام للموقف الأميركي.
وتفسر السياسة الداخلية جزئياً الاعتقاد الذي تمارسه هذه النظرية الفارغة على العقول اللامعة. كان تصحيح المسار هو المبادرة المميزة لباراك أوباما الذي بقي إما الرجل الأقوى في السياسات الديمقراطية أو في المرتبة الثانية. وبفوزه بالرئاسة، يصبح بايدن زعيم الحزب اليوم، لكنه مدين بكثير من شعبيته الشخصية، بالإضافة إلى الفوز نفسه، لرئيسه السابق.
ينص المخطط التنظيمي لوزارة الخارجية على أن مالي مسؤول عن رفع التقارير إلى وزير الخارجية. ما لا يكشفه المخطط التنظيمي هو أن مالي، بصفته حارس شعلة أوباما في إيران، يقدم تقاريره إلى بلينكن عبر أوباما في الحقيقة. أما سوليفان، فيرفع تقاريره إلى بايدن مباشرة، لكن قدرته على الخروج عن أجندة أوباما محدودة بحقيقة بسيطة من حقائق الحياة. فكما لاحظ سوليفان نفسه في مقابلة أجراها في ديسمبر (كانون الأول): «لقد وصلنا إلى نقطة تكون فيها السياسة الخارجية هي السياسة الداخلية، والسياسة الداخلية هي السياسة الخارجية».
فاز بايدن في المجمع الانتخابي بـ45 ألف صوت فقط، موزعة على ثلاث ولايات بهامش ضئيل للغاية. ولا يزال بحاجة ماسة إلى دعم أوباما الذي يستطيع وحده أن يربط الحزب الديمقراطي بجناحه التقدمي وجناح كلينتون. وعلاوة على ذلك، إذا كانت القوة هي القدرة على إقناع الشخص بأن نجاحه في المستقبل يتطلب إبقاءه سعيداً في الوقت الحاضر، فإن لدى أوباما كثيراً من السلطة المباشرة على سوليفان. إذا كان سوليفان يطمح إلى العمل وزيراً للخارجية أو وزيراً للدفاع يوماً ما، فهو يعلم أن أوباما سيظل وسيطاً قوياً في السياسة الديمقراطية لفترة طويلة بعد مغادرة بايدن المشهد السياسي.
إن الثقل السياسي لتصحيح المسار لا ينبع فقط من الدعم الشخصي لأوباما، ولكن أيضاً من دعم التقدميين. فهو يوازن بين سياسة احتواء إيران وطريق يقود إلى حرب لا نهاية لها، ويحول سياسة تكييف إيران إلى طريق السلام. إنه يختزل تعقيدات الشرق الأوسط إلى حكاية أخلاقية مانوية تضع التقدميين في مواجهة أعدائهم الأسطوريين من المسيحيين الإنجيليين و«المحافظين الجدد» والصهاينة. ويصور تصحيح المسار هؤلاء الأعداء على أنهم متآمرون مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويخططون لإبقاء أميركا غارقة في الشرق الأوسط.
إن الدور الذي يلقيه «تصحيح المسار» لإسرائيل يخضع لتدقيق شديد. فقد دعا سوليفان، في مقاله المنشور في «فورين أفيرز»، إلى منع حلفاء الولايات المتحدة من جعل السياسة الأميركية «رهينة المطالب الإقليمية المتطرفة» فيما يتعلق بخطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، امتنع سوليفان عن ذكر إسرائيل، الدولة الأكثر صخباً وفاعلية في تقديم مثل هذه المطالب. هذا الإغفال، بالطبع، ليس من قبيل الصدفة.
ويجب أن نقول إن التقدمية المعاصرة أقل حماسة للصهيونية. ويتمثل أحد أهدافها العزيزة في تقليص الدعم الأميركي لإسرائيل، ويساعدها تصحيح المسار على تحقيق هذا الطموح -لكنها تفعل ذلك بشكل خبيث. فهي تمتنع عن جعل معادتها للصهيونية صريحة خوفاً من إثارة معارضة المشروع بين الأميركيين المؤيدين لإسرائيل إلى حد كبير. ولكن من خلال تطوير العلاقات مع إيران، فإن تصحيح المسار بحكم الضرورة يقلل من مكانة الدولة اليهودية.
وستعتمد كيفية رد إسرائيل على هذا التقليص من مكانتها على كيفية حل أزمتها الداخلية الطويلة التي ميزتها أربعة انتخابات في غضون عامين. ومن المؤكد أن كارهي نتنياهو في إدارة بايدن سيسعدون إذا أطيح به من السلطة، وخلفه شخص لديه خبرة أقل في السياسة الخارجية مثل يائير لبيد. يعتقد البيت الأبيض أن إسرائيل ما بعد نتنياهو ستعمل على تلبية مطالبها الرئيسية. ومع ذلك، إذا ظل نتنياهو في السلطة (أو إذا خلفه شخص لديه التصرف نفسه تجاه إيران)، فلن يقبل الإسرائيليون بسهولة الدور المتناقص الذي كلفهم به تصحيح المسار.
وفي حين يتحرك بايدن بسرعة لوضع نتنياهو (أو خليفة له التفكير نفسه) في عناق الدب، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي ينحني ويلوي ويهز، وأحياناً يلقي مرفقاً حاداً ويركل بساقه. وسينفي كل من بايدن ونتنياهو، كل بحسب أسبابه المحلية، عمق الصراع. فالابتسامات العريضة، وأمارات الصداقة، وكثير من حركات الأقدام المذهلة (كلها تم إنتاجها لصالح الكاميرات) ستحول مباراة المصارعة هذه إلى رقصة تانغو ملتوية.
وستنتقل رقصتهما عبر خمس نقاط ساخنة -وهي التوترات الخمس التي لا يمكن حلها بين القدس وواشنطن التي يخلقها «تصحيح المسار». النقطة الأولى تتمثل بالطبع في خطة العمل الشاملة المشتركة، فالإسرائيليون من جانبهم سيحاولون منع الخلاف من تعكير جو التعاون بشكل عام، لكنهم لن يمتنعوا عن كشف عيوب الاتفاق للعالم، خاصة للكونغرس. ومن ثم، تنفث خطة العمل المشتركة الشاملة جواً من عدم الثقة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية سيزداد قوة مع استمرار إسرائيل في القيام بأعمال سرية داخل إيران، وسيكون رد فريق بايدن -كما رأينا بالفعل- هو الحث على ضبط النفس، وبالتالي توليد نقطة الاشتعال الثانية.
وقد كان الهدف الأساسي للعمليات الإسرائيلية السرية تاريخياً تخريب برنامج إيران النووي، ولكن في الآونة الأخيرة عملت أيضاً بصفتها وسيلة للإعلان عن عيوب خطة العمل الشاملة المشتركة، وفضح الغش الإيراني. وتعمل الحملة الإسرائيلية السرية الآن أيضاً بصفتها دعاية، إذ تُظهر معارضة تصحيح المسار الخاص ببايدن. وقد تزامن التخريب الأخير لمحطة الطاقة النووية في نطنز، وهو مثال على ذلك، ليس فقط مع المفاوضات في فيينا حول خطة العمل الشاملة المشتركة، ولكن أيضاً مع زيارة وزير الدفاع لويد أوستن إلى القدس. لقد أحرجت العملية واشنطن، لا سيما من خلال دحض ادعائها أن الطريقة الوحيدة لمنع الحرب هي إضفاء الشرعية على برنامج إيران النووي. وإذا كان بإمكان إسرائيل الضئيلة تخريب أكثر منشآت إيران أماناً من تلقاء نفسها من دون إشعال فتيل حرب، فما الذي يمكن أن تنجزه أكثر بمساعدة نشطة من الولايات المتحدة؟
من جانبها، ردت إدارة بايدن على الإحراج بإصدار توبيخ خاص لإسرائيل، فيما دعت إلى مزيد من التنسيق وسياسة «اللا مفاجآت» المتفق عليها. وهناك ديناميكية مماثلة تظهر على نقطة الاشتعال الثالثة -أي الاشتباك بين واشنطن والقدس بشأن الهجمات الإسرائيلية على أهداف عسكرية إيرانية في سوريا وأماكن أخرى في المنطقة. وقد أسس اجتماع عُقد في أبريل (نيسان) بين سوليفان ونظيره الإسرائيلي مئير بن شبات «مجموعة عمل مشتركة بين الوكالات» للتركيز على تهديد الصواريخ الإيرانية دقيقة التوجيه التي توفرها طهران لحلفائها الإقليميين. وسيصور البيت الأبيض مجموعة العمل على أنها جهد موحد لـ«صد» إيران، لكنها في الواقع أداة لمراقبة إسرائيل وتقييدها.
ومع تصاعد الضغط من واشنطن لدعم الدبلوماسية والحوار ووقف التصعيد، ستبحث إسرائيل عن شركاء يمكنهم مساعدتها، سواء في احتواء إيران أو في إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن تصحيح المسار. وهناك عوائق كثيرة للتنسيق الفعال بين الرياض والقدس، ولكن السعوديين يظلون المرشح الأكثر ترجيحاً، حيث لا تزال هناك فرصة في فرض الظروف المشتركة تنسيقاً أوثق بين الطرفين. لكن فريق بايدن سيرصد العلاقات بين الرياض والقدس، ويقوم بالحظر عند الضرورة -وبالتالي خلق نقطة الاشتعال الرابعة.
ومرة أخرى، كانت إدارة أوباما هي التي صاغت النموذج لمثل هذا الحظر. ففي عام 2012، عندما تزايدت مخاوف واشنطن من احتمال قيام إسرائيل بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، قام أربعة دبلوماسيين أميركيين ومسؤولون في المخابرات العسكرية بإطلاع مجلة «فورين بوليسي» بشأن التعاون المزعوم بين أذربيجان وإسرائيل استعداداً للهجوم. وقال مسؤول مجهول الهوية: «لقد اشترى الإسرائيليون مطاراً، والمطار يسمى أذربيجان». ونفى المسؤولون في باكو بشكل قاطع هذا التقرير الذي كان من المحتمل أن يكون مزيفاً. لكن الهدف كان ترهيب إسرائيل وأي من شركائها المحتملين المناهضين لإيران، وليس نشر معلومات صادقة.
أما النقطة الساخنة الأخيرة، فستكون القضية الفلسطينية. فمع تصاعد التوترات مع إسرائيل بشأن إيران، ستنفذ الإدارة خدعها القيمية، منتقدة إسرائيل لاختيارها طريق «الحرب». ولكن الأمر سيتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث سيلقي فريق بايدن أقسى توبيخ علني. إن هذه القضية تساعد في تمويه الغضب الأميركي بشأن سياسة إسرائيل المستقلة تجاه إيران، وتقديمها بدلاً من ذلك على أنها صراع صالح على «القيم».
ولم تضيع الإدارة وقتاً في إحياء صراع القيم هذا. ففي 7 أبريل (نيسان)، استأنف بلينكن التمويل الأميركي للقيادة الفلسطينية الذي قطعته إدارة ترمب، بما في ذلك تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين المثير للجدل، قائلاً إنه «يتوافق مع قيم ومصالح حلفائنا» (على النحو المحدد فقط من قبل إدارة بايدن، وأهمل أن يضيف المزيد). وسرعان ما أوضح غلعاد إردان، سفير إسرائيل في الولايات المتحدة والأمم المتحدة، أن «إسرائيل تعارض بشدة النشاط المعادي لإسرائيل والمعادي للسامية الذي يحدث في منشآت الأونروا».
إن رفع القضية الفلسطينية إلى قمة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية سيقلل بشكل أكبر من فرصة حدوث انفراج ثنائي سعودي - إسرائيلي. وأي جهود لدفع الاتفاقات الإبراهيمية، أو لإحباط سياسة البيت الأبيض تجاه إيران، ستُقابَل بتوبيخ بأن إسرائيل تحاول الانتقاص من العدالة للفلسطينيين. وقد يكون إطلاق جولة أخرى من المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية أحد الطرق لفريق بايدن لإضفاء المعقولية على هذا الادعاء. ومع ذلك، ونظراً لفشل الجولات السابقة، قد يختار بايدن بدلاً من ذلك بدء محادثات مع الإسرائيليين والفلسطينيين حول كيفية الحفاظ على حل الدولتين في غياب عملية سلام. وحيال إجراء أي محادثات من هذا القبيل، فإن مطالبة إسرائيل باتخاذ إجراءات مستحيلة ستتدفق بقوة، مما يسمح لواشنطن بأن تتظاهر بأنها نصيرة الحقوق الفلسطينية ضد الإسرائيليين المتمردين.
عناصر ميليشيا تابعة لإيران في العراق
عناصر ميليشيا تابعة لإيران في العراق
ومع تمهيد المسرح على هذا النحو، فإن غرفة صدى الأصوات «المستقلة» في وسائل الإعلام ستوجه لوماً شديداً لإسرائيل، سيكون فريق بايدن قد كتبه، لكنه سيفضل عدم تقديمه بشكل مباشر. ففي جريدة «نيويورك تايمز»، في 27 أبريل (نيسان)، كتب مدير وكالة المخابرات المركزية لأوباما، جون برينان، أنه «يجب على الولايات المتحدة أن تطلب من القادة الإسرائيليين التوقف عن بناء المستوطنات الاستفزازية و... الممارسات الأمنية القمعية». وكان هذا تحذيراً مبكراً. ومع تصاعد حدة التوترات بين القدس وواشنطن، ستصف أصوات أعلى من صوت برينان الإسرائيليين بأنهم دعاة حرب فاسدون قساة، لا يخربون فقط دبلوماسية السلام، ولكن أيضاً التراث الأميركي.
وبالنسبة للمجتمع المؤيد لإسرائيل، يمثل تصحيح المسار تحدياً فكرياً وسياسياً. فمن الناحية الفكرية، يفرض إعادة التفكير فيما يشكل سياسة مؤيدة لإسرائيل. ومن الناحية التقليدية، يجتاز الموقف هذا الاختبار الحقيقي إذا كان يدعم العلاقات الثنائية القوية، بما في ذلك توفير المساعدة العسكرية الأميركية. ولكن مؤيدي تصحيح المسار، من خلال ضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، وحقها في الدفاع عن نفسها، والتأكيد لفظياً على القوة الدائمة للروابط الأميركية - الإسرائيلية، يجتازون بسهولة هذا الاختبار، حتى مع تمكينهم لإيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتزويدها بطريق الوصول إلى سلاح نووي. ولإعطاء مصطلح «مؤيد لإسرائيل» تعريفاً يلبي التحدي الحالي، ويتطلب الدعوة إلى احتواء إيران، وليس فقط الدفاع عن إسرائيل، ومن أجل استراتيجية سلام تركز على المملكة العربية السعودية.
وبالنسبة للديمقراطيين اليهود على وجه الخصوص، يفرض هذا التعريف تحدياً سياسياً شديداً. سيهاجم التقدميون ووكلاء بايدن هذا التعريف لمصطلح «مؤيد لإسرائيل» على أنه النسخة «الترمبية» التي تعني بالنسبة لهم التنصل من القيم الأميركية، واختيار الحرب على الدبلوماسية، وتبييض «الجرائم» السعودية، ومساعدة المستوطنين الإسرائيليين على «استعمار» الأراضي الفلسطينية.
ولن يتردد بعض مؤيدي الإدارة في اتهام اليهود بإرسال رجال ونساء أميركيين بالزي العسكري للموت من أجل إسرائيل. وفي عام 2018، عندما قام الموساد بتحريك الأرشيف النووي من طهران، غرد كولين كال، الأستاذ في جامعة ستانفورد مستشار الأمن القومي السابق لبايدن، بأن العملية الإسرائيلية «بالتأكيد لها أجواء مخيفة في العراق قبل عام 2003». وبعبارة أخرى، كانت عملية المخابرات الإسرائيلية، وهي إنجاز هوليوودي، مؤامرة يهودية لجر أميركا إلى حرب لصالح إسرائيل. كال الآن هو وكيل جو بايدن للدفاع عن السياسة، وثالث أقوى شخص في البنتاغون. وخلال عملية التصديق في مجلس الشيوخ، دافع أنصار كال عنه ضد الاتهام بأنه يحمل تحيزاً ضد إسرائيل، من خلال الإشارة إلى أنه، في عهد أوباما، ساعد في دفع التعاون الأميركي - الإسرائيلي حول القبة الحديدية!
وبينما يناقش المجتمع المؤيد لإسرائيل ما يشكل سياسة معقولة، يستعد الجناحان الأيمن والأيسر للقتال، دخول لسوليفان وبلينكن، ويتنقلان بين الفصائل المتشاحنة رافعين أذرعهما في مناشدة للتهدئة. ويمتلك الثنائي بالضبط ما يلزم لتشكيل طريق ثالث بين «الحد الأقصى للضغط» الذي يمارسه ترمب وإعادة تنظيم أوباما -طريقة كلينتونية من شأنها أن تربع الدائرة، وتشبك الإبرة، وتمكِّن من ركوب حصانين في وقت واحد. يقولون لهم: لا تتشاجروا بعضكم مع بعض، ولا تقسموا مجتمعكم. كن مطمئناً، نحن نساندك، وليست لدينا أوهام بشأن إيران، وإن التزامنا بأمن إسرائيل يظل ثابتاً.
ألن يكون من الجيد تصديق ذلك كله؟ لسوء الحظ، هذه الطريقة الثالثة هي عبارة عن أسطورة -وأسطورة خطيرة في هذا الإطار. إنه شراء للوقت وحسن النية لإدارة لا تستحق أياً منهما، وهي تسابق لإنهاء ما بدأه أوباما.
تصحيح المسار أمر ذكي بما يكفي ليكون غبياً على نطاق واسع. عندما يشير مالي إلى رئاسة أوباما على أنها تجربة نصف مكتملة، فإنه يعني، بشكل أكثر تحديداً، أن الولايات المتحدة فشلت في إجبار حلفائها في الشرق الأوسط على التكيف مع إيران. وفي مقاله بـ«فورين أفيرز»، أوضح أن واشنطن يجب أن تتوقف عن «منح شركائها تفويضاً مطلقاً»، و«تمكين أعمالهم الأكثر عدوانية» الموجهة ضد إيران ووكلائها. ويشرح مالي أن الحليف الذي يحتاج إلى إلغاء الشيك المفتوح هو المملكة العربية السعودية، والساحة التي يجب البدء بها هي اليمن. لقد كتب صراحة أنه يجب على واشنطن الضغط على الرياض من أجل «إنهاء الصراع».
وفي مقاله بـ«فورين أفيرز»، أخذ سوليفان هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك، ووضع خطة للضغط على الرياض لإنهاء الحرب في اليمن، وأوضح أنه يجب على الولايات المتحدة أن تخبر السعوديين بعبارات لا لبس فيها أن الفشل في إنهاء التدخل سيعرض الضمان الأمني الأميركي للمملكة العربية السعودية للخطر. وفقاً لسوليفان، يجب على واشنطن «الإصرار على بذل جهود دبلوماسية سعودية جادة حسنة النية لإنهاء حرب اليمن، وخفض التصعيد مع إيران، في جزء من الشروط التي تحتفظ بموجبها بمجموعة مكملة للقوات الأميركية المنتشرة في المملكة العربية السعودية». وللحفاظ على هذه «التهدئة»، يجب على الولايات المتحدة الضغط على الرياض للدخول في «حوار» مع طهران.
من الواضح أن خطة إعطاء السعودية عناق الدب لتكسير الأضلاع كانت قائمة قبل انتخاب بايدن بفترة طويلة. فبمجرد أن تولى الفريق الجديد منصبه، لم يضِع الوقت في الضغط. وفي 27 يناير (كانون الثاني)، أعلنت الإدارة تجميد مبيعات الأسلحة. وفي 4 فبراير (شباط)، أعلنت إنهاء دعم العمليات «الهجومية» في اليمن. وفي 5 فبراير (شباط)، أعربت عن نيتها إزالة الحوثيين، وكيل إيران في اليمن، من قائمة الإرهاب؛ وفي 16 فبراير (شباط)، أوفت بوعدها.
إذا أخذنا ورقة من كتاب لعب أوباما في سوريا، فقد اعترفت إدارة بايدن باليمن على أنه مجال مصلحة إيراني بحكم الأمر الواقع. ومع ذلك، فإن شعار حركة الحوثيين «الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام» لم يتم التصويت عليه بشكل جيد بين غالبية الناخبين الأميركيين. ولإخفاء حقيقة أن سياساتها تمكن الحوثيين والإيرانيين، استخدمت إدارة بايدن خدعة القيم.
وعن الهدف من قرار رفع التصنيف الإرهابي عن الحوثيين، شرح بلينكن أنه للتخفيف من «الوضع الإنساني المزري في اليمن»، وقال إن الإدارة توصلت إلى القرار لأنها استمعت إلى الأمم المتحدة والجماعات الإنسانية وأعضاء الكونغرس من الحزبين، وجميعهم حذروا من أن تصنيف الحوثيين إرهابيين «يمكن أن يكون له تأثير مدمر على وصول اليمنيين إلى السلع الأساسية، مثل الطعام والوقود».
إن خدعة القيم في اليمن تمت على نطاق واسع، إذ لا تحتفل أميركا بنفسها فقط باعتبارها ممرضة، بل تصور السعودية بصفتها وحشاً شريراً. ففي 26 فبراير (شباط)، أصدرت إدارة بايدن تقريراً استخباراتياً رفعت عنه السرية عن مقتل جمال خاشقجي. وجاء التقرير الذي زعم «موافقة» ولي العهد على الاغتيال رداً على أي تطورات جديدة؛ لقد جلبت الإدارة الملف الذي يبلغ من العمر عامين فقط من أجل استخدامه فزَّاعة في سلسلة القيم.
ومن جانبه، فإن ولي العهد لم يكن لديه أدنى شك بشأن السبب الحقيقي لهذه القذيفة. وقد قال في مقابلة تلفزيونية كبيرة في نهاية أبريل (نيسان): «نسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع إيران... نحن نهدف إلى رؤية إيران مزدهرة. نحن نعمل مع شركائنا في المنطقة للتغلب على خلافاتنا مع إيران».
ولكن في 7 مارس (آذار)، بعد أسبوعين من صدور تقرير خاشقجي، صمتت قيم الإدارة الأميركية بشكل واضح. ففي ذلك اليوم، احتج عشرات المهاجرين الإثيوبيين في مركز احتجاز في صنعاء باليمن على ظروفهم المعيشية التي لا تطاق، وحاصر حراسهم الحوثيون المتظاهرين في عنبر، وطلبوا منهم أداء «صلواتهم الأخيرة»، وألقوا قنابل يدوية على المبنى. وذكر أحد الناجين أنه «تم تحميص الناس أحياء... كان عليّ أن أخطو على جثثهم للهروب». لم يُسمع في واشنطن أي صوت عن هذا الهجوم، ناهيك من الحملة العسكرية للحوثيين في اليمن التي تضاعفت بفضل الضوء الأخضر لأميركا.
ومن خلال مكافأة العدوان الإيراني، لا تجلب الإنسانية المزيفة لتصحيح المسار إلا قدراً أكبر من المعاناة للأشخاص الذين تتظاهر بأنها تخفف من معاناتهم. وتضمن السياسة المقدسة ببساطة أن تتمتع إيران بقاعدة عربية دائمة لشن ضربات ضد أهم حليف عربي لأميركا، المملكة العربية السعودية.
إن الميل نحو إيران في اليمن له أيضاً تداعيات شريرة على التنافس بين أميركا وأكبر منافس لها في العالم اليوم. لقد وقعت الصين وإيران مؤخراً «شراكة استراتيجية» لمدة 25 عاماً تنقل مئات الملايين من الدولارات إلى إيران، وتساعد طهران على توسيع برنامجها للطاقة النووية، وتحديث موانئها، وتطوير قطاع الطاقة لديها. كما يتضمن الاتفاق تعاوناً أكبر في مجال الدفاع ونقل التكنولوجيا العسكرية الصينية. وفي الوقت نفسه، تعمل بكين على تحديث قاعدتها البحرية في جيبوتي، وبناء رصيف يمكنه استيعاب حاملات الطائرات على بعد 20 ميلاً من اليمن عبر مضيق باب المندب الذي يتحكم في المداخل المؤدية إلى قناة السويس من المحيط الهندي. ويوماً بعد يوم، تزداد احتمالية قيام تحالف صيني - إيراني قادر على السيطرة على المضيق.
ويعكس توسيع تعاون طهران الاستراتيجي مع بكين فور انتخاب بايدن التعاون مع موسكو الذي أعقب استكمال خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015. إن الشراكات الدولية المتنامية لإيران، التي هي في حد ذاتها نتاج تصحيح المسار، تعزز فقط تصميم طهران على تدمير نظام الأمن الإقليمي الأميركي. الجمهورية الإسلامية قوة لا تهدأ؛ سيحصل خامنئي على كل تنازل تقدمه أميركا، ثم يطالب بالمزيد -بالدم.
بايدن بين سوليفان وبلينكن
بايدن بين سوليفان وبلينكن
ومع ذلك، فإن مؤيدي تصحيح المسار يعرضون سياستهم بثقة تامة، كما لو أن تفوق أسلوبهم قد تم إثباته- وكأننا نستطيع جميعاً أن نرى أن صيغتهم ستخرج أميركا من قاعدة حربها، وتؤدي إلى استقرار الشرق الأوسط، وتحمي مصالح أميركا، وتحمي أقرب حلفائها. الادعاء ليس فقط عارياً من الصحة، ولكن ببساطة لا يوجد أي أساس إثباتي له -صفر. إذا كان هناك أي دليل، فإن مؤيدي تصحيح المسار سيقدمون حجتهم بأمانة وصراحة، ويتوقفون عن الاختباء خلف جدارٍ عالٍ من الخداع اللطيف.
الثقة المطلقة نفسها تميز أيضاً موقف فريق بايدن تجاه حملة «الحد الأقصى من الضغط» لترمب التي يسخر منها بصفتها متهورة غير متماسكة غير فعالة. ففي عهد ترمب، تكبد الاقتصاد الإيراني خسائر فادحة. ولم تندلع المظاهرات المناهضة للنظام في كل مدينة إيرانية كبرى في عام 2019 فحسب، بل اندلعت احتجاجات مماثلة في العراق، واستهدفت بشكل مباشر أو غير مباشر وكلاء إيران هناك. لكن سياسة «الحد الأقصى من الضغط» التي انتهجها ترمب كانت أكثر بكثير من مجرد فرض عقوبات اقتصادية. لقد تضمنت أيضاً العمل العسكري الأميركي المباشر، ودعم العمل العسكري من قبل الحلفاء، والعمليات السرية الأميركية أحادية الجانب، ودعم العمليات السرية للحلفاء -ويعمل تصحيح المسار على إنهائها جميعاً بشكل مفاجئ.
أما الأمر الأكثر إثارة للإعجاب على الإطلاق، فكانت الضربة التي وجهها ترمب إلى «الحرس الثوري» الإيراني، وهو العنصر الأكثر رعباً في نظام يحكم بشكل متزايد من خلال الخوف وحده. أنهى ترمب الوهم الذي أفاد إيران بشكل كبير، بأن وكلاءها كانوا جهات فاعلة مستقلة، وليسوا أذرعاً مباشرة لـ«الحرس الثوري». توجت سياسة تحميل إيران المسؤولية المباشرة بمقتل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس» ثاني أقوى رجل في إيران.
وفي غضون ذلك، صعّد الإسرائيليون (على الأرجح) حملتهم السرية للتخريب وجمع المعلومات الاستخبارية ضد برنامج إيران النووي. وفي وقت سابق من رئاسة ترمب، ألحقوا أضراراً بعشرات المنشآت الإيرانية الحساسة، واستولوا على أرشيفها النووي. وفي عملية دراماتيكية، قتلوا رئيس البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زادة. وعلى حد علمنا، لم تعتقل إيران أي عملاء إسرائيليين.
ومن خلال اختراق دفاعات إيران، مزقت إسرائيل -بدعم من إدارة ترمب- تبرير أوباما الرئيسي لخطة العمل الشاملة المشتركة، من خلال إظهار أن الولايات المتحدة قادرة على إدارة التحدي الإيراني، بما في ذلك البعد النووي، بالتزام عسكري أميركي خفيف نسبياً. إن الشبكات التي تخرب البرنامج النووي داخل إيران ليست أميركية، بل إسرائيلية. ومن خلال دعم حليف أميركا، لم ينجرف ترمب في صراعات غير مرغوب فيها، وقام بتمكين الآخرين من تنفيذ أعمال أميركا بالنيابة عنها.
حذا ترمب حذو جميع رؤساء الولايات المتحدة قبل أوباما الذين تصوروا الشرق الأوسط طاولة مستطيلة، حيث تجلس أميركا وحلفاؤها التقليديون في جانب، وخصوم أميركا، بما في ذلك إيران وروسيا، في الجانب الآخر. وفي إطار هذا المفهوم العريق، بدت مهمة الولايات المتحدة ذات شقين: التوسط بين الحلفاء الذين يمثلون كثيراً من الانقسامات، ودعمهم ضد الجانب الآخر.
وكان «الحد الأقصى للضغط» شكلاً من أشكال الأمن الجماعي، وشجع على توثيق التعاون بين الحلفاء الأميركيين، وبالتالي لعب دوراً رئيسياً في الاتفاقات الإبراهيمية واتفاقيات السلام التي أدت إلى توسيع العلاقات الثقافية والاقتصادية والعسكرية بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب والسودان -وكلها قريبة من المملكة العربية السعودية؛ لا أحد كان ليطبع العلاقات مع إسرائيل لو عارضت الرياض هذه الخطوة. كانت الخطوة المنطقية التالية في العملية، والجائزة الاستراتيجية للجهد، هي أن يقوم الرئيس الأميركي المقبل بدفع التقارب الإسرائيلي - السعودي.
ومن المستحيل المبالغة في قيمة اتفاق سلام سعودي - إسرائيلي كامل للولايات المتحدة أو حتى خطوات مهمة في هذا الاتجاه. فقد أعلنت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أن عقيدة التعصب الراديكالي قد ترسخت داخل العالم الإسلامي أكثر مما كنا نعتقد، وهي عقيدة تسعى إلى عزل المجتمعات الإسلامية عن التأثيرات غير الإسلامية. ويرى الإماراتيون، اللاعبون الرئيسيون في الاتفاقات الإبراهيمية، السلام مع إسرائيل جزءاً من جهد متعدد الجوانب لدحض هذه النظرة غير المتسامحة للإسلام والتاريخ الإسلامي. إن المملكة العربية السعودية هي أقوى دولة عربية، وبفضل وصايتها على مكة المكرمة والمدينة المنورة، تعد واحدة من أكثر الدول نفوذاً في العالم الإسلامي بأسره. كما أنها كانت لفترة طويلة حصناً للفقه الإسلامي المحافظ والتمسك الحرفي بالقرآن. إذا كانت الدولة التي يصلي المسلمون نحوها خمس مرات في اليوم، والتي يقوم نحو مليوني شخص بالحج إليها سنوياً، قد طورت علاقات ودية مع الدولة اليهودية، فإن الآثار المترتبة على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في كل مكان ستكون عميقة.
ومع ذلك، فقد منعت إدارة بايدن مسؤوليها حتى من استخدام مصطلح «الاتفاقات الإبراهيمية» التي تمقتها تحت تأثير تصحيح المسار. ولأن الاتفاقيات تحظى بشعبية سياسية، حتى في الأوساط الديمقراطية، ستمتنع الإدارة عن التعبير عن اشمئزازها بصراحة، وستبحث عن كل فرصة للادعاء بأنها تبدو إيجابية فيما يخص تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
لكن في الواقع، ليس لدى فريق بايدن أي نية لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية التي يعد وجودها وصمة عار في سجل الديمقراطيين. إنه يدحض العقيدة التي تدعو إليها إدارة أوباما بأن السلام بين إسرائيل والعالم العربي يجب أن يبدأ باتفاق فلسطيني - إسرائيلي.
والأهم من ذلك أن الاتفاقات تشكل أيضاً تهديداً لعملية تصحيح المسار نفسها. فقد نتج فك الجمود السعودي - الإسرائيلي جزئياً عن الشعور بالتهديد المشترك بينهما بشأن صعود إيران، وعدم موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية المتزايدة. وستصبح الشراكة القوية بين الرياض والقدس لا محالة العقدة الأساسية لمعارضة تصحيح المسار من داخل نظام التحالف الأميركي. وربما تكون الرغبة في إنهاء أي نقاش غير خاضع للرقابة حول توسيع الاتفاقات الإبراهيمية سبباً إضافياً لقيام إدارة بايدن بتكريس أيامها الأولى في السلطة لانتقاص محمد بن سلمان علناً، والضغط عليه بشكل خاص لمصلحة طهران. «لا تجرؤوا على مساعدة إسرائيل»، كان أمراً ضمنياً آخر حمله إلى الرياض «هجوم القيم» الأميركي على خلفية قضية خاشقجي.
عندما تولى بايدن منصبه، واجه مفترق طرق: على أحد المسارين وقف تحالف متعدد الأطراف مصمم على احتواء إيران، وكان له سجل حافل بالنجاحات، وخطط لأشياء أفضل آتية، كما أظهر العمل التخريبي الأخير في نطنز. وكان الأعضاء البارزون في التحالف يطلبون من بايدن العمل ضد عدو مشترك، ولكن أيضاً لتعزيز تعاون أكبر، وربما حتى اتفاقية سلام رسمية بين السعودية وإسرائيل. وعلى المسار الآخر، وقفت الجمهورية الإسلامية مكروهة من قبل شعبها، وفي الواقع من قبل معظم الناس في الشرق الأوسط. ولم تقدم سوى الرسالة الحقيرة نفسها التي لطالما تبنتها. وكانت جميع القوى الخبيثة في الشرق الأوسط تقف إلى جانبها، إما تتطلع مباشرة إلى طهران من أجل القيادة أو تزدهر على الفوضى التي تزرعها.
اختار بايدن إيران، مما أدى إلى كسر نظام التحالف الأميركي، وتراجع قضية السلام. كما حقق اختياره انتصاراً للصين وروسيا اللتين تعملان مع إيران، كلٌ على طريقته الخاصة، من أجل تراجع أميركا. في محاولة شاذة لتحرير نفسها من حلفائها، تلوث الولايات المتحدة عشها.

* مايكل دوران زميل رفيع في معهد هدسون بواشنطن، وتوني بدران زميل باحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات



في ذكرى بيعة ولاية العهد السابعة... صلابة نظام وقوة إرادة

الأمير محمد بن سلمان (واس)
الأمير محمد بن سلمان (واس)
TT

في ذكرى بيعة ولاية العهد السابعة... صلابة نظام وقوة إرادة

الأمير محمد بن سلمان (واس)
الأمير محمد بن سلمان (واس)

يحتفل السعوديون هذه الأيام بالذكرى السابعة لبيعة الأمير محمد بن سلمان بولاية العهد في السعودية (26 رمضان 1438هـ - 21 يونيو (حزيران) 2017م)، في وقت شهدت فيه البلاد تحولات سريعة يصعب رصدها، إلا أنها تصب في «بناء دولة المستقبل»، ضمن «رؤية 2030» التي عرّابها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومن خلفه إيمان الشعب السعودي برؤية القائد، والعمل على دفع عجلة التنمية في بلاده، بتنظيمات وقوانين وإصلاحات هيكلية، وبأهداف مرسومة وطرق واضحة، وقد عبّر الأمير محمد بن سلمان عن شعوره تجاه الشعب السعودي بعد أشهر قليلة من توليه ولاية العهد قائلاً: «أنا واحد من 20 مليون نسمة، أنا لا شيء بدونهم، وأنا أقل وأضعف مثال فيهم كلهم، هم اللي يحفزونني وهم اللي يدفعونني للأمام...»، وكأنه يستحضر مقولة جده الملك عبد العزيز: «أنا قوي بالله ثم بإيماني ثم بشعبي...، وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم ولا أتبع في حكمهم إلا ما هو صالح لهم...».

أصالة النظام السياسي

تميزت الدولة السعودية منذ تأسيسها قبل 3 قرون بأصالة نظامها السياسي، فهو ليس نظاماً مستورداً أو مستنسخاً أو مفروضاً من قوى أخرى؛ علاوة على أنه لم يأت من فراغ، أو ينشأ في غير بيئته، بل كان نابعاً من جذور تاريخية، وعمق إسلامي، وتراث وبيئة عربية نقية. فجذوره التاريخية تمتد إلى تأسيس إمارة الدرعية قبل قرابة 6 قرون، والدولة قامت على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وهي الوريثة الشرعية للحضارة العربية الإسلامية، كما أنها الوحيدة التي استطاعت توحيد الجزيرة العربية تحت حكم عربي مستقل بعد أكثر من عشرة قرون من التفرق والشتات، وإعادة مركزية الحكم العربي إلى جزيرة العرب وإلى قلبها تحديداً، فكان منبع الدولة السعودية تلك البيئة العربية الخالصة، وكانت الحلم العربي الذي تحقق بعد طول غياب.

قصر المصمك في الرياض (هيئة التراث السعودية)

من هنا أتى تفرد نظامها السياسي الذي قام على جذور راسخة، وأصالة سياسية، وشرعية دستورية، تمثلت في قبول ورضا شعبيَّيْن واسعين تجليا في «بيعة» الشعب لحكامه، وتأكد عند محاولات القضاء على نظام الحكم أكثر من مرة، وفي مراحل استرداد «آل سعود» الحكم بالتفاف الشعب حول من يرونه الحاكم الشرعي، كما حصل مع الإمام تركي بن عبد الله، ومع ابنه الإمام فيصل، ثم مع الملك عبد العزيز، لتكون البيعة - بوصفها مفهوماً وممارسة - أحدَ أركان العقد الاجتماعي السعودي التي تُميز هذا العقد، كما تُميز النظام السياسي السعودي عن غيره.

الإنسان محور اهتمام الدولة

مرت الدولة السعودية بمنعطفات وتحولات، بيد أن التحول الأكبر حدث مع الملك عبد العزيز؛ ففي عهده أصبحت (مملكة)، وكان هو الأول من آل سعود الذي حمل لقب (ملك)، وعلى يديه تطورت هياكل الدولة وأنظمتها ومؤسساتها. واستطاع الملك عبد العزيز بعميق رؤيته أن يبني نظاماً صلباً للحكم، تطور معه العقد الاجتماعي (التقليدي)، والذي عادة يتم تناوله من النواحي النظرية، دون إنزاله على الحالة السعودية وصفاً وتفصيلاً، أو حتى فهماً لخلفياته وتطبيقاته وممارساته. فهو نشأ أصلاً بسبب تحقيق الدولة السعودية لما كان يبحث عنه إنسان هذه الأرض، فكان ارتباط المواطنين وثيقاً بدولتهم وقيادتهم منذ البداية؛ لحاجتهم إلى (الحكم الرشيد) الذي يوفر لهم الوحدة والأمن والاستقرار والعدل والتنمية.

تلك الحاجات الكبرى والمفاهيم العظمى التي لا يدركها إلا من فقدها. من هنا نشأ الترابط بين القيادة والمجتمع في أساسه، ذلك الأساس والجوهر الذي بقي أصله ثابتاً حتى اليوم.

وهذا العقد أعمق بكثير مما يتصوره الآخرون، فهو متجذر في نفوس الحكام والمحكومين على حد سواء، أعاد إرساءه عبد العزيز ورجاله وأبناء شعبه، ورعاه ملوك البلاد من بعده، وتوارثه الشعب السعودي جيلاً بعد جيل. بقي متنه راسخاً، وإن طرأت تغيرات على بعض هوامشه تزامنت مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مرت بها البلاد في مراحل مختلفة، وبالتالي فهو عقد له أساس ثابت وأبعاد متحركة.

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان (واس)

إن المتتبع لكلمات ملوك المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز يلحظ أن الإنسان السعودي هو محور اهتمامهم. يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: «النهج التنموي في المملكة يستهدف صنع نهضة شاملة ومستدامة، محورها وهدفها الإنسان الذي سيدير الحاضر، ويصنع تنمية المستقبل».

الحكم الرشيد

أما عن (الحكم الرشيد) فهو مفهوم عربي إسلامي في أصله، استعادته المنظومة الدولية مؤخراً بمسمى (الحكم الصالح أو الراشد أو الجيد، وأُفضّلُ استخدام مصطلح الحكم الرشيد لارتباطه بتراثنا السياسي العريق)، ورأتْه بديلاً للديمقراطية التي فشلت تطبيقاتها في الدول النامية، وجوهره النظام السياسي في الإسلام الذي هو جوهر النظام السياسي السعودي، بينما الديمقراطية الغربية تجربة إنسانية حققت نجاحات ومُنيت بإخفاقات، ومع ذلك فهي نظرياً فكرة جذابة، لكنها عملياً أعادت إنتاج احتكار رأسمال في أيدي الأقلية الثرية مع ضغط الطبقة الوسطى من خلال إثقالها بالضرائب، وإشغالها بالبحث عن الرزق فتحولت الديمقراطية بذلك إلى أداة لإعادة استعباد البشر، و«استخدام الدول لها أداةَ قهر طبقية للحفاظ على الملكية»، كما يصفها الفيلسوف الألماني كارل ماركس صاحب النظرية الماركسية. أما المفكر والطبيب الفرنسي الدكتور ألكسيس كاريل فيقول: «إنَّ هذا المذهبَ (الديمقراطية) يتهاوَى الآنَ تَحتَ ضرباتِ تجارِبِ الشعوبِ، ومِن ثَمَّ فإنَّه ليس مِنَ الضروريِّ التمسُّكُ بزَيْفِه، إلَّا أنَّ نجاحَ الديمقراطيةِ قد جعَلَ عُمرَها يطولُ بشكلٍ يدعو لِلدهشةِ، فكيف استطاعَتِ الإنسانيةُ أنْ تَقبَلَ مِثلَ هذا المذهبِ لِمِثلِ هذه السنواتِ الطويلةِ؟...، صحيحٌ أنَّ الناسَ مُتساوون، ولكنَّ الأفرادَ ليسوا مُتساوين، فتَساوي حُقوقِهم وَهْمٌ مِنَ الأوهامِ، ومِن ثَمَّ يَجبُ ألَّا يتساوى ضَعيفُ العقلِ مع الرَّجُلِ العبقريِّ أمامَ القانونِ، كما أنَّه لا حقَ للأغبياء المجردين من الذكاء ومشتتي العقل غير القادرين على الانتباه أو بذل الجهد، في الحصول على التعليم العالي. ومِن خَطَلِ الرأيِ أنْ يُعطَوْا قوةَ الانتخابِ نَفْسَها التي تُعْطى لِلأفرادِ مُكتَمَلي النُّموِّ، كذلك فإنَّ الجنسَيْنِ لا يتساويان، فإهمالُ انعدامِ المُساواةِ أمرٌ خطيرٌ جدّاً، لقد أسهَمَ مبدأُ الديمقراطيةِ في انهيارِ الحضارةِ بمعارضةِ نُموِّ الشخصِ الممتازِ...، لقد أدت مساواة الناس طبقاً للمثل الأعلى للديمقراطية إلى تغلب الضعفاء، ففي كل مكان يُفضّل الضعفاء على الأقوياء، ولهذا يتلقون كل مساعدة وحماية، وكثيراً ما يكونون موضع الإعجاب. وهم كالمريض والمجرم والمجنون يستدرّون عطف الجمهور...، ولما كان مِنَ المستحيلِ الارتفاعُ بالطبقاتِ الدُّنيا، فقد كانت الوسيلةُ الوحيدةُ لتحقيقِ المُساواةِ الديمقراطيةِ بيْنَ الناسِ هي الانخفاض بالجميع إلى المُستوى الأدنى، وهكذا اختَفَتِ الشخصية». توفي كاريل عام 1944، فماذا كان سيقول لو شاهد ما يحصل اليوم باسم الديمقراطية؟

كثيرة هي الآراء الغربية التي تنتقد الديمقراطية، ناهيك عن عيوبها الأخرى وعدم نجاحها في الدول النامية. من هنا جاء إطلاق مفهوم «الحكم الرشيد» من قبل المنظمات الدولية، والذي يتقاطع مع مبادئ الحكم في الإسلام، لكنه يختلف عنها بتطور آلياته ومعاييره ومؤشرات قياس أدائه، ويركز على أسلوب إدارة الحكم واحترام خصوصية وتجربة كل مجتمع إنساني، ويراعي سياقاته السياسية والثقافية والاجتماعية، ويدعم ويصون حقوق الإنسان ورفاهه، ويوسع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم، ويهدف إلى تنمية إنسانية مستدامة. أما عن قياس معايير ومؤشرات تلك التنمية، فوفقاً لتعريف البنك الدولي هي: «الطريقة التي تباشر بها السلطة في إدارة موارد الدولة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية».

الشرعية الدستورية

وإذا علمنا أن العقد الاجتماعي هو إحدى نظريات نشوء الدول التي تعني أن نظام الدولة السياسي يستمد شرعيته من هذا العقد، وحاولنا إنزاله على الحالة السعودية، لوجدنا أن المجتمع السعودي قلّد حكامه آل سعود شرعية دستورية قلّ نظيرها في التاريخ، والسبب في تقديري يكمن في الأسس أو الأركان التي استندت إلى أو تفرعت من تلك الشرعية الدستورية، وهي:

1 - الشرعية الدينية: وتتمثل في البيعة - بوصفها دسترة للحكم - تربطه بأصوله ومرجعياته في الشريعة الإسلامية.

2 - الشرعية التاريخية: المتمثلة في ممارسة آل سعود الحكم وتمرسهم في إدارة شؤون الدولة لمئات السنين.

3 - شرعية الأمن: حيث ارتبط اسم آل سعود بالاستقرار وتوفير الأمن الذي كان مفقوداً قبل قيام الدولة.

4 - شرعية التنمية: التي لم تتوفر من قبل لإنسان هذه الأرض، والتي كلما زادت عززت شرعية النظام.

5 - شرعية السيطرة: بتوحيدهم البلاد والمحافظة على كيان الدولة ومواردها وفرض القوانين وحفظ النظام.

6 - الشرعية الأخلاقية: وتتمثل في القيم المشتركة بين الحاكم والمحكوم واحترام التقاليد.

7 - شرعية الحكم الرشيد: وهو مبدأ السياسة الشرعية في التراث السياسي الإسلامي وملخصه «سياسة الدنيا وحراسة الدين».

وكل هذه المفاهيم والمبادئ وغيرها نرى أنه تم تأصيلها في مواد النظام الأساسي للحكم.

ومع هذا كله، يجب إدراك تميز آل سعود بقدرتهم على إنجاب القادة الاستثنائيين، يقول المفكر السعودي الدكتور يوسف الحزيم: «لقد اختبرتهم الجزيرة العربية قبل 300 عام منذ نشأة الدولة السعودية، وقد وجدت اختيار غيرهم انتحاراً سياسياً يعود بالبلاد والعباد إلى التفرق والتشرذم والأثرة وسيطرة روح الغاب وانعدام الأمن وانتكاس القيم الدينية والأخلاق العامة، ما ينذر بخراب البناء والعمران».

السعوديون وعقدهم الاجتماعي

ويبقى السعوديون أكثر من يعرف أبعاد عقدهم الاجتماعي وعلاقتهم الوشائجية بدولتهم وقيادتهم، حيث يتميّز العقد الاجتماعي السعودي بالديناميكية في العلاقات بين المكونات المجتمعية فيما بينها من جهة، وفي علاقتها مع السلطة من جهة أخرى، حيث تتجاوز تلك العلاقات بشقيها: الجانب النفعي المباشر أو حتى الاقتصادي بشكل عام، فهو عقد تشاركي تكافلي تتقاطع فيه المواطنة مع عدد من العناصر، ومن أهمها بالنسبة للسعوديين (الأمن الوطني)، والذي يعدّونه خطاً أحمرَ، وأثبتت التجارب أن الرهان فيه يكون دائماً على الوعي السياسي المجتمعي.

الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله المواطنين في المدينة المنورة 13 مارس 2024 (واس)

وهذا كله يتطلب شرحاً مستفيضاً ودراسة مستقلة، لكن المهم هنا أن أسس هذا العقد ترسخت مع الأيام، فقد لمس الناس ما للدولة من فضل كبير في تحويل واقعهم المعيش من الشتات إلى الاستقرار، ومن الفوضى إلى استتباب الأمن، فانتظمت حياة الناس واستقرت أوضاعهم واجتمعت كلمتهم، ناهيك عن الأبعاد القيمية للدولة التي فرضت واقعاً جديداً كان له تأثيره على سلوكيات وتعاملات الشعب، وأثره على طبيعة الحكم وممارساته، فازداد التفاف الشعب حول نظامه الملكي، وازداد معه حرص النظام الملكي على شعبه وبذل الغالي والنفيس لتحقيق آماله.

الشعب العظيم

يقول الملك عبد العزيز: «سأجعل منكم شعباً عظيماً، وستستمتعون برفاهية هي أكبر كثيراً من تلك التي عرفها أجدادكم». لقد عمل الملك المؤسس على تحقيق الكثير لأبناء شعبه مع البناء المؤسساتي للدولة، والصهر الاجتماعي، وتوطيد الأمن، وإرساء مبادئ العدل، وغير ذلك من الخطوات التي عززت وحدة واستقرار الأقاليم التي انضوت تحت حكمه، وتماسك مجتمعاتها، واستمر ذلك إلى ما بعد توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية.

الملك عبد العزيز وابنه الملك سعود (واس)

كل هذه العوامل ساعدت المملكة على الوقوف في وجه كثير من الأطماع والمؤامرات، وتجاوز كثير من الأزمات، إضافة إلى تميّز نظام الحكم السعودي بالمرونة والقدرة على احتواء التحديات، حيث واجهت المملكة العربية السعودية على مر تاريخها كثيراً منها على مختلف الصعد، وأثبتت أجهزة الدولة قدرتها في مواجهتها والتعامل السريع مع الأزمات.

مبادئ الدولة العربية الإسلامية

قدمت المملكة العربية السعودية نموذجاً للدولة العربية الإسلامية بمبادئها وقيمها ومواقفها، ومحاربتها للتيارات المنحرفة على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها، ومحافظتها على استقرار الدولة في مواجهة التهديدات، هذا النموذج السعودي الفريد عزز شرعية الدولة، ورفع مستويات الرضا الشعبي، وكان داعماً للاستقرار السياسي في المملكة العربيّة السعودية. الشعب السعودي يعي حجم المنجز الذي تحقق، ويعرف حجم الجهد الذي بُذل، فهو أولاً شريك في كل ما تحقق، كما أنه رأى حكمة قيادته في حمايته من حروب وأزمات يصعب حصرها، وشاهد ما حل بدول حوله من كوارث ومحن، إضافة إلى إدراكه العميق أن أعظم استثمارات دولته كان في بناء (الإنسان السعودي) ورعايته وحمايته، وهو ليس لديه الاستعداد للتفريط في كل هذه المنجزات التي عمادها الاستقرار، فعقد الخلافة الراشدة لم ينفك إلا بعد أن تفرق الناس في شأن الحكم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.

ولما آل الملك لبني أمية «تحققت لدولتهم من عوامل الاستقرار والتقدم ما جعلها عصراً ذهبياً في التاريخ الإسلامي، فالحكم الراسخ أساس الاستقرار، والاستقرار معول القوة، ولا يستقر الحكم في أي دولة إلا على عوامل مخصوصة تحددها التركيبة والثقافة الاجتماعية، وهو ما حدا بأعرق الديمقراطيات في العالم إلى الحفاظ على والدفاع عن ملكياتها حتى يومنا الحاضر، بوصفها حجر أساس في استقرار نظمها الدستورية واستمراريتها».

الإيمان بالدولة

لقد آمن السعوديون بمشروع عبد العزيز لتوحيد البلاد، وسقت دماؤهم أرض الجزيرة خلال ملاحم التوحيد، ووَرَّثوا أبناءهم ذلك الإيمان، فكل جيل يزداد قناعة بأهمية هذه الوحدة ودعم كل ما يحقق متطلباتها، رأينا ذلك مع كل خطر يهدد وحدة الوطن، وفي كل مرحلة، ومع كل خطوة نحو تطوير البلاد، ونراها اليوم في الإيمان برؤية المملكة 2030. يقول الدكتور الحزيم: «إن الروح السعودية شكّلها ميراث النبوة والعروبة وتقاليد وسلوم وسلوكيات (بدوية الصحراء) و(حضرية مدن الواحات وموانئ البحار)، ودعوة إصلاحية ووحدة وطنية منذ ثلاثمائة عام، وتجربة تحديثية ذات أفق منفتح، إن تلك الروح عميقة فتختار البدائل الوسطية فتجدد ذاتها فتستفيد...، وهي ضاربة أطنابها في عقولنا وفي اللاشعور تحديداً، وهي راسخة وعميقة وناجحة في الحفاظ على ذاتها وإدخال البدائل، ثم النمو وقد تعرضت لامتحانات تاريخية واجتازتها».

ولا نجد أفضل من حديث الأمير محمد بن سلمان مع مجلة «الأتلانتيك» الأميركية حول العقد الاجتماعي ونظام الحكم السعودي والديمقراطية وغيرها، يقول: «جميع الدول في العالم قائمة على معتقدات، فعلى سبيل المثال، أميركا قائمة على أساس المعتقدات التالية: الديمقراطية، والحرية، والاقتصاد الحر وغيرها، والشعب يكون متحداً بناء على هذه المعتقدات، فإذا طرحت السؤال التالي: هل جميع الديمقراطيات جيدة؟ وهل جميع الديمقراطيات مجدية؟ بالتأكيد لا.

الأمير محمد بن سلمان لدى ترؤسه أعمال القمة الخليجية مع دول وسط آسيا في جدة خلال شهر يوليو 2023 (واس)

إن دولتنا قائمة على الإسلام، وعلى الثقافة القبلية، وثقافة المنطقة، وثقافة البلدة، والثقافة العربية، والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا، وإذا تخلصنا منها، فإن هذا الأمر يعني أن البلد سينهار. والسؤال الأهم هو: كيف يمكننا وضع السعودية على المسار السليم، وليس المسار الخاطئ؟ السؤال ذاته يواجه أميركا: كيف يمكن للمرء أن يضع الديمقراطية والأسواق الحرة والحرية على المسار السليم؟ لأن هذه الأمور قد تسلك المسار الخاطئ، لذا فإننا لن نقلل من أهمية معتقداتنا؛ لأنها تمثل روحنا، فالمسجد الحرام يوجد في السعودية، ولا يمكن لأحد أن يزيله. لذا فإننا بلا أدنى شك لدينا مسؤولية مستمرة إلى الأبد تجاه المسجد الحرام.

السعودية دولة ملكية، أقيمت وتأسست على هذا النموذج، ولقد أخبرتكم أنه تحت هذه الملكية هناك نظام معقد يتكون من أنظمة قبلية من شيوخ قبائل ورؤساء مراكز وهجر...، إنني لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف؛ وذلك لأن الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ ثلاثمائة سنة، وقد عاشت هذه الأنظمة القبلية والحضرية التي يصل عددها إلى 1000 بهذا الأسلوب طيلة السنوات الماضية، وكانوا جزءاً من استمرار السعودية دولة ملكية. من بين أفراد العائلة المالكة، هنالك أكثر من خمسة آلاف فرد من عائلة آل سعود. وأعضاء هيئة البيعة اختاروني لكي أحمي المصالح الخاصة بالملكية، وتغيير هذا الأمر يعد خيانة لأفراد عائلة آل سعود، وكذلك خيانة للقبائل والمراكز والهجر وانقلاباً عليهم، وكل هذه المكونات تساعد على إحداث تغيير في السعودية، ولهذا فإنني لا أعتقد أنهم هم من يتسببون في إبطاء وتيرة التغيير، بل هم الأدوات التي تساعدني على القيام بالمزيد.

هناك الكثير من الأفكار الجاذبة، فالديمقراطية جذابة، وكذلك الملكية الدستورية جذابة، لكن الأمر يعتمد على المكان والطريقة والخلفية. فالديمقراطية في أميركا رائعة؛ إذ نتج عن الديمقراطية أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم، ودولة عظيمة، وقد نتج عنها العديد من الأشياء العظيمة في العالم بأكمله، لكنها وُجدت وصُممت بناءً على الوضع الذي كنتم فيه من إخراج البريطانيين وحتى توحيد أميركا، وبالتالي، فقد صممتم نظامكم السياسي، ومعتقداتكم الاجتماعية بطريقة تدعم أميركا، ومن ثم تطورتم، ولو نظرتم إلى أميركا قبل 100 سنة على سبيل المثال، ستجدون المعتقدات الاجتماعية السائدة حينها سخيفة! وحتى بالنسبة لنا في السعودية، نراها سخيفة، لذا لقد تطورت.

ولي العهد السعودي لدى ترؤسه نيابة عن خادم الحرمين القمة السعودية - الأفريقية التي عقدت في الرياض نوفمبر 2023 (واس)

لكن السعودية بوصفها ملكية مطلقة، لا تعني أن الملك يمكنه أن يستيقظ غداً ويفعل ما يحلو له، فهناك أمر أساسي يقود الطريقة الشرعية لإدارة شؤون البلاد، وهو النظام الأساسي للحكم، الذي ينص بوضوح على أن هناك ثلاث سُلطات: الأولى السلطة التنفيذية، التي يقودها الملك كرئيس لمجلس الوزراء، أما السلطتان الأخريان (القضائية والتنظيمية)، فلا يقودهما، ولكن يقوم بتعيينهما، وإليكم مثالاً عن طريقة اتخاذ القرار، فقد أردنا السماح للمرأة بالقيادة منذ عام 2015، لكننا لم نستطع القيام بذلك قبل 2017، وهذا يوضح لكم كيف أننا نعمل وفقاً للقوانين، ووفقاً للنظام الأساسي للحكم، وأمام الشعب، أما لو أدرنا شؤون البلاد بعشوائية، كخيمة، فهذا يعني أن الاقتصاد بأكمله سينهار، ولن يستثمر أحد في السعودية، والسعوديون لن يؤمنوا بنا، فلا يمكننا إدارة شؤون البلاد بعشوائية. لقد جاءت الأسرة المالكة السعودية قبل 600 سنة، كأسرة حاكمة، حيث أسسوا الدولة السعودية قبل 300 سنة، ثم انهارت لمدة سبع سنوات، ثم عادت مرة أخرى، وانهارت لمدة 10 سنوات، ثم عادت مجدداً، وقد تعلمنا الكثير من الدروس، وتطورنا، كما تطور النظام، وكل جيل يأتي، يأتي بناءً على نظامٍ أساسه هذه السلطات الثلاث، وعندما يأتي ملك جديد، يأتي ولي عهد جديد، ولا يحاولان تقويض هذه السلطات؛ لأن هذه هي قوة السعودية».

وتبقى سلاسة انتقال الحكم المؤشرَ الأوضح على مدى صلابة النظام ورسوخه، وتماسك الوحدة الوطنية، فقد أرسى الملك عبد العزيز بثاقب بصيرته نهجاً دستورياً فيما يتعلق بولاية العهد، أثبت صلابته في «تثبيت دعائم الملك وتشييد أركانه وإدامة تسلسله». وحافظ أبناؤه من بعده على هذا النموذج الفريد للدولة، وطوروه في نطاقه الدستوري، وطبقوه بنضج ووعي سياسي يدعو إلى الفخر، ورسخوا تقاليد الحكم العريقة، ونجحوا في مزج معادلة التطور والأصالة، وظلت سلاسة انتقال الحكم في المملكة حالة لافتة طوال تاريخها، وتطور خلالها النظام الملكي السعودي، وتميز بعدد من السمات الخاصة به، ومنها إنشاء هيئة البيعة والتي تؤصل لنظام ملكي مؤسسي.

الملك سلمان والرؤية الشاملة

وجاءت قيادة الملك سلمان للمملكة العربية السعودية في مرحلة بالغة الحساسية، واستطاع بعميق رؤيته نقل الحكم إلى جيل أحفاد عبد العزيز ضمن رؤيته الشاملة لإعادة هيكلة الدولة وتجديد شبابها.

الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

إن انتقال المسؤولية لجيل الأحفاد في المملكة لحظة مفصلية تناولها الكثير من الباحثين عبر العقود الماضية تشاؤماً وتشكيكاً، وعندما أتت، لم يثبت نظام الحكم السعودي رسوخه فحسب، بل براعته في التهيئة للانتقال، وهو منجز سيسطره التاريخ بأحرف من نور للملك سلمان. حدث كل ذلك دون ضجيج إعلامي، وعكس كل التكهنات السابقة، الأمر الذي يبرهن على عراقة الأسرة المالكة والتقاليد الملكية التي تحكم أفرادها تجاه تحمل مسؤولياتهم، وحول ذلك قال الأمير محمد بن سلمان حينما سأله مراسل مجلة «الأتلانتيك» عن كيفية اختياره لولي عهده: «ستكون آخر شخص يعلم بشأن ذلك، هذه من المعلومات المحظورة التي لا يعلمها إلا نحن أبناء العائلة المالكة، الملك وأنا والأعضاء الـ34 في هيئة البيعة، وسيضحون بحياتهم قبل أن يتحدثوا عن أي من هذه الموضوعات».

وهنا علينا إدراك متانة نظام الحكم الملكي السعودي الذي تحكمه آليات دستورية، وأعراف وتقاليد ملكية راسخة الجذور.

7 سنوات مذهلة

إن ما شهدته الأعوام السبعة الأخيرة أمر مذهل بكل المقاييس، ليس فقط من جهة المنجز السياسي والاقتصادي والاجتماعي المهول، ولكن من جهة الترتيبات البارعة لبيت الحكم. وكدأب كل من يعيش في خضم ما، سيصبح يوماً ما «تاريخاً» لأجيال تجيء، تسبر أغواره وتحاول فهم أسبابه، قد لا نكون في وعي كامل بقيمة ما يحدث اليوم، ولا لأبعاده السياسية والاجتماعية ناهيك عن عمقه التاريخي. ويكفي أن نختم بهذه المقتطفات، حيث يتوقع أن يَسألَ بعد سنوات كثير من المؤرخين - بفهمهم المحدود لجذور مؤسسة الحكم السعودية - كيف انتقلت مسؤولية وزارة كوزارة الداخلية إلى شاب كفء في مشهد إمارات المناطق الحاضر برموزه المخضرمة في شؤون الحكم المحلي، وكيف بات مجلس الوزراء السعودي ما بين غمضة عين والتفاتتها الأكثرَ شباباً وفاعلية، ليس في المنطقة فقط، بل في العالم كله.

إن مشهد ولي العهد وهو محاط بثلة من كبار رجالات الأسرة المالكة، وعلى محياهم السعادة والفخر وهم يتابعون سباق خيل اختارت بلادهم أن يكون الأغلى في العالم، كفيل بأن يقول للعالم كله إن بيت الحكم السعودي قد كسب - مجدداً - الرهان وسيكسبه دوماً، مرفوداً بشعب قلده شرعية لم يعرف تاريخ الدول مثيلاً لها.

ولي العهد السعودي خلال رعايته سباق «كأس السعودية» بميدان الملك عبد العزيز للفروسية في الرياض خلال فبراير 2024 (واس)


الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي... نهاية صداقة أشعلت السودان

TT

الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي... نهاية صداقة أشعلت السودان

قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)
قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)

«أخوّة الكاب حدّها الباب»، مَثل متداوَل بين العسكريين السودانيين، يعني أن الصداقة بينهم مؤقتة وقابلة للانقلاب إلى عداوة في أي وقت، متى ما تضاربت مصالحهم، وأن خصومتهم ستُحسم بالرصاص والحراب.

هذا بالضبط ما سيسجله التاريخ عن علاقة الصديقين اللدودين، قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، و«أخوه» السابق قائد «قوات الدعم السريع»، الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي».

فمنذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي والرجلان يتقاتلان، ويتبادلان الشتائم، كأنه لم تكن بينهما أخوّة سابقة وصداقة.

فكيف بدأت العلاقة بين الرجلين، وأين، وكيف تطورت، ثم لماذا تحولت إلى «أُخوّة كاب»؟

الإخوة الأعداء

بعد عشرين عاماً من علاقة سلاح تحولت إلى صداقة حميمة، بلغت خلافات الرجلين، أو تنافسهما على المنصب الأول، حد الاحتراب ونقض الصداقة التي نسجتها المعارك والمصالح، فتفجر الخلاف بين القوتين اللتين كان الرجلان يصفانها بالمتانة، حتى قبيل اندلاع حرب أبريل الأخيرة بسويعات، بيد أن كلاً منهما كان يضمر للآخر في الحقيقة شراً كثيراً. ثم، فجأة، دوَّى الرصاص وتساقطت القنابل والصواريخ، التي تستهدف قتل الآخر، وبدأ «صراع الفيلة» الذي دمَّر كل شيء، وما زال الرجلان يتصارعان حتى اليوم، ويدمّران في صراعهما السودان وأهله.

حميدتي، قال في حوار سابق أجرته معه «الشرق الأوسط» عندما كان لا يزال نائباً للبرهان، إنه بدأ حياته «تاجراً»، ثم انضم لقوات حرس الحدود عام 2004 إبان الحرب بين الجيش السوداني والحركات المتمردة في إقليم دارفور. وحسب كتاب «ما بعد الجنجويد»، للكاتبة جولي فلينت، فإن قوات حرس الحدود كانت تحت إمرة العقيد «المتقاعد» وقتها، مفوض جبل مرة (2002 - 2005) عبد الفتاح البرهان، حين كان اللقاء الأول بين الرجلين.

من نيرتتي إلى القصر

البرهان يؤدي التحية وهو يستمع إلى النشيد الوطني في بورتسودان 27 أغسطس (رويترز)

يوافق على هذه المعلومة العقيد المتقاعد، الطيب المالكابي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، إن العلاقة بين الرجلين بدأت في دارفور، عندما شغل البرهان منصب معتمد محلية نيرتتي، في أثناء وجود حميدتي في قوات حرس الحدود. وكان البرهان منسقاً للقوات المسلحة في أثناء حرب دارفور.وحرس الحدود هي القوة التي تطورت لتصبح لاحقاً «قوات الدعم السريع».

شارك حميدتي من موقعه في قوات حرس الحدود، بفاعلية كبيرة في الحرب ضد الحركات المسلحة في دارفور. وهو ما دفع الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى إصدار مرسوم عام 2007، عيّن بموجبه حميدتي ضابطاً برتبة عميد، وألحقه وقواته بجهاز المخابرات العامة. ثم في عام 2013 أعاد البشير هيكلة تلك القوات وأطلق عليها اسم «قوات الدعم السريع» بقيادة حميدتي، ومنحه صلاحيات وامتيازات واسعة لم تعجب رئيس هيئة أركان الجيش. ولم يكن البشير يرغب في بقاء تلك القوة تحت إمرة جهاز المخابرات العامة، وكان يشك في مدير الجهاز، وقتها صلاح عبد الله «قوش»، الذي اتهمه بالضلوع في محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة.

قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»... (أرشيفية - رويترز)

وانتهز البشير تلك المناسبة وحوَّل «قوات الدعم السريع» حديثة التكوين لتصبح تحت إمرته ومسؤولة أمامه مباشرة، بصفته رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش، مما جعلها تتمتع بمزيد من الاستقلالية في تحركاتها وتصرفاتها، وأطلق على قائدها حميدتي لقب «حمايتي»، مما يعني أنه قربه ليكون حماية له من أي محاولة انقلابية.

حرب اليمن

تعززت علاقة البرهان وحميدتي مجدداً في 2015، عندما اشتركا في الحرب لدعم الحكومة الشرعية في اليمن، وشاركا معاً في تجهيز المقاتلين من «الدعم السريع» والجيش للمشاركة في «عاصفة الحزم» التي شنها التحالف العربي بقيادة السعودية ضد انقلابيي اليمن.

وفي عام 2017 أجاز المجلس الوطني (البرلمان) قانون «قوات الدعم السريع»، الذي جعل منها قوات عسكرية «مستقلة» نظامية. ورغم أن القانون نص على أنها تعمل تحت إمرة الجيش، فإنها فعلياً كانت تتبع رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش مباشرةً، بوصفها قوات «خاصة به».

إقالة ابن عوف وتنصيب البرهان

عندما بدأت الثورة الشعبية ضد نظام حكم الإسلاميين في ديسمبر (كانون الأول) 2018، أمر باحضار «قوات الدعم السريع» لقمع الثوار، لكنّ حميدتي، ووفقاً لإفادة سابقة لـ«الشرق الأوسط» أيضاً، قال إنه استدعى قواته لدعم الثورة، وليس لضرب الثوار، وإنه اتخذ موقفاً مخالفاً لرئيسه بحماية المتظاهرين، بعدما كان قد راج أن البشير طلب منه قمع الثوار، وإنْ أدى ذلك لقتل ثلثهم.

البرهان بين جنود القاعدة البحرية في بورتسودان 28 أغسطس (أ.ف.ب)

ولعب حميدتي الذي كانت قواته قد بسطت، تقريباً، سيطرتها على العاصمة الخرطوم، دوراً مهماً في إطاحة البشير وحكومته، إلى جانب عدد من صغار الضباط في الجيش، ما اضطر «اللجنة الأمنية» العليا التي شكّلها البشير من كبار الضباط، وكان حميدتي أحد أعضائها، إلى التوافق على تغيير البشير وتشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسة قائد الجيش وقتها، الفريق أول عوض بن عوف، الذي مكث في السلطة ليوم واحد فقط، اضطر بعده للاستقالة، بضغط شعبي.

ومن ثمَّ جرى التوافق على اختيار البرهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي كما اختير حميدتي نائباً له. وبذلك عاد الرجلان مجدداً للاتحاد والعمل معاً، وهو الأمر الذي لخصه لـ«الشرق الأوسط» اللواء المتقاعد كمال إسماعيل بقوله: «التقى حميدتي البرهان في دارفور، وهناك ربطتهما علاقة وطيدة جداً، نتجت عن العمليات العسكرية المشتركة التي كانا ينفّذانها معاً، لأن وجود قائدين يتطلب تنسيقاً عسكرياً محكماً، وثقةً متبادلة وعلاقة متينة. وحين أصبح حميدتي قائداً لـ(قوات الدعم السريع) توطدت علاقة الرجلين أكثر».

ويوضح اللواء إسماعيل أن علاقة الرجلين لم تتأثر بتمرد حميدتي على البشير في أثناء الثورة الشعبية، ورفضه طلبه «قتل ثلث الشعب»، بل تطورت باتفاقهما على إطاحة قائد الجيش الفريق أول عوض بن عوف، وقادة آخرين في اللجنة الأمنية التي أطاحت بحكومة البشير، وكانت تخطط لإطاحة رأس النظام والإبقاء على مؤسساته.

محمد حمدان دقلو حميدتي «الشرق الأوسط»

يقول اللواء إسماعيل إن حمَّيدتي نظَّف الطريق للبرهان الذي كان يتولى منصب المفتش العام للجيش، ليكون قائداً له، مما جعل علاقة الرجلين تتعمق أكثر، فكافأه البرهان بتعيينه نائباً له في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، واشتغل الرجلان معاً للتخلص من أعضاء «اللجنة الأمنية» المناوئين لهما، وأبرزهم مدير جهاز المخابرات العامة صلاح عبد الله (قوش).

فض اعتصام القيادة

ووفقاً للواء إسماعيل، فإن العلاقة بين الرجلين مضت بسلاسة، إلى أن جاءت «جريمة فض اعتصام القيادة العامة»، التي اتفق عليها الطرفان، لكنَّ حميدتي شعر بأنه جرى توريطه فيها من خلال التنفيذ الذي تم بأيدي عسكريين بلباس «الدعم السريع»، بقيادة أحد ضباط الجيش المنتسبين لـ«الدعم السريع»، الذي أُلقي القبض عليه وظل في سجن «الدعم السريع» حتى قيام الحرب، فتوترت علاقة الرجلين قليلاً.

كان حميدتي قد سبق وذكر أنه جرى «توريطهم» في تلك الجريمة وتحميلهم وزرها، من خلال عناصر تنظيم الإخوان في الجيش والأجهزة الأمنية.

وزال التوتر بعد تكليف حميدتي رئاسة وفد التفاوض بين العسكريين والمدنيين، وأوكل له توقيع «الوثيقة الدستورية» التي حكمت الفترة الانتقالية، ومن ثم «اخترع» له البرهان منصب نائب رئيس مجلس السيادة غير الموجود في الوثيقة الدستورية، ثم كلّفه ملف مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة، والذي توِّج بتوقيع اتفاقية جوبا لسلام السودان عام 2020.

لكنّ الخلافات عادت لتبرز في «مجلس السيادة الانتقالي»، ولم تعد العلاقة ودودة مثلما كانت. ويقول اللواء إسماعيل: «يرجع التوتر إلى وجود جيشين متنافسين بقيادة رجلين متنافسين على السلطة، وهو أمر كفيل بتحفيز صراع السلطة بينهما».

ووفقاً لتقارير الشهود وقتها، فإن العلاقة بين الرجلين كانت تتوقف على علاقتهما بالمدنيين في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. فكلما ارتفعت وتيرة التوتر بين العسكريين والمدنيين تقارب الرجلان أكثر، وهو ما أوصل البلاد إلى انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021، الذي أطاح الحكومة المدنية.

ويتابع اللواء إسماعيل: «أذكر تماماً أن البرهان وحميدتي كانا متوافقين تماماً على الانقلاب، لأن علاقتهما بالمدنيين ساءت كثيراً».

فخ الانقلاب

حميدتي، وبعد أيام قليلة من الانقلاب، شعر بأن ثمة فخاً جديداً نُصب بهدف «توريطه»، وفقاً لحديث سابق مع القائد الثاني لـ«قوات الدعم السريع»، عبد الرحيم دقلو (شقيق حميدتي)، الذي ذكر أن فشل الانقلاب تكشَّف لهم منذ الأيام الأولى، وأنه أعاد مجدداً أنصار الإسلاميين إلى مواقعهم في السلطة والنفوذ. وفي هذا قال اللواء إسماعيل: «حميدتي تحدث مع البرهان عن وجود تقارير للأجهزة الأمنية التي تلقياها كان خاطئة، وطلب منه إقالة مدير جهاز المخابرات جمال عبد المجيد، ومدير جهاز الشرطة، ورئيس هيئة أركان الجيش».

قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)

ويستطرد اللواء إسماعيل: «أقال البرهان كلاً من مدير الشرطة ومدير المخابرات، لكنه امتنع عن إقالة رئيس هيئة الأركان، تحسباً لما يمكن أن تثيره إقالته من مشكلات داخل الجيش».

وبدأت رحلة «تنصل» حميدتي من الانقلاب باكراً، وظهر ذلك في الجهود التي بذلها نائبه وشقيقه عبد الرحيم، من أجل إعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى مكتبه، في اتفاق مع البرهان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، أي بعد أيام من وضعه تحت الإقامة الجبرية، لكنّ البرهان كان متمسكاً بالانقلاب، على الرغم من عدم تمكنه من الإيفاء بأي وعد من وعوده بتكوين حكومة، كما لم يقبل الشارع السياسي و«تحالف الحرية والتغيير» عودة حمدوك بتلك الطريقة، مما اضطره إلى تقديم استقالته.

ويرى اللواء إسماعيل أن الخلافات كانت متوقَّعة بين الرجلين منذ دخلا مجلس السيادة الانتقالية. ويقول: «هناك طموحات سياسية لكلا الرجلين، وكان كل واحد منهما يريد إبعاد الآخر والاستيلاء على السلطة كاملة».

وكان المفكر والسياسي الحاج وراق، قد تنبأ في وقت باكر باحتمال صراع الرجلين، رغم «الصداقة» التي كانت تجمعهما. وقال في أمسية سياسية إن المؤسسة العسكرية تشهد خلافات، وخلافاتها ستُحسم بالسلاح، وذلك بعد انتقاد كل من قائدي الجيش و«الدعم السريع» لخلافات المدنيين في الحكومة الانتقالية. وأضاف وراق أن المؤسسة العسكرية الأمنية تمثل أكبر خطر على البلاد.

الاتفاق الإطاري

في 5 ديسمبر 2022 أقرّ الرجلان بفشل «انقلابهما» المشترك، ووقّعا مع «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» اتفاقاً إطارياً قضى باستعادة الانتقال المدني، وتوحيد الجيش وخروج العسكريين من السياسة. لكن عاد الرجلان واختلفا لاحقاً على «عدد السنوات التي سيستغرقها دمج (قوات الدعم السريع) في الجيش»، وعلى القيادة الموحدة للقوات خلال الفترة الانتقالية.

يقول اللواء إسماعيل: «كبر الخلاف بين الرجلين، وعجز الجميع عن تهدئته، فصار أصدقاء الأمس أعداء اليوم». وتابع: «الخلاف كان متوقعاً في وقت مبكر، لأن علاقة الرجلين كانت علاقة مصالح وليست علاقة أهداف ومبادئ، ووجود جيشين في أي بلد يجعل استقراره مهدداً على الدوام».

وانتهز أنصار الرئيس السابق من الإسلاميين وأعضاء حزبه «المؤتمر الوطني»، اتساع التباعد بين الرجلين، فاشتغلوا عليه من أجل توسيع الهوّة بينهما، وهددوا بإفشال توقيع الاتفاق النهائي بين الجيش و«الدعم السريع» من جهة، والقوى المدنية الموقِّعة للاتفاق الإطاري من جهة ثانية، لأنه نص على إزالة تمكينهم ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، وإبعادهم عن العملية السياسية، وبالتالي لن يستطيعوا العودة للمشهد السياسي قريباً، وهذا ما يؤكده قول اللواء إسماعيل: «هناك عناصر شعرت بالخلاف بين الرجلين وحاولت الاستثمار فيه، والاستثمار كان بداية الحرب».

تقارُب ونفور

إبان هذه الخلافات، تقارب البرهان وأنصار نظام البشير الذين يَعدّون «حميدتي» عدوهم اللدود الذي أسهم بشكل كبير في إطاحة حكمهم، فتطورت الخلافات بين الرجلين، ليتبادلا الاتهامات تلميحاً وتصريحاً.

البرهان يخاطب الجمعية العامة للامم المتحدة في سبتمبر الماضي عارضاً أسباب الجحرب في السودان (الأمم المتحدة)

وأوصلت خلافات الرجلين البلاد إلى حافة هاوية الحرب. وإزاء ذلك، حاولت القوى المدنية الموقِّعة على الاتفاق الإطاري التوسط بينهما، وإزالة التوتر ولملمة الخلافات التي تنذر بالحرب، وصولاً إلى توقيع الاتفاق الإطاري. وفي هذا يقول مصدر من داخل غرف الوساطة المدنية لـ«الشرق الأوسط»، إن عناصر النظام السابق لعبوا دوراً مهماً في إشعال جذوة التوتر بين الجيش و«قوات الدعم السريع». وتابع: «موقفهم كان معلناً، فقد هددوا فيه بإفشال الاتفاق الإطاري بأي ثمن، لأنه نصَّ على تصفية تمكين نظام الثلاثين من يونيو (حزيران) ومحاسبة الفساد، وتكوين جيش وطني، بما يُفقدهم أي فرصة للعودة إلى المسرح السياسي خلال فترة الانتقال».

وانتقل التوتر بين الرجلين إلى توتر بين الجيشين، لا سيما أن عدداً من قادة الجيش من الإسلاميين، رأوا في هذا التوتر فرصة للتخلص بسرعة من «الدعم السريع» ليعودوا مجدداً للسلطة.

ويتابع المصدر: «أصل التوتر يعود إلى خلافات الجيشين منذ ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، التي قَبِلَ (الدعم السريع) توصياتها ورفضها الجيش». ويضيف: «اختلف الرجلان كذلك على عدد السنوات التي يتم فيها إدماج (قوات الدعم السريع) وتوحيد القيادة العسكرية العليا وهيكلتها».

محاولات فاشلة

ولنزع فتيل الحرب الذي بدأ بالاشتعال، حاول «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» والقوى الموقِّعة على الاتفاق الإطاري، إطفاء النار الزاحفة، فأفلحت في جمع كلٍّ من قائد الجيش وقائد «قوات الدعم السريع»، بعد قطيعة طويلة، صباح 8 أبريل، بهدف إطفاء نار الحرب.

وقال المصدر المشارك في تلك الاجتماعات، إنهم عقدوا اجتماعاً آخر بين البرهان وحميدتي في اليوم التالي، وبمشاركة رئيس هيئة أركان الجيش، الفريق الركن خالد عابدين، وكان مقرراً الطواف على قوات الطرفين من أجل التهدئة.وفي ذلك الوقت، برزت معضلة «قوات الدعم السريع»، التي صدرت لها الأوامر بالتوجه إلى القاعدة العسكرية الجوية في منطقة «مروي» شمال البلاد، حيث توجد قوات جوية مصرية هناك، وكان حميدتي يخشى استخدامها في ضرب قواته إذا اندلعت الحرب. يقول المصدر: «في ذلك الاجتماع، أبلغ حميدتي أنه حرَّك قوات من منطقة (الزرق) في دارفور إلى مروي، ووعد بسحبها متى أوفى البرهان بوعده سحب القوة الجوية المصرية. واتفق الطرفان في اجتماع يوم 9 أبريل على عقد اجتماع آخر ينزع فتيل الحرب يوم 10 أبريل، لكنّ الاجتماع لم يُعقد، لأن البرهان اعتذر عنه تحت ذريعة المرض». ويواصل المصدر قائلاً: «اكتشفنا لاحقاً أن البرهان لم يكن مريضاً، لكنه كان مجتمعاً مع جهة أخرى».

ويوضح المصدر أن حدة التوتر بين الجيشين ازدادت باطراد، وفي أثناء ذلك عقدت «الحرية والتغيير» اجتماعاً منفرداً مع البرهان في 14 أبريل، وتقرر تكوين لجنة ثلاثية، من عضو مجلس السيادة الهادي إدريس، ورئيسي هيئة أركان الجيشين، لزيارة منطقة مروي بهدف إزالة التوتر هناك، وقرروا عقد اجتماع صبيحة السبت 15 أبريل، لوضع اللمسات النهائية لإزالة التوتر، لكن الحرب اندلعت في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فقطعت الطريق أمام أي حل سلمي كان المدنيون يسعون إليه.

وهكذا أنهت الحرب، التي أُطلق عليها اسم «حرب الجنرالين»، صداقة قديمة بين الرجلين عمرها نحو عشرين عاماً، فأصبحت عداوة، وأيّ عداوة، وأنهت «أخوّة الكاب عند الباب»... باب الحرب والمصالح المتضاربة.


تجميد تمويل «أونروا»... قطع لشريان حياة أم ضغط باتجاه إصلاحات؟

تجميد تمويل «أونروا»... قطع لشريان حياة أم ضغط باتجاه إصلاحات؟
TT

تجميد تمويل «أونروا»... قطع لشريان حياة أم ضغط باتجاه إصلاحات؟

تجميد تمويل «أونروا»... قطع لشريان حياة أم ضغط باتجاه إصلاحات؟

تتخبط وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في دوامة تجاذبات سياسية أميركية أدت إلى حظر تمويلها حتى مارس (آذار) من العام المقبل؛ ما طرح تساؤلات ومخاوف حول إمكانية استمرارها في تقديم المساعدة لأكثر من 5 ملايين لاجئ فلسطيني في غزة والضفة الغربية، والأردن، ولبنان وسوريا. والولايات المتحدة هي أكبر متبرع للوكالة، ومن شأن الحظر الأميركي أن يؤدي إلى نقص في ميزانية الوكالة قد يصل إلى 350 مليون دولار، بحسب مسؤولين أميركيين تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، لافتين إلى تداعيات الحظر في غياب بديل للوكالة، ومحذرين من تفاقم المعاناة الإنسانية في غزة في هذه المرحلة الحرجة.

تريليون دولار، هي القيمة الإجمالية لقانون المخصصات الضخم الذي أقرّه الكونغرس بمجلسيه ووقّع عليه الرئيس الأميركي جو بايدن. مبلغ هائل يضمن تمويل المرافق الحكومية الأميركية حتى العام المقبل، لكنه يخفي في طياته حكماً «مؤقتاً» بالإعدام على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). فبعد جهد كبير من المشرعين الأميركيين المعارضين للوكالة تمكن هؤلاء أخيراً من زج بند في مشروع قانون المخصصات يمنع تمويل الولايات المتحدة للوكالة حتى مارس (آذار) 2025 .

خبر وقع كالصاعقة على رؤوس العاملين في الوكالة والداعمين لها على حد سواء. فعلى رغم أن الإدارة الأميركية كانت جمدت منذ يناير (كانون الثاني) تمويل الوكالة، فإن الداعمين لمهمتها كانوا يأملون برفع التجميد بمجرد انتهاء التحقيقات بعلاقة بعض العاملين في الوكالة بحركة «حماس»، وتحديداً هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، بحسب الرواية الإسرائيلية التي لم تقدم أي معلومات إضافية أو أدلة ملموسة.

فلسطينيون يتظاهرون أمام مقر «الأونروا» في بيروت احتجاجاً على قرارات قطع الدعم وإجراءات إدارية تطال موظفين في الوكالة (إ ب أي)

وكانت دول أخرى مثل بريطانيا وكندا والسويد أعربت عن نيتها تجميد تمويل الوكالة قبل أن تعود مطلع الشهر الجاري وتستأنف التمويل فيما لم تنقطع بلدان أخرى عن الدعم والتمويل وبينها السعودية التي ضخت مؤخراً 40 مليون دولار.

وهذا ما تحدث عنه ويليام ديري، مدير الوكالة في العاصمة الأميركية واشنطن، معرباً عن خيبة أمله من إقرار التجميد خاصة بعد مساعٍ حثيثة من «أونروا» «لاستعادة ثقة» المشرّعين الأميركيين من خلال إحاطات مغلقة.

فالسؤال الذي لا يزال مطروحاً هو ما إذا كانت «أونروا» ستتمكن من الاستمرار بمهمتها في وقت حرج تعاني فيه غزة تحديداً مجاعة محدقة.

ويقول ديري لـ«الشرق الأوسط» إن تجميد التمويل حتى مارس المقبل «سوف يترك فراغاً كبيراً في موازنة (أونروا) السنوية للعمليات يجب سده من خلال متبرعين آخرين». فالولايات المتحدة هي أكبر متبرع للوكالة؛ إذ تغطي نسبة تصل إلى 30 في المائة على الأقل من ميزانيتها العامة. وتتراوح هذه التبرعات بين 300 و400 مليون دولار سنوياً، وسيؤدي هذا التجميد إلى نقص قد يصل إلى نحو 350 مليون دولار. وأضاف ديري في حديثه مع «الشرق الأوسط»: «في الوقت الحاضر، لدينا ما يكفي من التمويل حتى شهر مايو (أيار). التاريخ المهم جداً هو شهر يونيو (حزيران)؛ لأننا في حاجة إلى الاستمرار في تعليم أطفالنا حتى نهاية العام الدراسي. فإذا اضطررنا إلى إغلاق المدارس مبكراً، لن يتمكن التلامذة من إنهاء عامهم الدراسي والتخرج».

وحذّر ديري من انعكاسات تجميد التمويل على الـ30 ألف موظف لدى الوكالة في المنطقة، منهم 13 ألفاً في غزة وحدها، فقال: «عمل (أونروا) لا يقتصر على غزة فحسب، بل هي تعمل أيضاً في الضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان، وتقدم الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية. نتيجة لهذا؛ فإن أي نقص في الميزانية سيجعل من الصعب علينا تطبيق التفويض الذي أعطته لنا الجمعية العامة للأمم المتحدة. النقص في الميزانية سيعيق مساعينا لتخفيف حدة المجاعة في غزة، ولن ينعكس إيجاباً على استقرار المنطقة بشكل عام».

موقف يتفق معه غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي وصف في حديث مع «الشرق الأوسط» تجميد التمويل عن «أونروا» «في هذه المرحلة الحرجة بالخطأ»، وقال العمري إن تأثير تجميد التمويل السلبي لن يقتصر على الوضع الإنساني في غزة فحسب، بل إن «أي إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى انهيار (أونروا) ستكون لها تأثيرات مزعزعة للاستقرار السياسي في مناطق عملها الأخرى، خاصة الضفة الغربية ولبنان والأردن».

بصيص في نهاية النفق

على رغم الانعكاسات السلبية الكثيرة لقرار حظر التمويل، فإن البعض ينظر إلى تفاصيله بعين أقل تشاؤماً، وذلك من زاوية وجود سقف زمني محدد في مارس المقبل، وعدم فرض القرار بشكل دائم كما سعى بعض أعضاء الكونغرس الذين دفعوا باتجاه إلغاء التمويل بشكل قاطع.

وتقول مارا رودمان، النائبة السابقة للمبعوث الأميركي للشرق الأوسط، في حديث مع «الشرق الأوسط» إن «تجميد التمويل مؤسف لكن كونه مؤقتاً لمدة عام فقط، فهذا يحدّ من تأثيره لأن الجزء الأكبر من حصة الولايات المتحدة من المال للعام الحالي قد تم إرساله إلى (أونروا) قبل التجميد». وبذلك، تقصد رودمان إرسال الولايات المتحدة مبلغاً يقارب 121 مليون دولار للوكالة، بحسب المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، وبذلك ترى رودمان أن التأثير المباشر لهذا القرار سيبقى «محدوداً».

ويرى العمري أن الجدير ذكره في ظل النقاش الدائر حالياً التذكير بأن الحظر «مؤقت على رغم الموقف المعادي بشدة لـ(أونروا) في الكونغرس»، مشيراً إلى أن هذا من شأنه أن يدفع بـ«أونروا» إلى «أن تكون أكثر يقظة في معالجة بعض نقاط الضعف لديها، خاصة وأن هناك العديد من الأصوات التي تبحث عن أسباب لإغلاق الوكالة التابعة للأمم المتحدة».

نظرة يوافق معها ديري الذي قال، اعتماداً على النظرة القائلة إن نصف الكوب ممتلئ: «من الجيد أن المشروع لا يفرض حظراً دائماً على المساعدات الأمريكية لـ(أونروا)». مؤكداً أن التحدي الأبرز الذي يواجه الوكالة هو «تثقيف المشرعين حول الخطوات التي تتخذها بهدف استعادة ثقتهم».

من هؤلاء المشرعين كبير الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية في الشيوخ جيم ريش الذي يسعى منذ فترة طويلة إلى قطع التمويل عن الوكالة ويتهمها بدعم حركة «حماس». ريش ذكّر بمساعيه وقف تمويل الوكالة «منذ أعوام» ووصف لـ«الشرق الأوسط» قرار التجميد بأنه «القرار الصائب» وأضاف: «يجب ألا يمنح دولار واحد من أموال دافعي الضرائب إلى (أونروا) بعد الاتهامات الخطيرة بمشاركة أعضائها في هجمات السابع من أكتوبر. إذا كانت الولايات المتحدة ستستمر في كونها أكبر متبرع للشعب الفلسطيني، فيجب أن يكون ذلك من خلال منظمات تم التدقيق فيها، وغير مرتبطة بالمنظمات الإرهابية، ولا تروج لمعاداة السامية.»

هل من بدائل؟

في فترة سابقة من مطلع العام، ومع تصاعد الكلام عن احتمالات قطع التمويل الأميركي كلياً أو جزئياً قبل صدور القرار الأخير، طرحت بدائل لـ«أونروا»، منها منظمات محلية أو دولية وأخرى أممية كبرنامج الغذاء العالمي و«يونيسيف». لكنه تم التصدي سريعاً لهذه الاقتراحات، وأول من وقف ضدها بشكل واضح كان الأمين العام للأمم المتّحدة ​أنطونيو غوتيريش​، عادّاً أنّه «لا يمكن استبدال عمل وكالة غوث وتشغيل اللّاجئين الفلسطينيّين (​أونروا​) في ​غزة​».

وكان أعلن في مؤتمر صحافي في شهر فبراير (شباط) الماضي، رفضه القاطع لهذه الفكرة، موضحاً أنّ «العمود الفقري لتوزيع المساعدات الإنسانيّة الأمميّة في غزة، يتكوّن من موظّفي (أونروا) المكرّسين للاستجابات الطّارئة». وركّز على أنّه «ليست هناك أيّ منظّمة أخرى موجودة في غزة قادرة على تلبية هذه الاحتياجات».

والواقع أن مقاربة البحث عن بدائل لـ«أونروا» لها معارضة كبيرة أيضاً داخل أميركا نفسها. وفي هذا السياق، يقول السفير الأميركي السابق إلى العراق وتركيا جيمس جيفريز لـ«الشرق الأوسط»: «في الوقت الحالي، لا يوجد بديل لـ(أونروا) لإيصال الإمدادات التي يحتاج إليها بشدة سكان غزة المحرومين. لذلك؛ أعتقد أن قرار تجميد التمويل كان خاطئاً».

وتوافق رودمان مع هذا التقييم فتذكر بقدرة «أونروا» «الفريدة على توزيع المساعدات داخل غزة» محذرة: «إذا قطع الآخرون أيضاً الدعم المالي دون وجود بديل، سيؤدي ذلك إلى معاناة أكبر للعديد من الفلسطينيين غير المرتبطين بـ(حماس) في غزة». أما العمري، فيؤكد بشكل قاطع غياب بديل لـ«أونروا» قائلاً: «فيما يتعلق بتقديم الخدمات في غزة، لا توجد بدائل عملية لـ(أونروا). الوكالات الأخرى التابعة للأمم المتحدة لا تملك القدرة على القيام بهذا العمل، فتوفير بديل يستغرق وقتاً طويلاً وموارد كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، لا تعدّ (أونروا) وكالة تزود الخدمات فحسب، بل إنها اكتسبت أهمية رمزية في الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي. وبناءً عليه؛ قد يؤدي إلغاؤها إلى اضطرابات سياسية أيضاً».

وفي هذا السياق، أعرب عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين عن استيائهم الشديد من إقرار قانون الحظر، فرأى السيناتور الديمقراطي كريس فان هولان أنه «من غير المنطقي إطلاقاً قطع التمويل عن الآلية الرئيسية لتوصيل الغذاء والمعونة الضرورية بشكل عاجل إلى الجياع واليائسين في غزة» ووجّه فان هولان انتقادات لاذعة للجمهوريين بسبب «إقحامهم» لبند قطع التمويل في مشروع المخصصات المالية الضروري لاستمرار عمل المرافق الحكومية. وقال: «استعداد الجمهوريين لإغلاق الحكومة بسبب هذا البند أمر مشين للغاية، وعلى الرغم من غضبي، فإنني أدرك أن وقف تمويل الحكومة الأميركية لن يساعد في تمويل (أونروا)، و إغلاق الحكومة الأميركية لن يساعد في إطعام الأشخاص الجوعى في غزة».

وصول مساعدات غذائية إلى غزة من «الأونروا» (رويترز)

ويشير فان هولان إلى نقطة مهمة في مشروع المخصصات تزيد من تمويل الولايات المتحدة لمنظمات دولية أخرى «الأمر الذي سيتيح لدول أخرى تغطية تمويل (أونروا) حتى تتمكن من الاستمرار في عملياتها الحيوية في غزة وتقديم خدمات هامة في الضفة الغربية وفي جميع أنحاء المنطقة» مضيفاً: «المهمة تقع الآن على كاهل إدارة بايدن للعمل مع دول أخرى لتحقيق ذلك».

وأشار ديري في هذا الإطار إلى جهود وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن التي شجع من خلالها دول الاتحاد الأوروبي في زيادة دعمها للوكالة، إلا أنه أكد في الوقت نفسه «صعوبة توقع سير الأمور في الوقت الحالي»، وفسر قائلاً: «جميعنا نعرف التحديات التي تواجهنا. لكن ما لا نعرفه هو كيف ستتفاعل بقية الدول الأعضاء مع ما جرى».

توصيات وإصلاحات مطلوبة

على رغم مساعي أعضاء الكونغرس فرض إصلاحات على «أونروا» حتى قبل الادعاءات الإسرائيلية بشأن تورط 12 موظفاً في هجوم السابع من أكتوبر، وهي ادعاءات أدت إلى صرف 10 منهم بعد إعلان «أونروا» عن مقتل الاثنين الآخرين، فإن هذه الادعاءات دفعت إلى فتح تحقيقات يجريها مكتب خدمات الرقابة الداخلية في الأمم المتحدة بالإضافة إلى لجنة المراجعة المستقلة. وتنتظر الوكالة صدور توصيات معينة بعد التحقيقات المذكورة، ويؤكد ديري أن «أونروا» «تتعاون بشكل تام مع تحقيق مكتب خدمات الرقابة الداخلية في الامم المتحدة، والتحقيق الخارجي المستقل»، مشيراً إلى أن «(أونروا) اتخذت مبادرات لتحسين عملياتها الموجودة، كما أنها سوف تطبق فوراً أي توصيات ناجمة عن التحقيقات والمراجعة الخارجية».

من ناحيته، يؤكد السفير السابق جيمس جيفريز لـ«الشرق الاوسط» أنه يترتب «على (أونروا) والأمم المتحدة والمجتمع الدولي فهم الدوافع وراء قرار الكونغرس بشكل أفضل»، ويفسّر ذلك قائلاً: «هناك أدلة قوية على مر العقود تشير إلى أن (أونروا) ومنظمات الإغاثة الأخرى كانت منحازة ضد إسرائيل بسبب تأثير موظفيها الفلسطينيين المحليين عليها ومواقفها الدولية بشكل عام». ويرى جيفريز أن «أي حل دائم لأزمة غزة بشكل خاص والمشكلة الفلسطينية بشكل عام يجب أن يبدأ بقبول الارتباط الضروري ما بين تقديم المساعدة الإنسانية وإعادة الإعمار من جهة والالتزام بالاتفاقيات الدولية والالتزام بالحلول السلمية من جهة أخرى».

وإلى ذلك، يدعو السفير السابق إلى ضرورة «بذل المزيد من الجهد لضمان عدم تحويل المساعدات إلى (حماس) والجماعات الراديكالية الأخرى، وعدم استغلال المنشآت التابعة للمنظمات الدولية من قبلها».

تاريخ تمويل متقلب

تاريخ تمويل «أونروا» متقلب مع تقلب المزاج السياسي للبلدان المتبرعة. فنحو 90 في المائة من تمويل الوكالة مصدره «تبرعات طوعية» من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وفي عام 2022 قالت الوكالة إنها حصلت على أكثر من مليار دولار من التبرعات، قدمت الولايات المتحدة 344 مليون دولار منها. أما في عام 2023، فقد وصلت المساهمات الأميركية إلى 422 مليون دولار.

ويتحدث ديري عن هذه المعادلة ويشرحها قائلاً: «تموّل (أونروا) من خلال التبرعات الطوعية، بمعنى آخر، يجب على الدول الأعضاء أن تساهم في (أونروا) بما يتجاوز اشتراكاتها العادية في الأمم المتحدة. لدينا اتفاقات مع بعض المانحين لسنوات عدة؛ ما يساعدنا كثيراً في التخطيط المالي. لكن الوكالة لا تشعر أبداً بأن دعمها واجب، وبينما نقوم بتقديم إحاطات منتظمة لأعضاء الكونغرس حول عملياتنا، إلا أن الوكالات التابعة للأمم المتحدة لا تحاول أبداً التدخل في المشاورات الداخلية لأي دولة عضو». إشارة واضحة إلى التجاذبات الداخلية التي تطغى على ملف دعم «أونروا» في الولايات المتحدة، بدليل قرار ادارة الرئيس السابق دونالد ترمب تجميد تمويل «أونروا» بشكل جزئي في عام 2018 بسبب اعتراضات حزبه عليها والدعوات لفرض إصلاحات عليها، واستمرت الوكالة بالعمل رغم هذا التجميد لتأتي ادارة بايدن وتعيد تمويل «أونروا». لكن هذا لم يخفف من المعارضة الجمهورية الشرسة لهذه الخطوة؛ ما أدى إلى اتخاذ البعض منهم كالسيناتور جيم ريش تدابير تشريعية عرقلت بعض الجزيئات المرتبطة بالتمويل.

ويرى هؤلاء أن ثمة حاجة إلى فرض اصلاحات كثيرة على الوكالة التي أسستها الأمم المتحدة في عام 1949 لتأمين المساعدة المباشرة لـ700 ألف نازح فلسطيني بعد حرب 1948. وجددت الأمم المتحدة تفويض «أونروا» على مدى الأعوام السبعين الماضية ووجهتها لتقديم الرعاية الصحة والسكن والمساعدة المالية للاجئين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان، وعددهم بحسب الوكالة أكثر من 5.9 مليون شخص مسجلين.

ويقول المنتقدون من الجانب الأميركي إن من الإصلاحات التي يجب فرضها، تعريف الوكالة لمصطلح «لاجئ»؛ إذ تعرف الوكالة اللاجئ منذ عام 1952 على أنه «أي شخص كان مكان إقامته الطبيعي فلسطين خلال الفترة من 1 يونيو 1946 إلى 15 مايو 1948 وفقد منزله وسبل معيشته نتيجة لنزاع عام 1948».

وفي عام 1965 غيرت «أونروا» من تعريف المصطلح ليشمل الجيل الثالت للاجئين، ثم وسّعته ليشمل كل سلالة اللاجئين الفلسطينيين الذكور بمن فيهم أطفالهم بالتبني. وقد طرح الكونغرس مشروع قانون لمحاولة تعديل هذا التعريف وحصره «بزوجة أو زوج اللاجئ وأولاده القاصرين» .

وفي ظل هذه التجاذبات تقول «أونروا» إن أكثر من مليوني شخص في غزة يعتمدون على المساعدات التي تقدمها، وتقدر عدد الاشخاص الذي يحتمون في منشآتها او بالقرب منها بنحو 1.7 مليون شخص، وهو عدد هائل من الناس الذين ستبقى احتياجاتهم الملحة رهن القرار الأميركي.


ضوء أخضر إيراني لتركيا في العراق بلا ضمانات

جندي عراقي في سنجار المدمرة بعد 3 سنوات من تحريرها من «داعش»... (أ.ب)
جندي عراقي في سنجار المدمرة بعد 3 سنوات من تحريرها من «داعش»... (أ.ب)
TT

ضوء أخضر إيراني لتركيا في العراق بلا ضمانات

جندي عراقي في سنجار المدمرة بعد 3 سنوات من تحريرها من «داعش»... (أ.ب)
جندي عراقي في سنجار المدمرة بعد 3 سنوات من تحريرها من «داعش»... (أ.ب)

دخل «الحشد الشعبي» شريكاً في صفقة محورية بين بغداد وأنقرة، بينما إيران في قلب الصورة. تقول مصادر عراقية وتركية متطابقة إن الاتفاق الذي أُبرم أخيراً يتعدى العمل العسكري ضد حزب «العمال الكردستاني»، إلى ترتيبات شاملة تتعلق بخريطة الشرق الأوسط بعد حرب غزة.

وكشف مسؤول تركي، لـ«الشرق الأوسط»، عن جانب من «خطة أنقرة»، في إطار التحضير لـ«متغيرات سيترتب عليها اليوم التالي للحرب في غزة، وعزمها التكيف معها بصفر مشاكل أمنية في المنطقة، لا سيما العراق».

ولأن طهران في الصورة، رُبط اسم «الحشد الشعبي» بوجود الحزب المحظور في بلدة سنجار (شمالي غرب)، لكن «أخوّة الدم» بين مسلّحيه وفصائل شيعية قد تعرقل المسار الجديد لتركيا.

تتطابق المعلومات، التي استقتها «الشرق الأوسط» من مصادر عراقية، مع الصورة التي قدمها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، حينما أشار إلى اسم فالح الفياض، رئيس هيئة «الحشد»، في مقابلة مع محطة «سي إن إن تورك»، الأسبوع الماضي، وقال: «إنهم (الأتراك) تفاهموا بشأن سنجار مع مؤسسة رسمية تُمولها الدولة العراقية».

وبدا أن تركيا ترمي، هذه المرة، بثقل سياسي وعسكري كبير في العراق، وبعلاقات أكثر شمولية، لإنهاء التوتر المزمن على حدودها الجنوبية، غير أن التوازنات الداخلية في بغداد، وتعاظم نفوذ «حزب العمال الكردستاني» في سنجار يهددان، إلى حد ما، نجاح الصفقة.

وتتفق المصادر العراقية في وصف «التحرك التركي الشامل» بأنه جزء من تحضيرات إقليمية لوضع منطقة الشرق الأوسط، بعد انتهاء الحرب في غزة، والتي تتطلب «تصفية بؤر التوتر الأمني».

ماذا حدث؟

في 13 مارس (آذار) الحالي، اجتمع في بغداد الوزير التركي هاكان فيدان مع نظيره العراقي فؤاد حسين، ومعهما مسؤولون أمنيون من بينهم فالح الفياض، ورئيس جهاز الأمن الوطني قاسم الأعرجي.

بعد الاجتماع، ذكر بيان حكومي أن «العراق يعد وجود (حزب العمال الكردستاني) على أراضيه خرقاً للدستور». واحتفت تركيا بهذا الاعتراف، وتحدثت دوائرها الأمنية عن «منطقة عازلة» بعمق 40 كيلومتراً للقضاء على الحزب المحظور، من السليمانية (شمال) إلى سنجار، ومنها إلى الحدود مع سوريا.

مساء ذلك اليوم، لم يلتحق وزير الدفاع التركي يشار غولر بطائرة فيدان العائدة إلى أنقرة، وأمضى الليل على الحدود العراقية في مقر فرقة المشاة الثالثة التركية بولاية هكاري. ويومها أظهرت أنقرة إشارات عن امتلاكها خطة متكاملة.

ساعة صفر تركية

وفقاً لمصدرين في بغداد وأربيل، فإن أنقرة كانت تسمع، منذ سنوات، نقداً من مؤسسات عراقية بشأن «نفَسها الطويل في مقارعة (العمال الكردستاني)»، الذي لم يكن مُجدياً، وأسئلة عما يمنعها من «عملية عسكرية نهائية ليتخلص الجميع من هذا الصداع». ويبدو أنها اقتنعت أخيراً بفعل شيء حاسم.

قبل أن يصل هاكان إلى بغداد، أُخطرت بغداد بملامح الخطة التركية، وفيها قبول إيراني للوضع الجديد قدر تعلق الأمر بـ«حزب العمال الكردستاني»، كما تقول المصادر العراقية، لـ«الشرق الأوسط».

وحين بدأت المشاورات الرسمية، كان «كل شيء جاهزاً، بما في ذلك ساعة الصفر»، على ما قال مصدر عراقي مسؤول، الذي أضاف أن «الجديد في الخطة أنها غير مسبوقة بين البلدين، ودخل فيها (الحشد الشعبي) شريكاً للدعم في مناطق محددة».

ليس من المعروف، حتى الآن، لماذا وافقت إيران على التخلص من «حزب العمال الكردستاني» في العراق، وكيف سيجري ذلك، خصوصاً أن نشاط مسلّحيه يتداخل منذ 2016 مع الفصائل الموالية لإيران، على خط استراتيجي مهم لإيران يصل إلى دمشق وبيروت.

بيد أن المصادر العراقية تقول إن «الصفقة تشمل وساطة تركية مع الأميركيين على التهدئة مع طهران في العراق، ولضمان دور إيراني أكبر في التجارة الإقليمية بضمانة تركية، وكذلك مساعدة بغداد على تجاوز أزمات مركبة، بينها تصدير النفط، والوضع المختلّ في إقليم كردستان وكركوك، والانخراط أكثر في التنمية التجارية العابرة للحدود»، إنها «سلة واحدة لصفقات متعددة».

عنصران من «وحدات مقاومة سنجار» يضعان عبوة ناسفة على طريق يستخدمها مقاتلو «داعش» قرب قرية أم الذيبان (أرشيفية - رويترز)

تركيا في اليوم التالي لغزة

يلخص دبلوماسي عراقي الشق السياسي للصفقة بعد العمليات العسكرية، بأنه «تحضير شامل للمتغيرات المتوقعة بعد حرب غزة»، ويتطابق هذا مع ما قاله مستشار تركي أبلغ «الشرق الأوسط» بأن أنقرة أعدّت «ملفاً من بنود عدة عن غزة ودول المنطقة في اليوم التالي للحرب».

وأوضح المسؤول التركي، الذي طلب عدم نشر اسمه، أن وزارة «الخارجية وأجهزة أمنية تركية أعدت خطة قبل نحو 5 أشهر تتضمن خيارات أنقرة للتعامل مع تداعيات حرب غزة، وللتكيف مع المتغيرات المتوقعة فيما بعدها»، وأكد المسؤول أن العراق وسوريا «جزءان من هذه الصورة».

في هذا السياق، يقول أثيل النجيفي، وهو سياسي سني ومحافظ أسبق لنينوى (شمال)، لـ«الشرق الأوسط»، إن «جميع دول المنطقة تدرك أن معركة غزة لها ما بعدها، وأن هناك تغييرات في استراتيجية الدول العظمى بالمنطقة».

تستوجب هذه التغييرات، وفقاً للنجيفي، خطوات استباقية، «إما استعداداً لدور أكبر في المستقبل القريب، أو لمنع أي مخططات يمكن أن تؤثر على الأمن القومي لهذه الدول». ويرى أن «تركيا أكثر من يضع حسابات استراتيجية لتطوير مصالحها».

ومع ذلك ينفي مصدر دبلوماسي تركي أن تكون «العمليات العسكرية التركية في العراق على صلة مباشرة بالوضع في غزة»، وقال إنها قد تنطلق في يونيو (حزيران) المقبل.

من المفترض أن يزور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بغداد بعد شهر رمضان، في نهاية أبريل (نيسان)، وسيوقّع مذكرة الاتفاق التي تشمل مركز عمليات مشتركاً ومنطقة عازلة، وحين يعود «ستكون ساعة الصفر قد أزفت»، على ما تقول مصادر تركية.

يقول سياسي عراقي، من تحالف «الإطار التنسيقي»، إن أنقرة تريد تحويل مناطق نفوذ «العمال الكردستاني» إلى «منطقة شراكة آمنة» مع العراق وإيران، وأن الأتراك «أظهروا حرصاً واضحاً على أن يصل اللاعبون الإقليميون المعنيون بهذا الملف إلى اليوم التالي لحرب غزة، بصفر توتر».

قد يفسر هذا لماذا ترمي تركيا، الآن، بهذا الثقل في العراق. يعتقد النجيفي أن «تركيا بحاجة إلى منع تدحرج كرة النار نحوها، وسط وضع ملتهب وغير واضح في المنطقة»، لهذا تحث العراق وسوريا على «إجراءات مباشرة وقوية قبل أن يتحول (حزب العمال الكردستاني) إلى أزمة أكبر».

تنسجم هذه المعطيات مع حديث مصادر عراقية عن منح طهران مباركة للأتراك في العراق. ويقول سياسي عراقي إن بغداد ترجمت ذلك بحضور لافت لـ«الحشد الشعبي» في المشاورات الرسمية بين البلدين، لكن الجزء المتعلق به من الخطة «لا يزال محل نقاش»، لا سيما سيناريو مواجهة مسلّحة ضد «العمال الكردستاني» في سنجار.

تفترض الخطة التركية عملية عسكرية واسعة في مناطق جبلية بإقليم كردستان، بينما توفر بغداد الدعم الاستخباري والخرائط والمعلومات ومراقبة الحدود خلال العملية.

لكن السليمانية وسنجار، الواقعتين على طرفي المنطقة التركية العازلة، تتداخلان مع النفوذ الإيراني، وتحتاجان من أنقرة إلى ترتيبات سياسية وأمنية مختلفة.

يقول مصدر كردي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الأتراك يحاولون تحييد (العمال الكردستاني) في السليمانية، من خلال صياغة علاقة جديدة مع بافل طالباني زعيم (الاتحاد الوطني الكردستاني)، واكتشاف فرص الشراكة معه، بما في ذلك تسوية الاختلال مع (الحزب الديمقراطي) في أربيل».

ومن الصعب على قيادات «الاتحاد الوطني الكردستاني»، ومن بينهم بافل طالباني، أن يضعوا أنفسهم طرفاً في مواجهة اتفاقات دول محورية بالمنطقة، كما يقول أثيل النجيفي الذي يرى أن الاتفاق يتضمن، بلا شك، مباركة إيرانية وموافقة عراقية وتركية، وكذلك السلطة الرسمية في إقليم كردستان.

العُقدة في سنجار

من الممكن أن تنجح التسوية مع طرف كردي معارض لأنقرة، بتفاهم إيراني، لكن المشهد في سنجار أكثر تعقيداً، والذي سيتولاه «الحشد الشعبي» في إطار الاتفاق التركي.

يقول أثيل النجيفي، لـ«الشرق الأوسط»، إن تأثير الفصائل الشيعية يقتصر على سنجار، ولا يتعداها إلى بقية المناطق؛ لأن ميدان العمليات العسكرية البرية في المرحلة الأولى على الأقل سيكون بعيداً عن سنجار، في داخل كردستان؛ حيث تتوقع تركيا تعاوناً أكبر من سلطات الإقليم مع المباركة الرسمية للحكومة الاتحادية.

في هذه البلدة الحدودية مع تركيا وسوريا، والتي تسكنها غالبية من الديانة الإيزيدية، تتمركز فصائل مسلّحة عدة، «حتى الجيش العراقي هناك يتصرف كأنه واحد منها»، على ما يقول مسؤول محلي بالبلدة.

ويصف هذا المسؤول سنجار بأنها «تشبه بيروت أيام الحرب الأهلية... خطوط التماس متقاربة، والبنادق جاهزة بين مجموعات مسلّحة تمثل مصالح إقليمية ومحلية متحفزة دائماً للقتال».

ومنذ سنوات، تصاعد تحالف معلن بين «الحشد الشعبي» و«حزب العمال الكردستاني»، ونشأت بينهما «أخوّة دم» منذ أيام المعارك ضد «داعش»، على حد تعبير قيادي في فصيل شيعي.

جنود عراقيون يقفون على شاحنة بقاعدة في سنجار يوم 3 مايو (أيار) 2022 بعد هجوم للجيش العراقي ضدّ «وحدات مقاومة سنجار» التي تحظرها تركيا (أ.ب)

الفصل بين «أخوّة الدم»

من الصعب معرفة كيف يمكن لـ«الحشد الشعبي» تحييد مسلحي «حزب العمال»، بعد شراكة ميدانية تراكمت آثارها، خلال السنوات القليلة الماضية.

تتباين المعلومات بشأن طبيعة هذا التحالف. يقول قياديان في فصيلين شيعيين، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك تخادماً بين الطرفين؛ (الحشد الشعبي) يقدم مواقع آمنة لقيادات في (حزب العمال) داخل سنجار وتلكيف وسهل نينوى ومركز الموصل، مقابل حصوله على خدمات لوجيستية وعسكرية من الحزب المحظور».

ومع ذلك تفيد 3 مصادر ميدانية؛ أحدها قيادي في فصيل متنفذ ببغداد، بأن «الأمر يتعدى ذلك بكثير؛ لأن قرار التحالف بين (الحشد) و(العمال الكردستاني) قرار إيراني».

وقالت المصادر: «(العمال الكردستاني) قوي جداً... جميع الأجهزة الأمنية العراقية لا تملك تصوراً دقيقاً عن قوة الحزب وأسلحته (...) حتى إن الجيش العراقي فشل في آخر مواجهتين ضد مسلّحيه في سنجار، خلال ولاية رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي».

وزعمت المصادر أن مسلّحي الحزب أنشأوا، خلال السنوات الماضية، شبكة أنفاق معقدة في سنجار، لا سيما في المناطق الجبلية. وقال صحافيون محليون لـ«الشرق الأوسط»، إنهم «تمكنوا من رصد شاحنات تنقل عمال حفر من ساحات البلدة إلى مواقع حفر الأنفاق».

وسألت «الشرق الأوسط» مسؤولين محليين في سنجار وعناصر في جماعات شيعية مسلّحة عن تلك الأنفاق، لكنهم امتنعوا عن الإجابة.

«قوة خبيرة»

ووصف سياسي بارز في محافظة نينوى (شمال)، «حزب العمال الكردستاني» بأنه «قوة خبيرة في الانتشار والتموضع وإحكام السيطرة». وعلى هذا يصعب التكهن كيف يمكن لـ«الحشد الشعبي» التخلص من هذا الحزب أو يساعد تركيا على تحييدهم.

يعتقد قائمقام سنجار السابق، محما خليل، أن الحل يكمن في «طرد جميع المسلّحين الغرباء دون استثناء، وتسليم السلطة الأمنية لأهالي سنجار»، مذكّراً باتفاق التطبيع الخاص بالمدينة الموقَّع قبل نحو عامين.

حقائق

اتفاق التطبيع في سنجار 2020

  • تتولى الشرطة المحلية والأمن الوطني والمخابرات حصراً مسؤولية الأمن.
  • إبعاد جميع التشكيلات المسلحة خارج حدود القضاء.
  • تعيين 2500 عنصر ضمن قوى الأمن الداخلي في سنجار.
  • إنهاء وجود «حزب العمال الكردستاني» من سنجار والمناطق المحيطة.
  • لجنة مشتركة من حكومتي بغداد وأربيل لإعادة الإعمار.

لكن المشكلة تكمن في انخراط عدد كبير من السكان المحليين في فصائل مسلّحة يعدها خليل «غريبة عن سنجار»؛ إذ تقول المصادر الميدانية إن نحو 70 في المائة من عناصر المجموعات الحليفة لـ«العمال الكردستاني» هم من أبناء سنجار، وتنطبق الحال على الفصائل الشيعية.

يقول النجيفي إن وجود «العمال الكردستاني» سيتحول إلى مشكلة عراقية تؤثر على الوضع المحلي، وسيحتاج العراق إلى مساعدة تركيا لمجابهة هذه «الأزمة الداخلية».

في النهاية سيدرك «حزب العمال» أنه ليس «أكثر من أداة مناكفة وورقة تفاوض»، وإنه «عند انتهاء دوره سيتعاون الجميع للقضاء عليه»، على ما يقول النجيفي.

في أربيل، تعتقد أوساط «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن «الاتفاق مع (الحشد الشعبي) هو لإلقاء الحجة عليه». ويقول قيادي كردي على صلة بالملف الأمني في سنجار: «أشعر بأن تركيا تحتاج إلى تبرير عملية عسكرية في سنجار، حين يفشل (الحشد) في تحييد الحزب المحظور (...) سيقولون: تركنا لكم مواجهة أكبر خطر يهدد البلدين ولم تنجحوا».

يشكك أثيل النجيفي في التزام فصائل شيعية باتفاق الحكومة العراقية مع تركيا بشأن الحزب المحظور: «ومع أن صيغة الاجتماعات بين الطرفين تُظهر أن الجهات الرسمية كانت وسيطاً مع الجهات الفاعلة في سنجار، لكن السؤال الآن: هل ستلتزم الفصائل بتوجيهات الدولة؟».

عازل تركي وشريط إيراني

ثمة سؤال آخر: كيف سيتولى «الحشد الشعبي» تحييد مسلّحي «العمال الكردستاني»؟

في مقابلة تلفزيونية مع رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، قال إنه «من الضروري مواجهة مسلحي (العمال الكردستاني) ما داموا يتسببون بإيذاء السكان في سنجار»، لكنه «لا يعرف بالضبط كيف سيجري التعاون مع تركيا ضد هذا الحزب»، ويقصد الإجراءات الأمنية، وفيما إذا كانت من خلال طرد المسلحين، أو تطويق مواقعهم.

ويشير سياسي شيعي، طلب عدم نشر اسمه، إلى أن «الضوء الإيراني الأخضر ليس حاسماً (...) طهران أمام صفقة جيدة مع تركيا، لكنها لن تمنحها صكاً على بياض، ولن تغامر بنفوذها المسلّح في العراق». وتابع: «إيران تراقب، وقد يتغير كل شيء وفقاً للتطورات، وما نعرفه الآن تسوية محدودة في سنجار».

وخلال الساعات الماضية، سجلت مصادر محلية في سنجار «حركة نزوح نسبية من سنجار إلى الحدود السورية»، وترجح المصادر أن «قيادات متنفذة في (حزب العمال الكردستاني) هي من بدأت تغادر مع عائلاتها، فور إبلاغهم بتطورات ميدانية وشيكة».

بالتزامن، كشفت مصادر، لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الحشد الشعبي» سينشر العناصر المحلية لـ«العمال الكردستاني» بين الفصائل الشيعية، وسيكون هذا، من وجهة نظر قيادات شيعية، «الحل الأمثل للتخلص ظاهرياً من الحزب المحظور»، ويضمن أيضاً «سيطرة كاملة على سنجار، على حساب قوات كردية موالية لـ(الحزب الديمقراطي الكردستاني)».

ماذا يعني هذا حتى الآن؟ سيستثمر «الحشد الشعبي» الاتفاق التركي لتقوية نفوذه في منطقة استراتيجية للعراق وإيران وتركيا، وأن العملية العسكرية ستنتهي فرضياً بطرد مسلّحي «العمال الكردستاني» من جبال إقليم كردستان، لكنها ستدمج، في النهاية، المنطقة العازلة التركية بالشريط الإيراني الذي تتمركز فيه الفصائل الإيرانية، غرباً إلى سوريا، في نموذج مغاير للشراكات المعقدة بين الأتراك والإيرانيين، كما يصف مستشارون سياسيون ودبلوماسيون في بغداد، إلا إذا أخرجت طهران «ورقة غير متوقعة في لحظة حاسمة».


يافعون ينتظرون مصيرهم في مركز تأهيل «أشبال الخلافة»

TT

يافعون ينتظرون مصيرهم في مركز تأهيل «أشبال الخلافة»

مهجع الشبان في مركز هوري وبدا اثنان يلعبان الشطرنج (الشرق الأوسط)
مهجع الشبان في مركز هوري وبدا اثنان يلعبان الشطرنج (الشرق الأوسط)

لطالما تباهى تنظيم «داعش» الإرهابي بمقاتليه الصغار أو من كان يسميهم بـ«أشبال الخلافة»، خلال سنوات حكمه. وهؤلاء هم ضحاياه المنسيون الذين شهدوا طفولة قاسية تعرضوا خلالها للحروب ومشاهد عنف وإعدامات و«غسيل أدمغة» للتنشئة على الفكر المتشدد. ولاحقاً تخلى آباؤهم عنهم ثم رفضتهم حكومات بلادهم خشيةً أن يتحولوا خطراً عليها.

عاش هؤلاء الأطفال وقد تجاوز بعضهم اليوم سن الرشد، في مخيمات أنشئت خصيصاً لهم، فيما زجّ آخرون في السجون. قلة ممن حالفهم الحظ نقلوا إلى مراكز إعادة تأهيل ودمج وينتظرون اليوم مصيرهم.

داخل غرفة مسبقة الصنع في مركز متخصص لإعادة تأهيل أبناء عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي، شمال شرقي سوريا، ترقص مجموعة من الفتيان بأجساد متمايلة وحركات منتظمة تجمع مهارات الرقص والغناء بمجموعة أنشطة أخرى، ضمن برنامج متكامل لإعادة تأهيلهم ودمجهم في «مركز هوري لحماية وتعليم الأطفال» الذي تم افتتاحه في 2017.

أكثر من 100 طفل أجنبي بالمركز

يقع المركز في قرية تل معروف، شرق مدينة القامشلي، وهو مخصص للأطفال الأجانب، هو الثاني من نوعه في مناطق «الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرقي» سوريا.

يروي إرنست (17 عاماً) المتحدر من مدينة فرانكفورت الألمانية، كيف يواظب يومياً على حصة الموسيقى ويستمع إلى الأغاني الغربية المفضلة لديه، إلى جانب تعلم مهارات الرقص والرشاقة البدنية، لأنها تدخل الراحة والطمأنينة إلى نفسه. يروي هذا الشاب ذو العينين الخضراوين قصة مقتل والده الذي كان عنصراً في صفوف «داعش» بمدينة الرقة السورية، بينما تعيش والدته وشقيقتاه في مخيم الهول.

وقال بمفردات عربية ركيكة: «تعطيني التمارين طاقة إيجابية، هنا أفضل من مناطق (داعش) حيث عشت لسنوات، لكنني أفضّل مخيم الهول لوجود والدتي وإخوتي هناك».

يشرف على هذه الحصة مدرس موسيقى من أكراد سوريا، يدعى فرمان (32 عاماً) يحرص على الاهتمام بهؤلاء الشبان عبر تعليمهم مهارات الرقص، في إطار مجموعة طرق وأدوات نفسية للعلاج من المشاهد والصور القاسية التي خلفها «داعش» في أفكارهم. وأشار فرمان في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «تفاعل هؤلاء الشباب إيجابي لأنه يضخّ الحماسة ويمنحهم الطاقة الإيجابية فالموسيقى والرقص يساعدان على الاندماج سريعاً في المجتمعات والتعافي من قساوة حكم (داعش)، وتدخل بالجوانب النفسية وتحرك المشاعر لديهم».

يضم المركز أكثر من 100 طفل من جنسيات عدة، بينها الأميركية والتركية والألمانية والمصرية والروسية وشبان يتحدرون من دول المغرب العربي؛ تونس والمغرب، ومن إندونيسيا والسويد وفنلندا، تتراوح أعمارهم بين 11 و22 عاماً، نُقلوا من مخيمي «الهول وروج» ومن السجون والمحتجزات.

يقول مدير مركز «هوري للأحداث» هفال أحمد لـ«الشرق الأوسط»: «لدينا اليوم بين 110 و150 يافعاً تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً»، موضحاً أن غالبية هؤلاء الأطفال كانوا ينتمون سابقاً إلى ما كان يعرف بـ«أشبال الخلافة». وأضاف: «تعيش أمهات بعضهم في المخيمات، بينما قتل الآباء أو يقبعون في السجون، ومنهم يتامى من دون أولياء أمور».

وتتنوع دروس المركز بين اللغتين العربية والإنجليزية والموسيقى والرياضيات والرسم، كما يتعلمون فنون الخياطة والطبخ، ويعمل القائمون على المركز على تدريب الأطفال على لعبة الشطرنج ويشاهدون أفلاماً وثائقية ورسوماً متحركة في غرفة مخصصة. وقال أحمد: «المجموعة تضم 15 يافعاً، منهم من يذهب لحصة الموسيقى أو للورشات المهنية، وآخرون يتعلمون اللغة»، وينطبق هذا النظام على تناول وجبات الطعام وهي 3 وجبات، وتحديد وقت محدد لكل فئة للدخول إلى المطعم.

قاعة الدراسة خلال امتحان للغة العربية في مركز هوري (الشرق الأوسط)

ويتألف المبنى من طابق واحد، تتوسطه ساحة كبيرة للفسحة الصباحية، ويضم مجموعة من غرف النوم حيث لكل مقيم سرير، بينما خزانة الملابس مشتركة. ويخضع الفتية لبرنامج يومي مكثف، فتفتح الأبواب من الساعة 6 صباحاً حتى 8 مساء، وينتقلون بعد وجبة الإفطار إلى قاعات الدراسة وورشات الأعمال اليدوية، كما يمارسون خلالها الرياضة، وخصوصاً كرة اليد، ويُحضرون طعامهم بيدهم.

المطبخ وصالة الطعام حيث يساعد الشبان في إعداد وجباتهم في مركز هوري للتأهيل (الشرق الأوسط)

فنلندي يحب الرسم

في غرفة ثانية مخصصة لتعلم الخياطة، انهمكت مجموعة من الشبان بالماكينات لحياكة قمصان رجالية وفساتين مسحوبة تصاميمها من الإنترنت. وحرصت المدربة على متابعة جميع المتدربين، فتوصي أحدهم كيف يخرز الخيط بالإبرة وكيفية تشغيل الماكينة وتمرير قطعة القماش المقصوصة، بينما يأتي شاب آخر، ويسألها عن كيفية صناعة أكمام القميص، فيما علق ثالث فستاناً بلون زاهٍ في مكان مخصص للمعروضات.

مشغل الخياطة في مركز هوري للتأهيل (الشرق الأوسط)

أحد هؤلاء الشبان يدعى أرثر، وهو من العاصمة الفنلندية هلسنكي. كان هادئ الطبع وقليل الكلام، يلبس بيجامة وخفاً رياضياً من ماركة عالمية. روى قصة مجيئه إلى سوريا بداية 2015 وكان عمره 13 عاماً. فبعدما انفصل والداه، تزوجت الأم من رجل من أصول مغاربية أقنعها بالسفر إلى مناطق سيطرة التنظيم والقتال في صفوفه، وبعد معركة الباغوز وسقوط خلافة التنظيم العسكرية شرق الفرات ربيع 2019، قتل الزوج ونقلت العائلة إلى مخيم الهول.

وقررت سلطات الإدارة الذاتية نقل أرثر إلى «مركز هوري» للتأهيل قبل بلوغه 18 عاماً، وزجّه في السجون، وقال: «عادت والدتي وإخوتي إلى مسقط رأسنا، وأنا أنتظر موافقة الحكومة لإعادتي أيضاً، هنا أقضي وقتاً في تعلم الرسم، وأطمح أن أصبح رساماً، أما أبي فلم يتصل بي منذ مجيئنا لسوريا».

مشغل الخياطة في مركز هوري وبدا يتابع تعليمات إحدى المرشدات (الشرق الأوسط)

وشدّد الإداري هفال أحمد على أن المركز ليس بسجن للأحداث، وقال: «هو عبارة عن مركز تأهيل أبوابه مفتوحة ويقدم برامج ترفيهية، بينها طاولة زهر والشطرنج ومشاهدة التلفاز وبرامج وثائقية». وعن مستوى الاستجابة، أوضح: «لدينا تقييمات دورية كتابية وشفوية لكل حالة، وليست بمهمة سهلة، إذ يواجه فريقنا التعليمي تحديات عدة، بينها تعدد الجنسيات واللغات التي يتحدث بها هؤلاء اليافعون».

ويشرف على البرامج متخصصون تربويين ومعالجون نفسيون بالتعاون مع منظمة «إنقاذ الطفولة» الدولية.

زيارات عائلية بين المخيمات

يسمح لهؤلاء الأحداث بالاتصال مرة أسبوعياً بذويهم القاطنين في المخيمات، كما يسمح لذويهم بزيارتهم، وتتكفل سلطات الإدارة الذاتية بنقلهم من المخيم للمركز. ويقول أحمد: «لدينا شبان بعمر الـ20 و22 ولكن قررنا إبقاءهم ريثما يتم ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية لأن المحاكم المحلية لا تنظر بدعاوى الأجانب».

وتحدث باسيم (18 عاماً)، وهو تونسي، كيف تم تنسيبه إلى «أشبال الخلافة» بداية قدوم عائلته لسوريا منتصف 2015 وكان عمره 9 سنوات. وقال: «اعتقدنا أننا سنتابع تعليمنا نظراً لوجود أطفال من بلدي».

أما السويدي ماتيو (17 عاماً) الذي كان راقداً في سريره بعدما أجريت له عملية دوالي فقد أصبح يتيماً بعد مقتل والديه في سوريا أواخر 2018. وقال: «اتصل جدي وأهل والدي الذين يعيشون في أوزبكستان لإعادتي، لكن أنا أريد العودة لبلدي السويد، هناك خالتي وأصدقائي وذكريات طفولتي».

ومنذ 2018، استعاد نحو 30 دولة غربية وعربية نحو 450 امرأة وألف طفل، وفق إحصاءات سلطات «الإدارة الذاتية».

قصة أخوين مصريّين

في هذا المركز يعيش أيضأً الأخوان المصريان عبد الرحمن وعبد الله. يروي عبد الرحمن، البالغ اليوم 21 عاماً، كيف انفصلت والدتهم عن والدهم وقررت هي السفر إلى سوريا بعدما أخبرتهم عن نيتها قضاء سياحة في تركيا.

وبالفعل سافرت الأم والابنان جواً من مطار القاهرة إلى ولاية أورفا الحدودية مع سوريا. وبعد قضاء ليلة واحدة في الفندق، اتجهوا نحو المناطق السورية ودخلوا سراً عبر منطقة سلوك التابعة لمحافظة الرقة، ولم يعلم الطفلان آنذاك أن والدتهما تريد الاستقرار في مناطق التنظيم.

يقول عبد الرحمن: «حاول أبي كثيراً منع أمي من الدخول لمناطق (داعش)، لكنها أصرت فقرر تطليقها».

أما عبد الله، الذي كان يبلغ 8 سنوات فقط، فلم يعلم أن مجرى حياته سيتغير كلياً بقرار من والدته، وأنه سيقضي 10 سنوات من عمره في مناطق «داعش» ومخيم الهول قبل فرزه إلى هذا المركز.

ويروي عبد الرحمن أن والدته «تزوجت من قيادي (داعشي) مصري. وبعد عامين ونصف عام قتل في قصف جوي في بلدة الشدادي، ثم انتقلت بهما إلى الرقة حيث قتلت هي أيضاً». بعدها عاش الأخوان في كنف عائلات مصرية التحقت بصفوف التنظيم حتى نهاية 2018، وحين استسلمت العائلة المصرية لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، ونقلت إلى مخيم الهول، افترق الأخوان.

وذكر عبد الله أنه وصلته رسالة من شقيقه، عن طريق منظمة «الصليب الأحمر» الدولية أثناء مكوثه في مخيم الهول، يوضح فيها مكان وجوده في «مركز هوري» وقدم طلباً لجمع شملهما. وقال: «أصعب لحظة بعمري كانت وفاة والدتي، وأكثر لحظة فرحت فيها عندما التقيت بأخي عبد الرحمن من جديد. لا نريد أن نفترق».

شاب من نيويورك

من مدينة نيويورك الأميركية، سافر الشاب سولاي (19 عاماً) برفقة والدته الأميركية وزوجها إلى سوريا نهاية 2014، معتقداً أنه ذاهب في رحلة سياحة إلى تركيا، ليدخلوا سراً سوريا، واستقروا بداية في مدينة حلب شمال البلاد، ثم في منبج والباب والرقة، وتنقلوا في معظم المدن السورية.

هذا الشاب أكد أن والده منفصل عن والدته، ويعيش حالياً في كندا ولم يكن يعلم بسفرهما إلى سوريا، بعدما انقطعت الاتصالات بينهما منذ سنوات. ثم حدثت مشكلات بين والدته وزوجها الثاني أيضاً بعد سفرهم إلى سوريا، وانفصلا بسبب أحكام التنظيم الجائرة وقساوة الحياة.

وقال سولاي بصوت منخفض بالكاد كان يسمع: «طوال سنوات لازمت والدتي المنزل وكنت أساعدها، كانت تخشى عليّ كثيراً وتخاف من افتضاح أمرنا وإجبارنا على القتال في صفوف أشبال الخلافة»، ونقل أنه كان يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم معروفاً: «كنت أحلم أن أصبح مثل النجم ميسي».

البهو الخارجي المؤدي إلى مختلف القاعات في معهد هوري (الشرق الأوسط)

وفصل سولاي عن والدته في 2019 حيث بقيت هي في مخيم الهول ونقل هو إلى هذا المركز، ويقول: «اليوم كل شيء مختلف، هنا ألعب وأسمع موسيقى وأشاهد التلفاز».

ولم يخفِ هذا الشاب حزنه، لأن حياته تغيرت رأساً على عقب بعد قرار والدته الالتحاق بمناطق التنظيم، وختم حديثه قائلاً: «حياتي توقفت وتدمرت جراء ذلك القرار».


نساء «الخلافة» في «الهول» و«روج»... مصائر مجهولة على مد البصر

TT

نساء «الخلافة» في «الهول» و«روج»... مصائر مجهولة على مد البصر

طفلة من خلف سياج شائك في مخيم الهول (الشرق الأوسط)
طفلة من خلف سياج شائك في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

على مدار سنوات، تحوَّل «مخيم الهول» إلى مدينة خيام حقيقية يعيش فيها ما يقرب من 43 ألف شخص، غالبيتهم نساء وأطفال. ويشكل اللاجئون العراقيون والنازحون السوريون أكثرية السكان، بينما تم تخصيص قسم للعائلات الأجنبية ويتحدر أفرادها من نحو 54 جنسية غربية وعربية.

ويقع «مخيم الهول» على بُعد نحو 45 كيلومتراً شرق محافظة الحسكة، في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، وازداد حجم سكانه من بضعة مئات، بداية إنشائه (2016)، إلى أكثر من 70 ألفاً، في سنوات سيطرة «داعش».

على بُعد 136 كيلومتراً من «الهول»، يقع «مخيم روج»، الذي يبدو للوهلة الأولى شبيهاً بسائر مخيمات النازحين واللاجئين، لكن هذه النظرة تختلف بعد الوصول إلى بوابته الرئيسية، حيث الأسوار عالية وكاميرات المراقبة ومئات الخيام المتراصة، التي تضم جهاديات وزوجات مسلحي التنظيم وبعض قادته.

وفي حين تستجدي بعض النساء سبلاً للخروج، لا يزال بعضهن متمسكاً بقناعات دفعتهن للالتحاق بمناطق التنظيم سابقاً حتى تحولت هذه المخيمات إلى محطة انتظار لا يعرف أحد فيها موعداً لرحلته.

«الشرق الأوسط» جالت على مخيمَي «الهول» و«روج»، وعادت بهذه اللقاءات والمشاهدات.

أحد الشوارع الرئيسية في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

في السوق التجارية لـ«مخيم الهول»، شرق سوريا، تتبضع نسوة عراقيات وسوريات حاجاتهن اليومية؛ خضراوات وفاكهة ومواد غذائية، كما لا بد من بعض مستحضرات التجميل. ومن تتسنَّى لها الفرصة قد تذهب لصيانة هاتفها الجوال، في حين تتعالى أصوات الباعة من وراء بسطاتهم الشعبية ومحالهم الصغيرة يروِّجون لبضاعتهم.

بعض الباعة يعرضون فساتين بلونٍ أحمر وهدايا عيد الحب وعطوراً، وكل ما كان محرَّماً خلال حكم «داعش».

وبحسب إحصاءات المفوضة السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، يعيش في «مخيم الهول» اليوم 43 ألفاً و477 فرداً. وتقدر مديرة المخيم جيهان حنان «عدد اللاجئين العراقيين بنحو 20 ألفاً، يأتي بعدهم النازحون السوريين، وهم 16 ألفاً، بينما القسم الخاص بالمهاجرات الأجانب يُقدَّر عددهم فيه بنحو 6500 شخصاً»، غالبيتهم نساء وأطفال.

التهديد والقتل متواصلان

تدير المخيم «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، وذراعها العسكرية، «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي شاركت في المعارك ضد التنظيم والقضاء على سيطرته العسكرية. ورغم الحملات الأمنية لكبح العنف، فإن التهديد والقتل متواصلان، كما شهد المخيم محاولات فرار جماعية أحبطها الأمن.

وكشفت مديرة المخيم تلقيها شكاوى من تهديدات في وضح النهار، وقالت: «رجال ملثمون يحملون الأسلحة يداهمون مراكز المنظمات ويسرقون مقتنياتها ويهددون حراسها».

واستعادت الحكومة العراقية 1400 عائلة من «مخيم الهول»، على 6 دفعات حتى نهاية 2023، لكن المشكلة أن غالبية الدول والحكومات ترفض استعادة رعاياها، رغم وجود حالات إنسانية.

نساء يعبرن الأزقة بين المنازل المسبقة الصنع في مخيم روج (الشرق الأوسط)

نساء يبحثن عن أزواجهن

«مضى على وجودي في المخيم 6 سنوات أو 7 أو حتى 10. حقيقةً لا أذكر... تعبنا من الانتظار»، بهذه الكلمات بدأت نوران حديثها الممزوج بالحسرة على السنوات التي قضتها في سوريا مرغَمة. هذه السيدة السبعينية عراقية تتحدر من بلدة القائم (غرب)، وكحال كثيرات من جيلها لم تعد تذكر تاريخ دخولها المخيم، بينما تعيش أيامها ولياليها دون اكتراث.

ودخلت هذه اللاجئة سوريا منتصف 2016 بعدما أزال التنظيم الحدود بين البلدين، وتعيش اليوم مع ابنتها الأرملة، وحفيدتها، وكان زوج الأخيرة قُتِل في المعارك شرق دير الزور. وعن رغبتها في العودة إلى العراق قالت: «إذا قالوا لي ارجعي، فسأرجع زحفاً، لأنني عشتُ المذلة والعوز».

وقالت رغد رسول، وهي لاجئة عراقية، إنها تعيش في مخيم الهول منذ 6 سنوات، وكانت غادرت مسقط رأسها صيف 2015، وتجهل مصير زوجها و4 من إخوتها المحتجزين لدى «قوات التحالف الدولي» و«قوات سوريا الديمقراطية»، منذ انتهاء معركة الباغوز قبل 5 سنوات. تقول: «زوجي وإخوتي ما أعرف عنهم شيئاً، أكبر أمنياتي أن أراهم وأسمع صوتهم مرة ثانية».

سيدات من أعمار مختلفة في مخيم روج (الشرق الأوسط)

جلست رغد بين حزم البقدونس وباقات البصل والنعناع تبيعها في السوق لإعالة أسرة من 5 أفراد، في حين بدت على وجهها تجاعيد عمرها الـ54. وقالت بلهجة عراقية: «أمان ماكو (لا يوجد أمان)، عيشة صعبة، غذائيات (ماكو)، السجناء ما ندري عنهم شيئاً، لكن أصعب شيء أن أطفالي يظلون دون مستقبل».

وتشكو غالبية اللاجئات العراقيات من عدم معرفة مصير أزواجهن أو أفراد الأسرة من الرجال المحتجَزين لدى قوات التحالف و«قسد». أزهار (32 عاماً) ترتدي السواد الذي لم يُظهر سوى عينين، وتحدثت بصوت منخفض خشية مَن يراقبها: «زوجي مفقود منذ 5 سنوات، لا أعرف إذا كان قد توفي أو لا يزال على قيد الحياة. من حقي معرفة مصيره، وأخاف كثيراً نقله للعراق ومحاكمته بتهمة (الانتماء إلى) التنظيم».

وتروي أزهار اللاجئة العراقية أنها تنقلت بين مدن سورية عدة؛ فكلما كان يُطرَد «داعش» من منطقة يقصدون أخرى، حتى انتهى بهم المطاف إلى الباغوز.

وبعد استسلام الرجال نُقِلت النساء والأطفال إلى «مخيم الهول». وقالت أزهار: «كل أهلي هنا، بينهم أبي وأمي و30 فرداً من الأسرة مع أولادي، أكبرهم عمره 18 سنة والثاني 10 سنوات».

سوريات يواجهنَ مشقة الحياة

بالإمكان مشاهدة كثير من جرحى الحرب في «الهول»، بينهم أطفال بُترت أطرافهم، ونساء على كراسيّ متحركة يدفعها أطفال، ورجال يمشون على عكازات. ورغم هذه الحالات الإنسانية القاسية، فإن هؤلاء يُصنفون بأنهم ناجون من «داعش»، ويعيشون اليوم في بيئة غير آمنة وسط الصحراء.

سيدة تبيع الحلويات لإعالة أسرتها في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

نحو 16 ألف نازح سوري في خيام وقطاعات مشتركة مع اللاجئين العراقيين يفصلهم سياج مسوّر وكاميرات مراقبة، يتحدر قسم قليل منهم من مناطق «الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرقي سوريا»، وآخرون جاءوا من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، إضافة إلى قسم يتحدر من مناطق العمليات التركية شمال وشمال غربي البلاد.

وتروي فاطمة (35 عاماً)، وهي متشحة بالسواد، أنها تتحدر من منطقة القرية التابعة لبلدة الميادين بريف دير الزور الخاضعة لسيطرة قوات النظام، وتفضِّل البقاء في المخيم على العودة بسبب غياب مصادر الدخل والوظائف واستمرار الحرب في مسقط رأسها.

تنقلت هذه السيدة وعائلتها بين مناطق عدة على مدار 10 أعوام، وتقول: «زوجي مصاب بالسرطان وفاقد الوعي، وأنا أعيل 5 أطفال. بعد الحرب بين النظام و(داعش) نزحنا إلى إدلب ثم إلى (مخيم المبروكة) برأس العين، وفي 2018 قصدنا (مخيم الهول)»، ولم تُخفِ خوفها من جرائم تنفذها خلايا موالية للتنظيم. وأكدت أنها تستدين أدوية زوجها من الصيدلية، وتبيع قسماً من سلَّتها الغذائية لسد الديون المتراكمة.

النازحة الأربعينية أماني تحدثت عما شاهدته من صور مرعبة حُفِرت في ذاكرتها؛ جثث معلقة دون رؤوس في ساحات عامة، وإعدامات ميدانية وغير ذلك، وهي اليوم تواجه عقبات كبيرة وتحديات يومية لا تنتهي. وتقول: «نعيش الخوف والقلق من المستقبل المجهول، بقاؤنا هنا ليس حلاً، كما أن عودتنا لمناطقنا تحدٍّ أكبر، تحيَّرت بنا هذه الدنيا».

بحسب القائمين على المخيم يوجد قسم كبير من النازحين لا يمتلكون وثائق وبطاقات شخصية، وهذه عقبة أخرى تقف عائقاً أمام عودتهم، فيما ذكرت مديرة المخيم، جيهان حنان، أن عودة السوريين إلى مناطقهم مرهونة بحل سياسي شامل وقرار أممي دولي، لافتة إلى أن معظم القاطنين بـ«الهول» يرفضون العودة: «لغياب حماية دولية تحفظ أمنهم وسلامتهم بعد العودة؛ فالإدارة الذاتية مع حق العودة الطوعية لأي نازح سوري كان أو لاجئ عراقي، لكن لن نضغط على أحد لإجباره على العودة».

150 جريمة قتل... وناجيات يتحدثن

في قسم منعزل بـ«مخيم الهول»، تقف مجموعة حراس من الأمن الداخلي «الأسايش» مدججين بالرشاشات والهراوات، يمنعون الدخول والخروج إلا بإذن خطي وموافقة من الإدارة قبل التجوُّل والتعرف على القاطنين. يُطلَق على هذا القسم «المنطقة الآمنة»، وتسكنه 25 عائلة سورية وعراقية من الناجين من انتقام خلايا «داعش».

لينا (23 سنة) نازحة سورية متحدرة من بلدة السفيرة جنوب شرقي حلب، تروي فصول مأساتها وتتحير؛ مِن أين تبدأ؟! مِن وضعها اليوم أم من زواجها القسري من مقاتل تونسي يكبرها بـ33 عاماً. تقول: «كان عمري 12 سنة فقط وعمر زوجي 45 سنة. والدتي توفيت وهي تضعني، وزوجة والدي ضغطت لتزوجني سريعاً».

تنقلت لينا مع عائلتها بين مناطق التنظيم حتى استقرت في الباغوز، حيث قُتِل زوجها، وقد أنجبت منه ابناً وابنة. وتقول: «مات طفلاي هنا بعد تدهور حالتهما الصحية. أعيش اليوم وحيدة في هذا المخيم، وأكبر أمنياتي ترحيلي لمكان آمن».

وخلال سنوات مكوثها بـ«مخيم الهول»، تعرضت لينا لتهديدات من قبل خلايا موالية لتنظيم «داعش»، بعد رفضها العمل معهم، وقالت: «هددوني 3 مرات، وفي الرابعة دخلوا خيمتي لقتلي، لكني استطعت الهرب وقصدت نقطة أمنية نقلتني إلى هذا المكان».

على مدار 4 سنوات شهد «مخيم الهول» أكثر من 150 جريمة قتل، وخلال عام 2023 وحده سُجِّلت 36 جريمة قتل. إحدى الناجيات ديما (28 سنة) المتحدرة من بلدة منبج شرق مدينة حلب عبَّرت كيف يتملكها الخوف عندما يحل المساء. وقالت: «حتى المنطقة الآمنة مكشوفة لكل المخيم، عندما يهبط الضباب أقول لنفسي: (وصلوا إليَّ وسيقتلونني)».

وديما متزوجة من ابن مدينتها الذي كان يعمل ممرضاً إدارياً في «داعش»، وبقي معهم حتى استسلم في معركة الباغوز، وهو في السجن منذ 6 سنوات، وقالت إن التنظيم طلب منها تنفيذ عمليات داخل المخيم لكنها رفضت، فتعرضت لمحاولة اغتيال دفعت إدارة المخيم لنقلها إلى المنطقة الآمنة.

حوالات مالية بحسب حجم الأسرة

في سوق «مخيم روج» قرب منطقة الحسكة السورية، انشغلت نساء بالتبضع وشراء الحاجيات وتسلُّم حوالات مالية مُرسَلة من الأهل. من بينهن فرنسية ترتدي نقاباً بلون أخضر وعباءة طويلة بنية، صرخت بنا بأعلى صوتها: «غير مسموح، غير مسموح تصويري، عليك إغلاق الكاميرا».

في هذه السوق الشعبية، اختلط ضجيج الأطفال بأصوات النساء اللواتي يتحدثنّ بجميع لغات العالم. أما اللغة المشتركة بين البائعة وزبائنها، فتكون العربية الفصحى بمفردات ركيكة.

نساء ينتظرن دورهن أمام أحد المراكز في مخيم روج (الشرق الأوسط)

تروي آسيا ربيع، وهي مغربية (25 عاماً) تتحدر من مدينة القنيطرة المطلة على الساحل الأطلسي، كيف دخلت سوريا عام 2015، وكان عمرها 18 عاماً فقط. أخبرتنا أنها تزوجت وهي قاصر ثم انفصلت عن زوجها الأول ولديها طفل منه بقي مع والده في مسقط رأسها، ثم سافر والدها إلى تركيا بذريعة العمل، فقررت الالتحاق به، لكنها، على زعمها، لم تدرك دخولها إلى سوريا، إلا عندما سمعت هدير الطائرات الحربية تحوم في سماء المنطقة، ورأت حراساً مسلحين يلبسون الزي التقليدي لعناصر تنظيم «داعش» وراياتهم العسكرية.

وقالت آسيا: «ادَّعى أبي أنه يعمل بمنطقة حدودية. وبعد وصولي دخلنا مباشرة للأراضي السورية وقصدنا مدينة الرقة دون معرفتي، بعد فترة زوَّجني من مغربي وأنجبت منه طفلين. أما والدي فقُتِل بالعام نفسه».

وآسيا من بين 580 مهاجرة مغربية التحقت بصفوف التنظيم في سوريا، ولديهنّ أكثر من 500 طفل يعيشون معهن.

طفلة عائدة من حصة دراسية في مخيم روج (الشرق الأوسط)

ويقع «مخيم روج» بريف بلدة المالكية أو ديريك بحسب تسميتها الكردية، تتبع محافظة الحسكة أقصى شمال شرقي سوريا، تقطنه نحو 828 امرأة من جنسيات عدة، ويضم نحو 2640 فرداً جلّهم من الأطفال، وهم عائلات مقاتلين كانوا في صفوف «داعش» يتحدرون من جنسيات غربية وعربية، بحسب مدير المخيم رشيد عمر.

وقال عمر لـ«الشرق الأوسط» إن المخيم «عبارة عن 4 قطاعات؛ قطاع قديم والقطاعان الأول والثاني وقطاع حديث خاص باللاجئين العراقيين»، وكشف هذا الإداري أن القوى الأمنية وخلال القصف التركي على المنطقة مطلع العام الحالي «أحبطت تحركات خلايا موالية لـ(داعش) شكلت 6 مجموعات، بينها مجموعتان من الأطفال أعمارهم 16 و17 عاماً، ومجموعات نسائية متطرفة». ويضيف: «وصلت إلينا تقارير أمنية عن حالات عصيان وشغب ومحاولات هروب، أُحبطت جميعها».

ومنعت إدارة المخيم النساء من ارتداء النقاب، ليظهرن دون نقاب؛ يرتدين غطاء رأس وملابس زاهية، وعن أسباب المنع يعزو الإداري الكردي القرار إلى أنه «بعدما خلعت بعض النسوة النقاب عمدت أخريات متشددات إلى الاعتداء عليهن، وحرقن خيامهن، وبعد مراجعة الكاميرات تبين أنهن منتقبات لا يظهر من وجوههن شيء، ولم نتمكن من التعرف على هوياتهن».

«نعيش في معسكر احتجاز»

طفلة من خلف سياج شائك في مخيم الهول (الشرق الأوسط)

على مد البصر، مئات الخيام المغطاة بعازل أزرق لحمياتها من الأمطار، وخزانات ضخمة حمراء اللون يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه وُضِعت فوق دورات الحمامات، وكان بالإمكان مشاهدة أطفال كثر وهم يلعبون في كل مكان، وأطباق (الستلايت) وحاويات بسعة 20 لتراً، وصحون بلاستيك لغسل الملابس قرب كل خيمة، كما نُشِر على حبال الغسل مزيج من الألوان الزاهية.

وقفت الإندونيسية شريفة فرح أديبة أمام خيمتها الملاصقة للأسلاك الشائكة، وهي عبارة عن خيمة صغيرة مقسمة لمكان خاص بالنوم وآخر للطعام والجلوس، ولديها 3 أطفال، أكبرهم فتاة عمرها 8 سنوات، والثاني بعمر 7، والثالث 6 سنوات.

تتحدر هذه السيدة من مدينة مكسَر عاصمة مقاطعة سولاوسي الجنوبية الإندونيسية، وهي إحدى كبرى مدن الجزيرة البحرية، وانتهى بها المطاف للمكوث في «مخيم روج»، تحت رحمة خيمة لا تقيها الحر أو البرد.

وعن قصتها تقول: «جئتُ إلى سوريا مع زوجي التونسي، بعدما قرر الالتحاق بصفوف (داعش). تنقلنا بين كثير من المدن، وكنا ننسحب مع التنظيم حتى ريف دير الزور»، وأكدت أن زوجها قُتِل في معركة الباغوز ونُقِلت هي وأطفالها «إلى (مخيم الهول) بداية، وبقينا هناك 4 سنوات، ثم نُقِلنا لـ(مخيم روج)، قبل عام ونصف العام».

وشبهت قاطنات المخيم هذا المكان بإناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة عن مصير الأزواج والأبناء الذين رحلوا إلى السجون. تقول إحداهنّ، وهي إيرانية تُدعى هايدي علي، وعمرها 30 عاماً، قضت منها نحو 7 سنوات في بلد مزقته نيران الحروب: «أريد معرفة مصير زوجي المسجون منذ 5 سنوات، حتى اليوم لا أعرف عنه شيئاً؛ ما إذا كان على قيد الحياة أو مات، أو نُقِل لبلد ثانٍ».

ولم يُكتَب لهايدي من اسمها نصيب، وهو يعني «الأميرة الصغيرة»، كانت تلبس نقاباً حين وصفت المخيم بـ«معسكر للاحتجاز»، وقالت بنبرة غاضبة: «هذه عقوبة كافية لا نستحقها. أخاف أن تمرض ابنتي الوحيدة وتموت»، ونقلت أن ابنتها تبلغ 5 أعوام وُلِدت بسوريا ولا توجد أوراق تثبت جنسيتها.

وتابعت كلامها وهي تنظر مِن حولها لتشير إلى حيث انتهى بها المطاف: «كل أهلي في إيران، وعندما يرسلون لي حوالات مالية أتصل بهم، يقولون لي إنهم طالبوا السفارة السورية في طهران بإعادتنا، لكن يتعذرون لوجودنا في منطقة خارج سيطرة القوات النظامية».

ومثل غالبية زوجاتِ مقاتلي «داعش» في «مخيم روج»، تتقاسم هايدي مشاعرَ القلق والندم والخيبة بعد الانضمام إلى التنظيم، فرغم المناشدات المتكررة لحكوماتهنّ إرجاعِهن إلى بلدانهن الأصلية، يتملكهن الخوف من نسيان أمرهن وقضاء بقية حياتهنّ في هذا المكان المغلق.

الخيام حيث تبات النساء وأطفالهن في مخيم روج (الشرق الأوسط)

ويخشى القائمون على المخيمات من نشأة جيل جديد من المتطرفين المسلحين، لأن معظم الأطفال لا يعرفون من الطفولة والحياة سوى الحروب والقتل والمعسكرات المغلقة، ووُلِد بعضهم بسوريا، واليوم عمره 10 سنوات أو أكثر، وشدَّد مدير «روج» رشيد عمر على أن المخيم يضم مساحة لتعليم الأطفال، غير أنهم يتلقون دروسهم من قبل أمهاتهم أيضاً.

وتخلَّت كثير من النساء اللواتي التحقن بالتنظيم عن بطاقاتهن الشخصية وجوزات السفر، فيما ترفض معظم الدول النظر في أمرهن، نظراً لولادة أطفال على أراضٍ خارج حدودها، ووجود أطفال من جنسيات متعددة، وليس لديها شهادات ميلاد معترَف بها من حكومة رسمية، مما يحول دون إثبات جنسياتهم والحصول على وثائق شخصية.


الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
TT

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)

يحل، الاثنين 11 مارس (آذار)، يوم «العلم السعودي» الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده يوماً خاصاً للعَلم من كل عام.

وكان الملك عبد العزيز أصدر في الحادي عشر في شهر مارس عام 1937، أمره بالموافقة على قرار مجلس الشورى، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

وبحلول هذا اليوم، يستذكر السعوديون رمز هويتهم الوطنية ودلالة الراية الخضراء، التي رفرفت طيلة قرون ثلاثة، حاملة المضامين والدلالات والخصوصية والتفرد نفسها.

الملك عبد العزيز يشارك بالعرضة النجدية وتظهر خلفه الراية السعودية عام 1935 (الشرق الأوسط)

واستحضرت «الشرق الأوسط» هذه المناسبة لإجراء حوار مع الباحث عدنان بن صالح الطريّف، الذي غاص عميقاً في تاريخ الوطن وإرثه الحضاري، وما قامت عليه الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. وكشف الطريّف ما يملكه من مجموعة نادرة من الأعلام تجاوزت المائة، أهمها العلم الأصلي للدولة السعودية الأولى، وأعلام تمتد على مراحل الدولة السعودية الثلاث، كلها أصلية ولم تتعرّض للبلى. كذلك نفض الغبار عن مقتنيات متاحفه الثلاث، وتحدث عن مناسبة يوم العلم ودلالته، راصداً تاريخ العلم السعودي منذ 300 عام وحتى اليوم، وخصّ «الشرق الأوسط»، بأعلام ووثائق وصور وخطابات تُنشر للمرة الأولى. وقد تتبع الطريّف مراحل تطوير الراية السعودية وتاريخها، وقام بإعداد كتاب ضخم عنها، رصدَ فيه كل ما له علاقة بالعلم أو شعار المملكة.

راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

ويتحدث الطريّف عن مراحل تطور العلم السعودي على مدى 3 قرون، فيقول إن الراية السعودية أو «العلم»، أو «البيرق» التي ترفرف خضراء منذ 3 قرون، مرّت بعديد من المراحل إلى أن استقرت على ما هي عليه في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ويقول إنه وفقاً للمصادر التاريخية كانت الراية «خضراء مشغولة من الخز والإبريسم، وقد كُتبت عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت معقودة على سارية بسيطة». وبقيت هكذا في عهود المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود، وابنه الإمام عبد العزيز بن محمد، وابنه الفاتح العظيم الإمام سعود بن عبد العزيز المعروف بـ«سعود الكبير»، وابنه الإمام عبد الله بن سعود.

الأمير سلطان والملك سلمان يؤديان العرضة النجدية عام 1965

ومع تصاعد الصراع البريطاني - الفرنسي، جاء دومنغو باديا ليبيلخ (رحالة ومستشرق إسباني تبيّن لاحقاً أنه جاسوس) فتظاهر بالإسلام وتخفّى تحت اسم «الحاج علي باي العباسي» ليعمل لحساب نامليار الثالث، وليسبر غور الدولة السعودية. فوصل إلى مكة المكرمة في شهر يناير (كانون الثاني) 1807، قادماً من المغرب مروراً بشمال أفريقيا، فأُتيحت له فرصة رؤية دخول جيش الإمام سعود إلى مكة المكرمة. وسجّل دومنغو أو «علي بك العباسي»، دخول 45 ألفاً من أتباع سعود، وهم في ثياب الإحرام، ليؤدوا المناسك، يتقدمهم عَلَم أخضر طُرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

في المقابل، ذكر الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت، واسمه بعد أن أعلن إسلامه «إبراهيم عبد الله» في ملاحظاته حول البدو التي دوّنها خلال رحلاته في الشرق في عام 1810 تقريباً، عندما تحدث عن الشؤون العسكرية للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسلطته الراسخة في الجزيرة العربية وغزواته، ذكر أن «لدى كل أمير راية خاصة، وأن سعود يمتلك عدداً من الرايات المختلفة».

الملك فهد والملك سلمان وبينهما العلم السعودي بمناسبة تولي الملك سعود مقاليد الحكم عام 1953 (أرشيف عدنان الطريف)

ويشار إلى أن أول راية سعودية رُفعت عام 1139هـ، أي 1727م، على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود، الذي استمر حكمه 40 سنة، وكان يعقد الراية لأحد أبنائه أو يتولاها هو بنفسه. وذكر ابن بشر في تاريخه، أن الإمام عبد العزيز بن محمد، الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى، وابنه الإمام سعود، كانا يبعثان برسلهما إلى رؤساء القبائل، ويحددان لهم يوماً ومكاناً معلومَين على ماء معين، وتتقدمهما الراية، فتنصب على ذلك المورد، فلا يتخلف أحد من رؤساء القبائل. ويقول ابن بشر أيضاً «إن الإمام سعود قد أُعطي السعادة في مغازيه فلم تهزم له راية» وحينما عرض ابن بشر لسيرة الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، قال: «كان إذا أراد الغزو يكتب إلى أمراء البلدان ورؤساء القبائل يحدد لهم الخروج في يوم معين وموقع معلوم، ثم يُخرج آلاته الحربية ومعدات الجيش وأعلاف الخيول قبل مسيره بـ15 يوماً، ثم يُخرج الراية فتُنصَب قريباً من باب القصر قبل خروجه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وكان الإمام تركي يأمر بحمل الراية، فحذا ابنه فيصل حذوه في نظام إخراج الراية وتقديمها أمامه أو نصبها أمام القصر».

المؤسس الثالث صاغ شكلاً جديداً للعلم

أصل العلم الذي ظهر بين الملك فهد والملك سلمان في الصورة السابقة (أرشيف عدنان الطريف)

وأما الملك عبد العزيز، فيقول الطريّف إنه استخدم في البداية العَلَم أو الراية نفسها المستخدَمة في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم وجّه بإدخال تغييرات عليها. وذكر أمين الريحاني في تاريخه أنّ «الراية التي حملها الملك عبد العزيز في أول عهده كان الجزء الذي يلي السارية منها أبيض اللون، وكان فيها جزء أخضر، وكانت مربعة الشكل تتوسطها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويعلوها سيفان متقاطعان»، ثم تَغيّر شكلها بعد ذلك فضمت سيفاً واحداً تحت الكلمات.

صورة من قرار مجلس الشورى رقم 354

وفي 1925 أمر الملك عبد العزيز بصياغة شكل عَلَم جديد. وفي 1937، صدر قرار مجلس الشورى بإقرار مقاس للعلم بطول 150 سنتيمتراً وعرض 100 سنتيمتر، ثمّ صدر في العام ذاته قرار مماثل بشأن العَلَم الوطني وتخصيص عَلم: الملك وولي العهد، والجيش، والطيران، والعَلَم الداخلي، والعَلَم البحري الملكي السعودي، والعَلَم البحري التجاري.

وعام 1952، صدر قرار مجلس الشورى بمقاسات أخرى للأعلام وتعديلاتها. وفي 1973، صدر قرار مجلس الوزراء بإقرار نظام العَلَم، وفي عهد الملك فهد ومع صدور النظام الأساسي للحكم عام 1991، حدد النظام طبيعة العَلَم: أن يكون لونه أخضر، وعرضه يساوي ثلثي طوله، وتتوسطه عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وتحتها السيف.

صورة من قرار الموافقة على نظام العلم السعودي في 1973

وحول ما يتداول مع كل مناسبة وطنية حول مَن قام بتصميم العلم السعودي بوضعه الحالي، يقول الطريّف: «هناك كثير من المعلومات المغلوطة المتداولة، لكن تصميم العلم السعودي متطور منذ أيام الدولة الأولى، ثم أعده مجلس الشورى بشكله الحالي وأقره الملك عبد العزيز في ذلك الحين».

ويتابع الطريّف شرحه أنه «أُشيع كثيراً، وتناقلت كثير من وسائل التواصل والإعلام أن علم إمارة نجد أو المملكة في بدايتها يحمل هلالاً بداخله، وهذه المعلومة غير صحيحة أيضاً، ولم يكن هناك أي ارتباط للهلال بأي علم من أعلام الدولة السعودية في أي فترة تاريخية».

دلالات العلم: العدل والقوة والنماء

جيش الملك عبد العزيز عام 1911 (الشرق الأوسط)

حول رمزية العلم ودلالته، يرى الطريف أن «العلم بشكله الحالي يشير إلى التوجيه والعدل والقوة والنماء والرخاء، حيث ترمز شهادة التوحيد التي تتوسطه إلى رسالة السلام والإسلام التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ويرمز السيف إلى القوة والألفة وعلو الحكمة والمكانة وإلى الأمن والأمان».

ويضيف: «أما اللون الأخضر، فيرمز إلى لون راية الإسلام كون اللون الخضر يرمز إلى السلام والعطاء والتسامح والماء، واللون الأبيض يرمز إلى النقاء الذي تتسم به المملكة العربية السعودية».

حاملو العلم عبر الزمن

حمل الراية في الدولة السعودية الأولى إبراهيم من طوق، وعبد الله أبو نهيه الذي قتل في أثناء حصار الدرعية عام 1818، وفي الدولة الثانية الحميدي بن سلمة، وصالح بن هديان، وإبراهيم الظفيري. أما مع الملك عبد العزيز، فأول مَن حمل الراية عبد اللطيف المعشوق في معركة استرداد الرياض عام 1902، وشارك فيما تلاها من المعارك، وقُتل في معركة البكيرية عام 1904، وحمل الراية بعده ابنه منصور المعشوق الذي قُتل في المعركة نفسها، ثم تسلم الراية عبد الرحمن بن مطرف وأبناؤه من بعده. وإلى هذا اليوم أوكل لبيت آل مطرف حمل الراية، علماً بأن هناك أفراداً وأسراً كثيرة تشرفت بحمل العلم السعودي في معارك وأماكن مختلفة.

خادم الحرمين الشريفين خلال العرضة وإلى يمينه الأمير تركي الفيصل وإلى يساره حامل الراية غالي بن مطرف

حالة خاصة

وحول مقولة اشتهر بها بأن «العلم السعودي حالة خاصة» أجاب الطريّف: «هو حالة خاصة؛ لأنه العلم الوحيد الذي لا يتم تنكيسه أو إنزاله إلى نصف السارية في حالة الحداد أو الكوارث والأحداث الكبيرة، كما أنه لا يستخدم في الرعاية والعلامات التجارية. كذلك تحظر ملامسته للأرض أو الماء، والدخول به لأماكن غير طاهرة، أو الجلوس عليه، كما أنه لا ينحني لكيان الضيوف عند استعراض حرس الشرف وفي حالة الحداد (المادة 16)، وهناك عقوبات حددها النظام لمخالفة نظام العلم».

خياطة العلم بين الداخل والخارج

وعن خياطة العلم السعودي والكتابة عليه، يشير الطريّف إلى أن المؤرخ الراحل عبد الرحمن الرويشد قال في كتابه عن الراية السعودية: «كان يوكل بهما لبعض الأفراد من أسر الرياض المعروفة، ومَن تولاه في العصر الحديث عبد الله بن محمد بن شاهين وسعد بن سعيد»، وكان بن سعيد يوكل عملية تجهيز متطلبات العلم ولم يقوموا بخياطته. وتشير بعض الوثائق إلى أن الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، كان يوكل للشيخ عبد الرحمن الطبيشي شراء وتأمين بعض متطلبات الراية، كما أنه في مرحلة متقدمة في عهد الملك عبد العزيز صُنع العلم في عدد من الدول بطريقة قماش على قماش في أميركا وباكستان وبعض الدول العربية.

الحسني أول مَن خطّ العلم

وعن أول مَن خطّ العلم في عهد الملك عبد العزيز، يقول الطريّف: «من خلال البحث في هذا الموضوع لفترة طويلة امتدت أكثر من 36 عاماً، وقفت على أن من أوائل مَن خطّ العلم السعودي، هو الشيخ عمر عاصم الحسني وهو من الجموم في وادي فاطمة بمكة المكرمة، والذي ارتحل للعمل مع أسرته في الكويت وعمل في المدرسة المباركية ثم مديراً لها، وهو مَن خطّ علم الكويت القديم، الذي كان يحمل كلمة (كويت)، كما خطّ لوحة المدرسة المباركية وكونه خطاطاً طُلب منه أن يخطّ العلم السعودي في عهد الملك عبد العزيز في عام 1911 تقريباً».

وعندما أمر الملك عبد العزيز بافتتاح مصنع الكسوة الخاص بالكعبة المشرفة في عام 1926، كان من أوائل العاملين فيه الخطاط عبد الرحيم أمين عبد الله بخاري، الذي أوكلت له مهمة خط كسوة الكعبة المشرفة، ووضع خطوط بابها، والمدوّن اسمه عليه حتى اليوم. وكان طُلب منه أيضاً خط العلم السعودي في ذلك التاريخ والزخارف الخاصة به، وكان بخط الثلث العربي.

علماً بأن أنواع الخطوط على كثير من الأعلام التي عُرضت في مناسبات شرفها الملك عبد العزيز كانت مختلفة عن خط الثلث الرسمي كونها أُنجزت لدى خطاطين غير عرب، أو لدى مصانع في الخارج.

خطاط كسوة الكعبة المشرفة عبد الرحيم أمين (من أرشيف عدنان الطريف)

100 علم في يد الطريّف

وتحدّث الطريّف عن الرصيد الكبير من الأعلام السعودية القديمة، فقال: «أحمد الله أن من أبرز مقتنياتي هي الأعلام السعودية، فأنا أملك أكثر من مائة علم قديم ونادر بمقاسات وأشكال وخامات مختلفة ولمراحل عمرية مختلفة، من أهمها أعلام الدولة السعودية الأولى والثانية، التي استُخدمت في مراحل نشر الوحدة والأمن لهذه البلاد المباركة». وأضاف: «عملت جاهداً على رصد أكبر عدد من الأعلام النادرة الخاصة بالملك عبد العزيز منذ دخوله مدينة الرياض، التي استخدمت خلال مناسبات أو فعاليات أو استقبالات حضرها جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، إضافة إلى عدد من الأعلام الخاصة بسيارة جلالته. كما أنني امتلك أعلاماً خاصة استُخدمت في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، وداخل مقره وعلماً خاصاً بسيارته، بالإضافة إلى أعلام استُخدمت في زيارة الملك فيصل لأميركا عام 1945 وأعلام قديمة في عهد الملك خالد والملك فهد في زيارات خارج المملكة».

الملك عبد العزيز خلال حفل أقامته شركة «أرامكو» تكريماً لجلالته وتظهر مجموعة من الأعلام السعودية خلفه في1947

وأكمل: «ومن الأعلام المهمة لدّي العلم الذي كان بين الملك فهد والملك سلمان بن عبد العزيز خلال الحفل الذي أُقيم لجلالة الملك سعود بمناسبة توليه مقاليد الحكم في عام 1953. فقمت برصد الصور الخاصة بهذه الأعلام وقمت بفحص هذه الأعلام لدى أكبر المراكز في العالم لمعرفة صحتها وتاريخها وأصالتها، كما تم توثيقها لدى عدد من المهتمين، وكذلك الذين أوكل لهم حمل العلم (آل مطرف)، إضافة إلى ما يوضع أعلى السارية (الطاسة)، حيث أملك أكثر من 10 قطع من فضة ونحاس ومعدن استُخدمت جميعها في عهد الملك عبد العزيز. ومن أبرز وأهم مقتنياتي المتعلقة بالعلم (الراية) وثيقة نادرة ووحيدة ممهورة بختم الملك عبد العزيز بعد دخوله مدينة الرياض بـ7 سنوات ذات علاقة بتفاصيل كثيرة عن العلم السعودي».

مقتنيات نادرة ومتاحف وإرث

يتحدث الطريّف عن محتويات متحفه النادرة فيقول: «خلال مسيرتي البحثية استطعت، ولله الحمد، أن أكوّن متحفاً خاصاً بالإبل وآخر للخيل، وثالثاً للصقور، وهذه المتاحف تشتمل على قطع نادرة وقديمة أعمار بعضها تتجاوز 300 سنة، إضافة إلى الطوابع المتعلقة بكل فرع من كل دول العالم وكل ما كُتب عنها بالصحف الأجنبية والعربية منذ عام 1850 وجميعها أصول. وكذلك الصور المتعلقة بالإبل والخيل والصقور من مائة سنة وإلى الآن، كما أنني جمعت قطعاً متحفية من الأواني والأطباق والمباخر والدلال والساعات ولوحات السيارات الخاصة بمرحلة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد، واستخدمت من قبلهم، كذلك قمت بجمع أبرز وأهم الهواتف التي استُخدمت في القصور الملكية منذ عهد الملك المؤسس مروراً بملوك المملكة والعدد الكبير من القطع النادرة المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وملوكها».

ولدى الطريّف تفاصيل قصة رفض السعودية تنكيس العلم بعد وفاة ملك العراق فيصل الأول، وهو ما أثار غضب البريطانيين.

مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة

والحال أنه بعد تعيين الشيخ إبراهيم بن معمر وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق في 1923 بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وكان اصطفاؤه في هذا المنصب الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين أي بغداد، أظهر ثقة العاهل السعودي بكفاءته. والمعروف أن جاليات سعودية كبيرة كانت تقيم في العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، فكان من مهامه الأساسية العناية بالرعايا السعوديين، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقّعة حديثاً بين الدولتين، وتطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه.

وأشرف ابن معمر خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد الأمير «الملك» سعود عام 1926. وعن ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن الشبيلي: «يذكر له ـ في تلك الفترة ـ تفكيره في عدم تنكيس العلم السعودي على هامش الحداد العام على وفاة ملك العراق، فيصل الأول، عام 1923، وهو تقليد تبنته الحكومة السعودية بعد ذلك التاريخ احتراماً للفظ الشهادة التي يحملها العلم». وأدى احتجاج البريطانيين على ترويج ابن معمر لزعامة الملك عبد العزيز في الجزيرة العربية وعلى صلاته القوية مع رؤساء العشائر، إلى نقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.

انتقام من بريطانيا

وخصص إبراهيم الحسون في كتابه «خواطر وذكريات» (3 أجزاء 2003)، حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى أسلوب ابن معمر وخصاله، نظراً لكون الحسون عمل سكرتيراً خاصاً له في قائم مقامية جدة، فأورد في هذا الصدد حادثاً يؤكد موقفه الحازم من عدم مخالفة أوامر الدولة من أي كائن حتى لو صدرت من سفراء أو سفارات. فقد أصدر ابن معمر عندما كان يعمل «قائمقام جدة»، أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب بعض المنازل في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء خلال مدة لا تزيد على أسبوعين، وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر وأصبح منظرها جميلاً يرتاح إليه النظر إلا منزلاً واحداً ظل على حاله ولم يتغير فيه شيء، وهو المنزل الذي يشغله مقر السفارة البريطانية. هنا استدعى ابن معمر رئيس البلدية علي سلامة مرة أخرى، وسأله عن عدم طلاء البيت الذي تشغله السفارة البريطانية، وهل تم إبلاغهم بذلك، فأجاب بأنه أبلغ مالك المبنى وعندما بدأ في التنفيذ رفض المسؤولون بالسفارة السماح للعمال بالعمل. وعند الاتصال بالمسؤولين في السفارة، أوضحوا أن امتناعهم، هو إنفاذ لأمر السفير البريطاني الذي قال إن المبنى يعدّ أرضاً بريطانية، وإنه لا يسمح بتلقي أي أمر بشأنه ما دامت السفارة تشغله. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام، انتفض صارخاً في وجه رئيس البلدية، طالباً منه أن يذهب في الحال ويبلغ المسؤولين في السفارة بضرورة تنفيذ الأمر؛ لأن الحكومة السعودية دولة مستقلة، ولا تسمح لأي إنسان بأن يخالف أوامرها داخل بلادها، وأنّ على رئيس البلدية إمهالهم 3 أيام لكي ينفذوا الأمر، وإلا فإن القائمقام سيأمر بتنفيذه بالقوة وليفعل السفير ما يشاء. خرج رئيس البلدية من المقابلة ساخطاً، لأنه سمع من ابن معمر ألفاظاً حادة، كلها لوم وتوبيخ. وفي اليوم الثالث لهذا الحدث، نصبت «السقالات» على مبنى السفارة وبدأ العمل بطلائه على الفور.


العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
TT

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

تفتح الأيام الوطنية نوافذ للمشتغلين بالتاريخ لإعمال أدواتهم في سبر تلك المناسبات، والتنقيب في أبعادها ورمزيتها، واستنطاق المصادر بحثاً وتدقيقاً لاستكشاف ما قد يكون مغيباً؛ لأن وعي أي أمة بحاضرها وإدراك مكانتها يتطلب معرفة عميقة بماضيها وأسسها وجذورها. وليس التاريخ السعودي هامشياً في الحضارتين العربية والإسلامية، بل هو متن صُلب كوَّنه الامتداد والعمق التاريخي فيها. من هنا تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة السعودية وعراقتها، ويجسد هويتها، ويمثل القيم والمبادئ التي قامت عليها؛ وإذ ذاك ندرك أهمية صدور أمر الملك سلمان بن عبد العزيز بتخصيص يوم للعلم في الحادي عشر من شهر مارس (آذار)، مشيراً في ديباجته إلى قيمة العلم الوطني عبر تاريخ الدولة السعودية منذ تأسيسها عام 1727.

رسم إيضاحي من موقع دارة الملك عبد العزيز

نتناول هنا الرمزية الدستورية للعلم من ناحية وصله وربطه بين مراحل الدولة السعودية، ودلالته على استمرارية الشرعية السياسة في فترات غياب الدولة أو ضعفها؛ فالعلاقة بين العلم والشرعية السياسية تحظى بأهمية كبيرة، وترتبط بشكل وثيق بالتطور الاجتماعي والسياسي؛ لذا فإن البحث في هذا الارتباط مهم لمعرفة تأثير العلم في الشرعية السياسية والعكس. يدل على ذلك حضور رمزية الدولة «العلم» مع «الحكام الشرعيين» بغض النظر عن مكانهم. ويفيد هنا تكرار ما أشار إليه المؤرخ عبد الرحمن الرويشد «أنه أثناء غياب البيت السعودي المالك فترة من الزمن تشبثوا بحمل تلك الراية حتى وهم غرباء وظاعنون تتقاذفهم الأوطان...». ويضيف: «كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية، ولا يتخلون عنها»، وأورد قصصاً عدة عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي. آر. بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون... كتب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وإذا كان مفهوم الشرعية متعدد الأبعاد والعناصر، ويرتكز على مبادئ ومعايير بعينها، فإن القاعدة الأساسية لنظرية العقد الاجتماعي تستند إلى أن «شرعية الدولة تقوم على أساس رضا المحكومين»، يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر: «يكون النظام الحاكم شرعياً عند الحد الذي يشعر فيه المواطنون بالرضا عنه»، ويتفق جان جاك روسو وجون لوك وغيرهما من فلاسفة علم الاجتماع على أن «رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم».

وقد يجادل البعض في أن السيطرة أو بسط سلطة النظام على الإقليم لم تتوافر لآل سعود بوصفهم حكاماً شرعيين في فترات من تاريخ الدولة السعودية الممتدة 3 قرون، وكانت هناك سلطة أمر واقع؛ فهل انتفت الشرعية حينئذ؟ لا أعتقد ذلك؛ لأن «السيطرة» لم تكتمل للقوى التي حاولت بسط نفوذها على الإقليم، ولم تستقر لها الأوضاع، كما كان دور آل سعود حاضراً، وشعبيتهم باقية، ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع. ولو تمعَّنَّا في مثالين من عصرنا الحالي حول تطبيقات مفهوم «الشرعية» لأدركنا المقصود، الأول: حالة الكويت أثناء الغزو العراقي، والثاني: الحالة اليمنية المستمرة منذ سنوات.

أما إذا حاولنا تطبيق معيار «الرضا الشعبي» على الحالة السعودية في سنوات ضعف أو غياب الدولة - لا الدول - في مرحلتيها «الأولى أو الثانية»، لوجدنا أن الأسرة الحاكمة، حتى وهي بعيدة، كانت حاضرة في وجدان الناس، وهو ما حدا بكثير من تجار نجد إلى إرسال زكاة أموالهم إلى الإمام عبد الرحمن في الكويت؛ لأنهم يرونه الحاكم الشرعي، فكان هذا الرضا الشعبي أحد أسس استمرار الدولة. ومن هنا، فإن النقطة التي أحاول إثباتها من خلال هذه القراءة تفيد بأن «الشرعية» لم تسقط خلال سنوات غياب آل سعود عن الحكم، ومن ثم فإن الدولة مستمرة، والدليل هو استعادة الحكم أكثر من مرة، واستمرار التفاف المجتمع حولهم، ورضاه بهم. ومن هنا علينا ألا نزن ما درج عليه المؤرخون من تقسيمات للدولة على اعتبار «سقوطها» بميزان أو معيار التاريخ فقط؛ بل لا بد من أخذ موازين السياسة والقانون... وغيرهما في الحسبان. وهنا أتوجه لمراكز التاريخ ودارسيه لإعادة النظر في تقسيم تاريخ الدولة السعودية كأنه تاريخ 3 دول يقوم على معيار «السقوط»، بينما هو في الحقيقة تاريخ دولة ممتدة، وإعادة قراءة هذا الموضوع ودراسته بشكل شمولي لجميع أبعاده وعناصره.

النقطة الأخرى هنا، المتعلقة بالعلم والذي حرص حكام الدولة السعودية طوال تاريخها على أن يبقى خفاقاً عالياً معبراً عن عقيدتهم ومبادئهم ورمزاً لدولتهم وشرعية حكامها الدستورية، أنه استمر - وفقاً للمصادر التاريخية - دون تغيير يذكر لنحو 180 عاماً أو أكثر، فما الذي دعا الملك عبد العزيز لإدخال تعديلات، بدأت بإضافة سيفين متقاطعين أعلى عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

تتطلب الإجابة عن هذا السؤال النظر إلى مراحل توحيد البلاد وسياقاتها التاريخية، وهذا يستحق بحثاً مستقلاً، لكن الإجابة المختصرة يمكن أن تدل على رؤية الملك عبد العزيز لبناء الدولة التي كانت تدور في ذهنه أثناء توحيده الأقاليم المختلفة. تلك الرؤية هي التي تفرد بها عمن سبقه من سلف، وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم. وكانت تحولات العلم أو الراية السعودية حاضرة مع مختلف مراحل التوحيد وتطورات البناء نظامياً ودستورياً ومؤسساتياً.

يقول الباحث والمؤرخ البريطاني روبرت ليسي: «إن النزعة اليوم هي ضد بناء التاريخ حول الأبطال؛ ولهذا فمن المفترض أن تفسر علوم الإنسان والاجتماع والاقتصاد، من الناحية النظرية، كيف تضافرت مشيخات ومدن وقبائل جزيرة العرب المتفاوتة لتشكل هذه الدولة الشاسعة والفريدة، ولكنها لا تفعل ذلك. إن الجواب المُرضي الوحيد يكمن في مهارات ورؤية الملك عبد العزيز نفسه الفذة. لقد كان مدفوعاً بشرف العائلة، وطموح إعادة بناء الإمبراطورية التي كانت خاضعة لسيطرة أجداده قبل ميلاده بقرن من الزمن. لقد تعلم من الدروس التي لحقت بالعائلة، وأقنعته ذكرى تدمير الدرعية بضرورة تجنب إثارة تدخل أجنبي في الجزيرة مرة ثانية».

كما كتب المؤرخ والصحافي اللبناني عمر أبو النصر في عام 1935 ما يلي: «إن ابن السعود يسعى لتحضير الجزيرة العربية لتكون نواة دولة عربية عظيمة»، وأضاف قائلاً: «إن ابن السعود يسعى اليوم لتوطيد مركزه في الجزيرة العربية، ويعمل لإعادة المجد العربي الغابر، وإن الثورات السياسية والاجتماعية التي يخلقها الأفراد، تحتاج لكي تصبح راسخة في النفوس قوية في القلوب إلى سنوات كثيرة، وإذا كان صاحب الفكرة قد طواه الردى، فيجب لنجاح الفكرة أن يكون بين أنصاره ومن هو مثله قوة وجرأة وذكاءً وإيماناً بالفكرة ليقوم مقام صاحبها».

ويتابع أبو النصر: «ونحن نرجو من الله - سبحانه وتعالى - أن يمد في عمر صاحب الجلالة ليتمكن من تحقيق ما نذره من خدمة العربية وخدمة الإسلام، وأن يرى بنفسه البناء الذي يعمل على إقامته وتوطيده وتثبيته قوياً شديداً عالياً، لا تؤثر فيه الأعاصير ولا تفعل فيه الزوابع». ومن هنا على قارئ التاريخ أن يدرك أن الملك عبد العزيز لم يكتفِ باسترداد مُلك آبائه وأجداده تحت راية التوحيد، وإنما فعل ما هو أعظم وأكثر استدامة، ألا وهو بناء الدولة بعد توحيدها على أسس دستورية، وتطوير مؤسساتها وأنظمتها وهياكلها، بل حتى رمزها حيث شمل التطوير شكل العَلم السعودي، وصدور عدد من الأنظمة المتعلقة به.

وكان تحدي بناء الدولة وإدارتها أحد أكبر التحديات التي واجهت الملك المؤسس، ناهيك عن استمراريتها وتطورها، وضبط أهم عناصر استقرارها ألا وهو نظامها الملكي؛ هذا النظام الفريد الذي وحَّد جزيرة العرب بعد قرون من الشتات، وصمد في وجه كثير من الأطماع والمؤامرات، واستطاع أن يتجاوز كثيراً من الأزمات والتحديات.

ويقول السياسي والحقوقي الدكتور منير العجلاني: «لنذكر أن آل سعود هم الذين أنشأوا الملك، وأنهم كانوا في أول الأمر العمال الذين بنوا البيوت بسواعدهم، وغرسوا الأشجار بأيديهم، والجنود الذين قاتلوا دفاعاً عن حوزتهم بسيوفهم، وبذلوا عرقهم ودمهم في سبيل إنشاء الملك الصغير في الدرعية، ثم وسعوا هذا الملك بجهدهم ودمهم أيضاً، واستعادوه 3 مرات بعد أن تآمر الأجانب عليه، ووطدوا الأمن بعد أن كان يتخطفه قطَّاع الطرق، ونصروا الدين، وأعلوا كلمته، ووحدوا البلاد بعد أن كانت متفرقة، وأعزوها بعد أن كانت ضعيفة».

لقد أعيا ذلك المنجز العظيم للملك عبد العزيز كل محاولات التدوين والتأريخ، فقد أسس عبد العزيز نهجاً دستورياً للمحافظة على النظام الملكي، صانه أبناؤه من بعده، وطوروا آلياته وأدواته، وصنعوا منه نموذجاً فريداً لأنظمة الحكم الملكية، ونسخة معاصرة للتراث السياسي العربي والإسلامي. لقد كانت أدوار أبنائه الملوك من بعده لا تقل أهمية وصعوبة مع الظروف والتطورات المحيطة بكل عهد عن دور عبد العزيز العظيم، وفي هذا يقول المفكر والسياسي السعودي الشيخ عبد العزيز التويجري: «هذا هو الملك عبد العزيز الذي استحق حبنا وعشقنا، ونال إعجاب الأبعدين قبل الأقربين، فلقد ملأ فراغاً واسعاً في شبه الجزيرة العربية، وحقق بذلك لنفسه وشعبه مكاناً في عالم المتغيرات، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن الأدوار التي تتابعت من بعده لا تقل أهميتها ولا صعوبتها، مع تبدلات العصر وتداخلاته، عن دوره التاريخي»، إلا أنه، في كل هذه العهود ومع كل التحولات والتطورات، بقي العلم السعودي يرفرف بشموخ على المملكة العربية السعودية مهبط الوحي، ومنبع الرسالة، ومهد حضارة العرب، رمزاً للدولة وشرعيتها الدستورية وسلطتها السياسية، حيث يمثل وحدة الأمة، وهوية الوطن، وسيادة الدولة؛ لذا ليس مقبولاً رفع أعلام تنازعه مكانته، ومتى وجدت كانت موجبة للمساءلة ومؤدية للعقوبة، وفقاً لما تنص عليه الأنظمة السعودية.

بقي أن أضيف أن أبناء عبد العزيز أثبتوا على مدى العقود الماضية متانة نظام حكمهم وصلابته في مواجهة الأزمات والتحديات، واليوم يعمل أحفاده للحفاظ على هذا الإرث العظيم، وتعزيزه وترسيخه، تأكيداً لمتانة نظام الحكم السعودي الذي يستمد أحكامه من مبادئ الشريعة الإسلامية، ويقوم على أساس العدل والشورى والمساواة وخدمة الشعب الذي يلتف خلف قيادته، ويقف صفاً واحداً تحت الراية السعودية مردداً:

موطني عشت فخر المسلمين

عاش الملك للعلم والوطن

إنها الخلطة السرية السعودية، وكفى.


بيروت وقد تحولت محطة لتدوير الشهادات العراقية المزوّرة

أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
TT

بيروت وقد تحولت محطة لتدوير الشهادات العراقية المزوّرة

أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)

صباح 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أوقف الأمن اللبناني مسؤولة بارزة في وزارة التربية للتحقيق في شبهات فساد بمعادلة شهادات طلبة عراقيين.

بعد نحو 20 يوماً، أُفرج عن أمل شعبان، رئيسة دائرة المعادلات في الوزارة، لتجد أمامها قرار إقالة موقعاً من وزير التربية عباس الحلبي، وخلافاً حاداً بين حزبها «تيار المستقبل» وحركة «أمل» المعنية بشكل غير مباشر بملف الشهادات، و«الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي ينتمي إليه الحلبي.

مظاهرة احتجاجية لأساتذة لبنانيين أمام وزارة التربية والتعليم (أ.ب)

تحدثت مصادر عراقية لـ«الشرق الأوسط»، أن إقالة شعبان جاءت «استجابة لضغوط داخلية مارستها أحزاب لبنانية، وضغوط أحزاب عراقية هدّدت مرات عدّة بوقف المساعدات التي تقدمها للوزارة والمدارس الرسمية».

توقيف شعبان ومن ثم الإفراج عنها، رفع الغطاء عن لغز الشهية العراقية المفتوحة منذ سنوات للدراسة في جامعات لبنانية، وبدأ جدلٌ، وأُطلقت تساؤلات عما إذا كانت شعبان «كبش فداء» لإغلاق ملف التخادم بين قوى متنفذة بين بغداد وبيروت. ملف فاحت رائحته منذ أكثر من عامين ولا يزال يتفاعل بين الحين والآخر. ذلك مع العلم أن الشبهات تنقسم إلى شقين؛ الأول يتعلق بتمرير شهادات ثانوية مزورة ومعادلتها في بيروت، والثاني منح شهادات جامعية وعليا من دون الحضور والدراسة، مقابل مبالغ مالية.

عُقدة التكنوقراط العراقية

بدأت القصة في العراق، حينما اكتشفت أحزاب شيعية تولت السلطة بعد 2003 أنها لا تمتلك طواقم إدارية في صفوفها، وأن غالبية المنتمين إليها «مناضلون في المعارضة لم يتسنَّ لهم الانخراط في الدراسة»، ولا يمكنهم تولي مناصب في مؤسسات حكومية، بحسب مسؤول سابق في وزارة التعليم العراقية.

وفي السنوات القليلة التي تلت إسقاط نظام صدام حسين، واجهت تلك الأحزاب جيشاً من الموظفين المتهمين بالولاء لنظام البعث. وبالفعل تمت إزاحتهم بالتزامن مع هجرة غير مسبوقة لموظفين من مدن الشمال والجنوب إلى بغداد، وبعض غير المؤهلين منهم تسنموا مناصب رفيعة يفترض أن مستواهم التعليمي لا يؤهلهم لها، لكن عولجت شهاداتهم لاحقاً بطرق مشبوهة.

بعد إزاحة موظفي «النظام السابق»، توزع موظفو أحزاب المعارضة على غالبية مفاصل الدولة، وحين بدأ التنافس بين الأحزاب الشيعية نفسها كانت الحاجة تلح على قادتها للحصول على شهادات، بأسرع وقت ممكن.

«كانوا بحاجة إلى تأهيل أحزابهم خلال وقت قياسي (...) ولا يمكنهم انتظار سنوات الدراسة القانونية (4 سنوات) لأن المناصب التي يريدونها كانت معروضة عليهم في نطاق أشهر معدودة»، يقول المسؤول السابق.

في العراق، كان من الصعب الحصول على شهادات «في غمضة عين» للموظفين العاديين الذين تريد أحزابهم ترقيتهم أو تسليمهم مناصب من الفئة الأولى كدرجة مدير عام، خلافاً للوزراء الذين يمكنهم التسجيل في أي جامعة عراقية والحصول على شهادة منها من دون أن تتطلب حضورهم.

وفي عام 2016، عثرت قوى شيعية أبرزها «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«عصائب أهل الحق»، بزعامة قيس الخزعلي، على فكرة «شهادة الخدمة السريعة» من جامعات لبنانية، لتبدأ رحلة «تفويج الطلبة العراقيين إلى بيروت» على نحو ممنهج وغير مسبوق.

غسيل الشهادات

في بيروت، تحاول أمل شعبان إظهار أن قرار إقالتها من منصبها في وزارة التربية غير قانوني، لكن من الصعب الجزم ببراءتها أو تورطها بهذا الملف المتراكم منذ سنوات.

وعلمت «الشرق الأوسط» أن فريق الدفاع عنها «أنجز مراجعة قانونية سيتقدّم بها إلى مجلس شورى الدولة، للطعن بقرار إقالتها من منصبها الحساس».

وأوضح مصدر مقرب من الفريق القانوني لأمل شعبان أن الأخيرة «لا ترغب بالعودة إلى وظيفتها، بل جلّ ما تريده إظهار أن قرار وزير التربية غير قانوني، وبعدها ستسارع إلى تقديم استقالتها من الوظيفة».

وتوقّع مصدر قانوني مواكب للتحقيقات أن «يكشف قرار ظني من قاضي التحقيق خفايا عشرات الشهادات العراقية المزورة التي عبرت وزارة التربية تحت تأثير الضغوط السياسية».

وأشار المصدر اللبناني لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الجهات الداخلية والخارجية التي تقف وراء هذه الشهادات معروفة الغايات والأهداف»، ولفت إلى أن القاضي بيرم «طلب من شعبة المعلومات في الأمن الداخلي تزويده بمستندات من التربية تبيّن الإجراءات المعتمدة في معادلة الشهادات، وتاريخ البدء بمعادلة الشهادات العراقية، ولماذا ارتفع الطلب عليها بهذا الشكل الكبير».

وبحسب المصدر، فإن التحقيقات لن تكتفي بما كان يجري في وزارة التربية، بل ستشمل عدداً من الجامعات التي انتسب إليها طلاب عراقيون قبل تعديل الشهادات الثانوية التي حصلوا عليها في بلادهم، وتبين أن عدداً كبيراً منها مزوّر.

وأوضح المصدر أن «جامعة قريبة من الثنائي الشيعي استقطبت أكبر عدد من الطلاب العراقيين، ومنحتهم شهادات في الدراسات العليا وفي الدكتوراه»، مستغرباً كيف أن هذه الجامعة «منحت في السنتين الأخيرتين شهادات عليا تفوق ما صدّرته كل الجامعات في لبنان، وهذا ما يثير الشكوك حولها».

ومعلوم أن غالبية العراقيين الذين تقدموا بطلب معادلة الشهادات والانتساب إلى جامعات لبنانية موظفون في المؤسسات العراقية، بعضهم ضباط في الأمن والشرطة، كانوا يطلبون إنجاز المعادلات دون حضورهم إلى لبنان مقابل أموال طائلة، لأن هذه الشهادات تخوّلهم الترقية في وظائفهم وزيادة رواتبهم بشكل كبير.

في المقابل، تقول مصادر عراقية على صلة بتحقيقات الشهادات الجامعية، التي فُتحت وأغلقت مراراً بلا نتائج، إن بيروت تحولت إلى محطة لـ«غسل الشهادات»، حتى الشباب العاديون الذين لم يأتوا عن طريق الأحزاب.

توافقت المصلحة العراقية في تأهيل موظفين غير مؤهلين مع مصالح قوى متنفذة في لبنان تحاول تعظيم موارد التعليم. ويقول قيادي شيعي بارز لـ«الشرق الأوسط» إن «أصدقاءنا اللبنانيين أرادوا منفعة من كل هذا (...) بعضهم فتح فروعاً إضافية لجامعات لبنانية، وهناك من أنشأ جامعة (خصيصاً) لهذا الغرض».

بالتزامن، نشأت في بيروت شبكة من سماسرة عراقيين لتسهيل «الأوراق المضروبة»، بعضهم لديهم غطاء من أحزاب «الإطار التنسيقي» في العراق، ويوجدون في بيروت لـ«أعمال حرة» أو نشاطات إعلامية.

يقول مصدر موثوق من وزارة التربية العراقية إن «مهمة هؤلاء هي تمرير شهادات ثانوية مزورة جاء بها طلبة عراقيون لمعادلتها في بيروت تمهيداً لانضمامهم إلى جامعاتها».

ولفت المصدر العراقي أن تدفق مثل هذه الشهادات «المضروبة» يتصاعد في السنة التي يشهد فيها العراق انتخابات تشريعية. فقانون الانتخابات العراقي يشترط أن يكون المرشح لعضوية مجلس النواب حاصلاً على شهادة البكالوريوس أو ما يعادلها.

ويقول المصدر إن السلطات العراقية فشلت على الدوام في تعقب الشهادات الثانوية التي جرى معادلتها في لبنان، كما يصعب التحقق من صحة غالبيتها.

وبحسب شهادة المسؤول العراقي السابق، فإن السماسرة العراقيين طوروا في بيروت شبكة علاقات واسعة تمتد من «موظفي السفارة العراقية إلى قياديين في (حركة أمل)، ومسؤولين صغار في وزارة التربية».

ويفيد هذا المسؤول بأنهم نظموا جلسات مشتركة بين جميع هذه الأطراف لتمرير شهادات مزورة. في بعض الأحيان يبذلون جهداً كبيراً لتمرير شهادة واحدة، قد تكون لشخصية متنفذة في بغداد.

رائحة لا يمكن إخفاؤها

بلغ ملف الشهادات العراقية في بيروت حد التخمة. لم يعد بإمكان المسؤولين اللبنانيين إخفاء رائحته، كما يصف مسؤول عراقي في وزارة التربية، يقول إنه عرف خلال عمله في الحكومة على الأقل 3 مسؤولين كبار حصلوا على ترقيات بفضل شهادات جاؤوا بها من لبنان.

«سمعت من مسؤول كبير في وزارة التعليم أن اللبنانيين أبدوا قلقهم من توسع الصفقة، ومن تمادي السماسرة (...) قالوا لنغلق هذا الملف، لكن قادة أحزاب شيعية أبلغوا أصدقاءهم في بيروت أن يعدوا التخادم في ملف الدراسة جزءاً من التسهيلات العراقية في عقد تصدير وقود الكهرباء».

وفي يوليو (تموز) 2021، وقّع العراق ولبنان اتفاقاً لبيع مليون طن من مادة زيت الوقود الثقيل بالسعر العالمي، على أن يكون السداد بالخدمات والسلع.

بعد ذلك بـ4 أشهر، استدعت وزارة التعليم العالي العراقية ملحقها الثقافي في بيروت، في إطار تحقيق في قضية منح جامعات لبنانية خاصة شهادات مزورة مقابل أموال، لمئات من العراقيين، بينهم نواب ومسؤولون، في خطوة دفعت وزارة التربية والتعليم اللبنانية إلى فتح تحقيق أيضاً.

تسرب من التحقيق حينها أن عدداً كبيراً من النواب والمسؤولين العراقيين حصلوا على شهادات دكتوراه وماجستير من 3 جامعات لبنانية، وأن أطروحة الدراسات العليا كانت تباع بـ10 آلاف دولار عن كل طالب.

ودرس معظم هؤلاء الطلبة عن بعد خلال تلك الفترة على خلفية الإجراءات الوقائية نتيجة لتفشي جائحة «كورونا».

وبحسب وكالة «فرانس برس»، فإن الطلبة العراقيين يتوزعون على 14 جامعة في لبنان، لكن أعداد الطلبة في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم، والجامعة الإسلامية في لبنان، وجامعة الجنان وحدها، يبلغ 6 آلاف من مجموع 13 ألفاً و800 طالب عراقي.

وانتهى التحقيق العراقي بوقف التعامل مع الجامعات الثلاث بسبب «غياب معايير الرصانة»، وفقاً لبيان عراقي صدر في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.

العراق يتخلى عن الشريك اللبناني

مع تشكيل حكومة محمد شياع السوداني نهاية عام 2022، تراجعت أحزاب شيعية عراقية عن سوق الشهادات الجامعية في لبنان، وشجعت وزارة التعليم العالي التي يقودها نعيم العبودي، وهو من حركة «عصائب أهل الحق» الطلبة العراقيين على الدراسة في الجامعات الأهلية العراقية. بينما الوزير نفسه حاصل على شهادة من الجامعة الإسلامية في بيروت.

وفي مطلع 2023، أثير في بيروت جدل واسع على خلفية تقاعس مسؤولين في قوى الأمن الداخلي والقضاء اللبناني عن وقف تحقيق في ملف تزوير وثائق دراسية لطلبة عراقيين.

ويعترف أحد أعضاء مجلس إدارة جامعة أهلية في العراق ومقرّب من مموّلها أن «الأحزاب كانت تسعى في البداية لرفع مستوى أعضائها والمقربين منها بإيفادهم إلى لبنان، لكن بعد الاكتفاء من جامعات الدول الأخرى قررت هذه الأحزاب الإفادة من تجربة التعليم الأهلي بتأسيس جامعات أهلية داخل العراق لاستقطاب الطلبة العراقيين بدل سفرهم إلى الخارج».

ويضيف عضو مجلس إدارة الجامعة: «صاروا يقولون كنا نحتاج إلى خدمة سريعة واكتفينا، لماذا ندع لبنان تربح أكثر. الغرض ليس تجارياً فقط، فهنالك وزارات عدة لا تريد أن يسافر موظّفوها إلى الخارج، ولا سيّما المؤسسات الأمنية والعسكرية».

ولا يستبعد الموظف الجامعي الرفيع أن تكون الأحزاب العراقية هي التي قررت قلب الطاولة على الجامعات اللبنانية، لتحويل وجهة الطلبة العراقيين عنها لصالح جامعات عراقية، هي في الأغلب تابعة لأحزاب وقوى سياسية أو شخصيات مقربة منها من رجال الأعمال.

ويرجح أن «الجامعات اللبنانية هي التي شعرت بانقلاب الجامعات العراقية عليها من خلال نجاحها في استقطاب الطلبة العراقيين، لتقرر في السنوات الأخيرة تسهيل منح الشهادات لهم مع تخفيض الأجور لاستقطاب عدد أكبر».

وبدا أن العراقيين تركوا «أصدقاءهم» اللبنانيين متورطين في مسرح الجريمة، وسط أكوام من الأدلة والشواهد، ولم يجد الشركاء في «حركة أمل» سوى إغلاق الملف بالتضحية بالخاصرة الضعيفة، على ما يختم المسؤول العراقي السابق.


يوم تأسيس الدولة السعودية... أو كيف ولدت دولة مركزية في الجزيرة العربية

مقاتلون من جيش الملك المؤسس
مقاتلون من جيش الملك المؤسس
TT

يوم تأسيس الدولة السعودية... أو كيف ولدت دولة مركزية في الجزيرة العربية

مقاتلون من جيش الملك المؤسس
مقاتلون من جيش الملك المؤسس

تحتفل المملكة العربية السعودية في 22 فبراير (شباط) من كل عام بذكرى يوم تأسيس الدولة السعودية على يد الإمام محمد بن سعود عام 1727. وهي الذكرى التي ربطت الأجيال السعودية بتاريخ دولتها الممتد لـ3 قرون والزاخر والمتنوع بموضوعاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية.

وبهذه المناسبة، تقدم «الشرق الأوسط» لقرائها ملفاً خاصاً يتضمن تحقيقات ومقالات ومقابلات تتناول أثر التحولات الجيوسياسية والثقافية التي استدعت ولادة دولة مركزية في الجزيرة العربية على يد المؤسس، بالإضافة إلى طرح أسئلة الهوية والتراث والمجتمع والمنجز الحضاري للدولة السعودية الأولى.

كذلك يتناول الملف خلفيات استسلام الإمام الرابع عبد الله بن سعود للقوات الغازية، ثم أسره، وقصة مقولته وهو ضمن الأسرى في طريقه إلى مصر: «فاتت يا ونيان» التي أصبحت مثلاً دارجاً، برواية حفيد ونيان الحربي، أحد أبطال تلك القصة.

ولا يغفل الملف البحث في مقومات استمرارية الدولة، رغم محاولات إنهائها وتدمير عاصمتها ومحو تراثها والتنكيل بأبنائها، ومقارنة التحولات الاجتماعية في الدولة السعودية الأولى بما حصل في عهد الملك عبد العزيز، وبما يحصل اليوم في المملكة.