رفيف الظل: ذعرُ الروحِ في حضرة الذبح

رفيف الظل: ذعرُ الروحِ في حضرة الذبح
TT

رفيف الظل: ذعرُ الروحِ في حضرة الذبح

رفيف الظل: ذعرُ الروحِ في حضرة الذبح

البرقُ يرجّ الابتهالاتِ الخائفة. حشرجةٌ روح تسيلُ على مدخل البلاط. تهوي على الروح قدمٌ عاريةٌ لجندي يتوكأُ على عصا، تلفظ الروحُ اسمَها، فيعيدها الجندي من حيث أتت. هناك، كانت كلُّ الأرواح شاحبة مالحة.
ليس هذا شحوبًا يا سيدي، هذا ذعرُ الروح في حضرة الذبح. كيف تسنّى لبشر أن يذبح بشرًا مثله؟ وكنا نظنُّ أنَّ الوحشَ هو الحيوان فحسب.
من أين يأتي هذا الصوت؟ من ذا الذي يرثي ما تبقى من إنسان هذا الوحش؟ أتوا به إلى لكي يتحسس عنقي، وليشهدَ خارطة الذبح اليومي، شمالَ الخناجر وجنوبها، حتى لكأن الجرذانَ ترمق الدجّال وهو يترجل عن منبره، تنتظر أن يجزَّ ما بقى من أعناق الذين ماتوا ذبحًا.
البرق يرجّ جدرانَ الابتهالات، أكثر من ذي قبل. فإذًا، تعالوا انظروا إلى الوحش الذي ربى وحشًا، ثم استدارا يتحاجزان، كأنهما يكتشفان استحالة المجاورةِ في مملكة البشر. تعالوا انظروا إلى وحشٍ يقود حربًا على وحشه. ويُراد لنا أن نصدقَ هذه المشاهد في عرضٍ دموي يجعل الغابات تستشيط سخريةً. تعالوا انظروا. ها نحن نرى الوحشين يقتتلان، لتسيلَ دماؤنا على خارطةٍ كنا نظنها تبتهج كلَّ مغرب بشروقنا.
*المشهد الرابع:
الغابةُ تجرُّ ذيلَ الهزيمة، متوجهةً إلى ظلامٍ سحيق.
الأشجار تتساقطُ تباعًا، يلتهمُ كلاً منها حريقٌ صامت.
الرماد يهمسُ للتربة:
- أين أنا؟
سنكون في الأحفاد، كلما أحسنّا الإصغاء لهم وهم يصوغون أحلامهم، وهي الأحلام التي لم ندركها. هي أقل من ساعة قتل. عندما يرفُّ جفنُ الممثل ويتدلى لسانه، وتأتي امرأة من الغموض لتركل ماضيه، ويزأرُ أطفال في الأقماط بصوت لا، ثم إظلام. ثم الستارة تفتح على الفراغ، وعينُ المشاهد تغيّر مكانها، ونرى في البعيد مدراء الطوابير يسعلون، والشمس بالكاد تضيء في العمق، وعلى الجانبين شلالات حمراء، ثم إعتام. ثم تقتربُ الظلال فتكشف عن صوتها، والمرابون يصفقون، ولا أحد يعرف متى تبدأ ساعة النهاية. وهذا ما سيتبع.
في الصباح تكبرُ الفقاعة ويسمونها القمر، وشابٌ نرجسي يصدّق أنها مرآة سعدِه، واثنان يختلفانِ بلطف وهما في الأصل واحد. وفي ساعة الظهيرة تختفي الظلالُ لساعة ثم تعود من الرماد أشكالَ بشرٍ جدد. وهذا الخليطُ ينقصُ كلما زاد. على الناصية رجلٌ وجهه كله لحية، والمارة يرمون في حضنه السكاكين. وعلى الرصيف بقعُ دم مجهولة. الغروب يزحف بلا ابتسامة، ويهبط الليل مندسًا. الكلماتُ تتثاءب، والنجمة تستفيقُ لتحلم. رجلٌ بفانوس في الصحراء. كلبٌ ضرير يعوي على باص خرب. نساء في شارع آخر الليل يتشاجرن على الرجل الأخير.
سبع سنوات..
سبعُ سنوات مرّتْ، والبروفةُ هي المشهد. يتدربُ المغنّي حتى الموت، والعازفُ يغرق في النشاز طربًا حتى الصمم. يهربُ الفيلسوفُ حافيًا ويدخل في النار. يلجأ المدرس للغابات وتأكله الدببة. النسور الدوّارة تدوخُ بلا طرائد وتسقط في احتمال البحر. وهذه امرأةٌ اسمها رباب تشق مناديلها، وهذا رجل اسمه فؤاد اختفى في الحظ، وهذه مدينةٌ أصنامُها تمشي.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.