قاسم حداد
منذ رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وحتى أعمال إلياس خوري، وقبلهما التوحيدي والجاحظ، هناك أنواع متعدّدة من السرد.
ها هو الذبحُ إذًا، وها هي طاولته تباغت الأطفال، تكتبُ دمَهم سطرًا سطرًا، تحت أقدام النخيل. من نعزّي؟ الحرفَ الذي جفَّ قبل أن يكتمل، أم التمرَ الذي اخترقَ العارُ صدرَه؟! هم الذين أعدّوا الصحن والطاولة، وربّوا لنا الذبح واستعانوا على الهم بالدم. ينصحون السكين ويضعون النصل في الجرح. هل رأيتم يدًا تقضم أصابعها؟ كلما تكلمنا اندلعتِ الجراحُ من حناجرنا لفرط الصمت المهيمن. لا أحد يسمع، لا أحد يريد أن يسمع، كانت الغابةُ هي البيت والمدينة وحدود البلاد. وإلى متى لن تزل؟ كان صوتُنا يقطرُ بكاءً، كان يرى عَشرَة جبالٍ شامخاتٍ ينسفهنَّ هواءٌ عابرٌ، وعشرَ رايات بيض تحرقهنَّ رايةٌ سوداء.
ثمة من يعبث بنا، طيلةَ السماءِ وهم يعبثونَ بنا، وطيلةَ الأرض. وكلما أرادوا أن يلتقطوا أنفاسَهم، أخذوا يختارونَ من جثاميننا ما يلائمُ راحتهم، لكي يَسموه بتذكارات عبثهم. وقبرًا إثر قبر، تستفحلُ على شواهدنا تواريخُهم. كنتُ تذكرت المستقبل قبرًا قبرًا، وأعضائي مطحونة في الآلة الجهنمية، أصرخ وصمخُ النواخذة يصدّني ويسحق صوتي. كلُّ جثمان أسميّه ذريعة الدولة وهي تنشأ على أشلائنا. هل سمعتم جثماناً يقدم التعازي؟ لقد كنته. وهذا ما أسميه جاذبية الشتات لما هو فتات، كأن يلتقي الدبوسُ ببالون شارد، أو يسقط حذاءُ عامل وراء أسوار قصر.
مهلا! مَنْ وضع الصفاتِ في خلاّط وسوّاها، تشمّها الحواسُ ترفًا يميل له الندى وتلمسها العيون انبلاجًا في خجل الطلل، حمراء يحنُّ لها دم النية، بيضاء في لحن الملاك. قلْبُ الجهات، إسعاف الحنين، وشم الإله على جبين المجنون، وهذا الشلال نصف جناحها، وهذا النبع كلماتها الأولى. لها إسراء الأسير، عناد النهر حين يغيّر مجراه، هتاف الأبنوس. ومن أجلها، يقفز المهاجر في قطاره الأخير. ونحوها، سمعنا عن بشر لا يعودون. وقربها، تستدير الشمس لتركع ظلالنا ونحن وقوف. ومن بين يديها، تبرق فضة الخلود.
هي شرفاتٌ تخبئ الظلامَ الركيك، وتفضحُ غطرسة المؤلف. الستارة العظمى لا تزال تستجدي تصفيقَ الموتى، والنَصّ أفرغ أحشاءَهُ على المقاعد. ولم تعد سوى جماجم الجمهور، تنتظر أن تلقي بهمومها على قطن الأسرة المحترقة. ولن ننسى اكتمال العلّة وتشرد المنفى، وقرارَ عبدين أن يتحررا من نسق الجلافة. هي الأبوابُ مخلوعة برفسة الغضبان، هو السور يلمّ شملَ المهاجر. على جذوع الهجرة، تتأرجحُ إشارات الناجين من الموت. ومن منافي الأرض، تفوح لغة واحدة، أبجديتها جمهرة تتوسل العبور إلى البحر الذي ضاقت شواطئه، فاختنق الماء.
البرقُ يرجّ الابتهالاتِ الخائفة. حشرجةٌ روح تسيلُ على مدخل البلاط. تهوي على الروح قدمٌ عاريةٌ لجندي يتوكأُ على عصا، تلفظ الروحُ اسمَها، فيعيدها الجندي من حيث أتت. هناك، كانت كلُّ الأرواح شاحبة مالحة. ليس هذا شحوبًا يا سيدي، هذا ذعرُ الروح في حضرة الذبح. كيف تسنّى لبشر أن يذبح بشرًا مثله؟ وكنا نظنُّ أنَّ الوحشَ هو الحيوان فحسب. من أين يأتي هذا الصوت؟ من ذا الذي يرثي ما تبقى من إنسان هذا الوحش؟
أيها المستهامُ بأحفاده، هيءْ زنادك، فالحب زادُك. ويا أيها الزنادُ، فلترفقْ بنا طلقتُك. يا جارَ الجدار، ممدودًا من ثقب الحرام، تسندون مليحتكم ظهرَ الباب وتصقلونها باحتضانة الجحيم، كأن القبلَ أوسمةُ الوقت وهو يأخذ العواصم. المأخوذونَ فحسب يفعلون هذا. ينحني أولهم لكل حفرة. النص من القلب إلى السماء، فلا تهزه.. قل له أيها العادلُ كيف سهرتنا كانت مثلومةً بغيابه. كيف أنها كانت مفدوحةً به. كان يطعننا بالغياب. نتذكّره مثل مفقودٍ في قلوبنا، فنغفر له، على أن يُعدَّ سهرةَ صحراءِ البرد بدفءٍ من عنده. طبْ به إن مال، أو سيّج النصيحة بكتمانها علنًا بين جمع.
لا تخف من النهاية، ففيها سِيركُ الموتِ يبدأ. قضّ مخدعها المهاجرُ، وفضّ عفتها النقيض. خضّ أمانها ليلُ المسافر، رضّ الأرض تحت سريرها ورماها في الزمهرير. احذر! فالذي يوشوش لك، يشوش عليك. وهذا استواءٌ آخر، عندما يتلهّى الجلاد بالجماجم، وتدحر النار طمأنينة الغافل. ومن ثقب إبرة يعبر الخيطُ الأبيض لليل. فيجلسان؛ القاتل وظله، القتيل والسكين، لتولد نعرة الأقوياء بعد ضعف، وتتشرذم الأنساب ببطون مبقورة على فراغها. ولكن: من قال شيئا عن الصبر؟ من أفتى بوأد وجوه الحقيقة وكلّها ذعر، ومن ألبس الأمل نعلَ الشيطان؟ القلوبُ مشاع مشاعر، والرحمة التي خسرتَها بالأمس قد تكون خلاصكَ الأحمر غدا.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة