بخطوات مستعجلة كان المسحراتي يجوب أحياء وسط العاصمة دمشق يتبعه ابنه الصغير مثل ظله ويردد خلفه نداء «يا نايم وحد الدايم يا نايم العمر مو دايم»، وبينما يأتي صوت المسحراتي الأب مشحوناً بغضب مكتوم يشوبه القنوط، يردد الطفل العبارة بثقة مشوبة بشغف التماثل مع الأب، بل ربما منافسته على الوصول إلى أسماع الصائمين وقلوبهم وهم يستذكرون عادات الشهر الفضيل الذي يزين لياليه مسحر يدعوهم للاستيقاظ مستبشراً بالخير «يا نايم وحد الدايم... قوموا على سحوركم إجا رمضان يزوركم».
وزاد عدد المسحرين في دمشق رمضان الحالي ليصبح ثلاثين مسحراً بينما كان عددهم العام الماضي عشرين مسحراً، لم يمارسوا مهنتهم بسبب إجراءات الحظر التي فرضت العام الماضي لمنع انتشار فيروس كورونا. وجرت العادة كل عام أن يتقدم الراغبون في العمل كمسحراتية خلال شهر رمضان بطلب ترخيص للمحافظة ويتم اختيار من يتوافق مع الشروط لا سيما الأمنية.
ومع أن المسحر فقد وظيفته الموضوعية في الحياة المعاصرة وظهور تطبيقات مواعيد الإفطار والسحور والإمساكية، فإنه لم يغب عن شوارع دمشق في تقليد لإحياء طقوس وعادات رمضانية يحتاج إليها مجتمع منهك، ليبدد بعضا من كآبته، لكن المسحراتي الذي كان يقطع شوارع أحياء وسط دمشق مع طفله مستعجلاً بدا وكأنه يبشر بقرب الساعة أو حلول يوم القيامة وهو يعيد ويكرر نداء «العمر مو دايم»، في مفارقة تأبى الشذوذ عن خط الكآبة العام.
«منى» سيدة دمشقية تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها قبل شهور جراء إصابته بفيروس كورونا، تقول: «أكثر ما أتذكره من رمضان في سنوات الطفولة المسحر في حي العمارة كنت وإخوتي نسهر حتى السحور على سطح بيتنا العربي، ننتظر قدوم الشخصية الغامضة التي تظهر خلال رمضان بعد منتصف الليل، كان يطرق على بابنا وينادي قوموا على سحوركم فإذا سمع صوتاً من خلف، تريث ليأخذ بكل رضا وامتنان ما يوهب له من طعام أو فواكه أو مال بسيط، وإذا لم يسمع حركة يمضي إلى باب الجيران وهكذا يطرق الأبواب والنوافذ ونحن نهلل: أبو طبلة... أبو طبلة». وتتابع منى: «المسحر يضفي البهجة على رمضان لكنه فقد صفاته ووظيفته، أغلبهم لا يقبلون ما يُعطى لهم، بل يشترطون ويحددون الحد الأدنى للمبلغ المالي، وكأنهم موظفو الضرائب!! فقد تلاشت علاقة التراحم بين المسحر وسكان الحي وأخذ العطاء شكل الإتاوة، فالمسحر قديماً كان يجمع الطعام في سلته ويعيد توزيعه على المحتاجين، الآن يرفضه أو يرميه في الشارع».
الحرب غيّرت وجه سوريا كما غيّر كثير من عادات السوريين، يقول محمد صاحب محل «سكاكر» في الصالحية: «يأتي المسحر إلى محلي عند الظهيرة!! وهو أمر عجيب، إذ إن جولات المسحر هي عند السحور وقبيل الإفطار وأول أيام العيد، وفي الأحياء السكنية، لكنهم يأتون ظهراً إلى الأسواق التجارية ويطلبون أعطيات رمضان!! المسحر سابقاً كان أهل الحي والمختار ينتقونه ويكون من الناس الطيبين كي ينتفع خلال الشهر الفضيل، لكن اليوم تقوم الأجهزة الأمنية والمحافظة بتعيين المسحراتية».
ومع ذلك يبقى لظهور المسحر في ليالي رمضان سحره الخاص، سيما وقد أعادت دراما البيئة الشامية إحياءه بحلته التراثية، بحسب رأي طالب جامعي يسكن في دمشق القديمة، ويؤكد أن صوت المسحر يشعر بالسلام وهو ينتظر شهر رمضان ليستمتع برؤية مسحر حي القيمرية (أبو الهيجا) وهو يتجول ليلاً في الأزقة المعتمة حاملاً طبلته ومرتدياً اللباس الشعبي (حذاء كسرية عجمية وسروال وشالة حرير على الخصر وقميص صاية شامية وخنجر)، مردداً نداءاته وأدعيته الخاصة بالشهر الكريم.
مسحراتية دمشق بين الحياة المعاصرة وإحياء التراث
طقوس الشهر الفضيل تأثرت بالحرب و«كورونا»
مسحراتية دمشق بين الحياة المعاصرة وإحياء التراث
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة