جيرالد دارمانان: الإسلاموية حصان طروادة المفجِّر للمجتمع الفرنسي

وزير الداخلية يدعو إلى «التعبئة العامة» للدفاع عن «الجمهورية» في كتابه الأخير

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

جيرالد دارمانان: الإسلاموية حصان طروادة المفجِّر للمجتمع الفرنسي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صوَّت مجلس الشيوخ الفرنسي، يوم الجمعة الماضي، على مشروع القانون المسمى «تعزيز مبادئ الجمهورية»، والمعروف بقانون «محاربة الانفصالية الإسلاموية»، بعد أن تم إقراره في قراءة أولى بمجلس النواب. وسيذهب المشروع مجدداً إلى مجلس النواب، لتُشكَّل لاحقاً لجنة للتوفيق بين القراءتين.
ولا شك في أن مشروع القانون سيقر، باعتبار أن الحكومة تتمتع بالأكثرية في مجلس النواب الذي له الكلمة الفصل.
وترفض الحكومة الفرنسية اعتبار مشروع القانون موجهاً ضد المسلمين، وتقول إنه موجه فقط ضد التطرف والراديكالية، أو ما تسميه «الانفصالية»، التي لا تعني الانفصالية الجغرافية، بل انغلاق جماعة أو طائفة أو جالية على نفسها وابتعادها عن القيم والممارسات العلمانية التي يتبناها المجتمع الفرنسي، وسعيها إلى فرض قيم وممارسات أخرى خاصة.
وفي مداخلته أمام مجلس الشيوخ، يوم الثلاثاء الماضي، وصف وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان المشروع المذكور بـ«المتشدد»، وأن غايته «جبه الذين يسعون لاستخدام الدين وسيلة للسيطرة على جاليتهم (أي الجالية المسلمة) الموجودة على الأراضي الفرنسية، من خلال اللجوء إلى القوة الناعمة»، أي الهيمنة الآيديولوجية، ونشر قراءة متشددة للدين الإسلامي لا تتلاءم مع المتعارف عليه والمقبول في المجتمع الفرنسي.
ومنذ أن عينه الرئيس إيمانويل ماكرون وزيراً للداخلية وشؤون العبادة في حكومة جان كاستيكس، في شهر يوليو (تموز) من العام الماضي، برز دارمانان كأحد أكثر الوزراء تشدداً في الملف الإسلامي. فهذا المسؤول جاء من اليمين، وكان مديراً لحملة الرئيس اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي الانتخابية في عام 2017، ويعد أحد الأعمدة التي يتوكأ عليها ماكرون لاجتذاب الناخب اليميني في المنافسة الرئاسية التي سيحل موعدها في شهر مايو (أيار) من العام المقبل.
وتفيد غالبية استطلاعات الرأي بأن ماكرون سيواجه في الدورة الانتخابية الثانية، كما في عام 2017، مارين لوبان، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف. من هنا «فائدة» دارمانان، الذي يريد أن يكون قانون الانفصالية مربوطاً باسمه بشكل وثيق.
لا يجد وزير الداخلية حرجاً في اتباع نهج متشدد إزاء الإسلام السياسي، الذي يفضي إلى التطرف الإسلاموي. كما أنه لا يخاف من اتهامه بمعاداة الإسلام. فالرجل فخور بأن الدم العربي - المسلم يسري في عروقه. فاسمه الكامل جيرالد موسى دارمانان، وجده لوالدته موسى أواكيد كان جندياً في الجيش الفرنسي في المغرب، وحارب في صفوفه إبان الحرب العالمية الثانية، ووصل إلى رتبة رقيب ومعاون. وكان دارمانان قريباً منه، وهو يحمل اسمه احتراماً وتيمناً.
وفي رده على استجواب أحد النواب في الجمعية الوطنية، الذي اتهمه بمعاداة الإسلام والترويج لصور وكليشيهات مبتذلة، قال دارمانان: «جدي كان يأتي كثيراً على ذكر الله، وكان في الوقت عينه يرتدي ثياب الجيش الفرنسي. اسمي جيرالد، واسمي الثاني موسى، وبفضل رئيس الجمهورية وكل الذين رافقوني، أشعر بالفخر في أن أكون وزيراً في الجمهورية الفرنسية». وأعقب ذلك بتغريدة كتب فيها: «إنه لشرف كبير لي، أنا حفيد مهاجر، أن أعيّن وزيراً للداخلية».
ليس جديداً طرح ملف الإسلام وموقعه في المجتمع الفرنسي، ومدى تلاؤم قيمه مع قيم العلمانية والتحرر وفصل الدين عن الدولة، ومع مفهوم «الاندماج» أو «الانصهار» للوافدين الذي يتبناه النموذج الفرنسي، بعكس النموذج الأنغلو - ساكسوني. ومع تواتر العمليات الإرهابية الإسلاموية التي ضربت فرنسا منذ بداية عام 2015 وأوقعت 263 قتيلاً ومئات الجرحى، عاد هذا الملف ليُطرح بقوة، فيما سعى اليمين المتطرف وبعض اليمين الكلاسيكي لتجييره في المعارك السياسية الداخلية. من هنا، سعى ماكرون لإيجاد ضوابط، فدفع من جهة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إلى تبني «شرعة مبادئ الجمهورية» التي ستصبح مدونة سلوك، ومن جهة أخرى بلورت الحكومة مشروع قانون تغير اسمه من قانون «محاربة الانفصالية الإسلاموية» إلى قانون «تعزيز مبادئ الجمهورية»، الذي يسلك طريقه التشريعية، مروراً بمجلس النواب فمجلس الشيوخ، على أن يتم التوفيق بين القراءتين قبل أن يتحول إلى قانون تنفيذي.
من هنا أهمية كتاب دارمانان الصادر حديثاً تحت عنوان: «الانفصالية الإسلاموية، دفاعاً عن العلمانية»، الذي يراد منه توفير الحجج والإطار النظري للمشروع الحكومي. وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون كان أول من استخدم مفهوم «الانفصالية الإسلاموية»، وبعده شاع تداوله بين أطراف الحكومة واليمين واليسار.

- الإسلامية والإرهاب
الكتاب الصادر عن دار «لوبسرفاتوار» يقع في خمسة فصول مع مقدمة وخلاصة. ويتبين للقارئ منذ الصفحات الأولى للكتاب أن المؤلف لا تخامره أي شكوك لجهة قناعاته المترسخة، ولا تسكنه تساؤلات، بل لديه يقين متجذر بشأن القضية التي يضعها على مشرحته، وهي الإسلاموية التي يرى فيها «أقوى آيديولوجيا في عالمنا المعاصر، إذ إنها صادرت كلام الإسلام وسخرت الدين... وانسلت إلى خلايا المجتمع الفرنسي لتحاربه ثم لتنفصل عنه». ويضيف الكاتب: «هكذا، يجد ملايين المسلمين أنفسهم رهائن بأيدي مناضلين سياسيين إسلاميين. وهكذا، نجد أن المجتمع تتم مهاجمته من قبل عدو يُدين ويُهين ويَدس الدسائس بحق من يحاربه». لذا، يدعو الكاتب إلى «التعبئة العامة» للدفاع عن «الجمهورية» التي يجب أن تبقى «المِصهَر الذي يدمج الوافدين ويوفر سبل التقدم».
وكتاب دارمانان له غاية واحدة: «إنارة القارئ حول الوضع الملح والطارئ الذي تعرفه فرنسا، وتعيين العدو: الإسلاموية»، التي تتبع منهج «التقية» لتنفيذ «استراتيجيتها». ووفق ما يؤكده، فإنها «تتسرب إلى المجتمع للفصل بين هدفها (الجالية المسلمة) والمجتمع الوطني، لتبث قيماً ومعايير وأنماط تصرف خاصة بها، تريد فرضها على مؤسساتنا».
ويذهب دارمانان أبعد من ذلك، بتأكيد أن «الفرق بين الإسلاموية والإرهاب ليس في طبيعة الحركتين، بل في درجة (التطرف)، وأن الإسلاموية هي البيئة الخصبة التي ينمو فيها الإرهاب».
لكن وزير الداخلية يسارع لوأد أي عملية خلط، بتأكيده أن التنديد بالإسلاموية لا يتعين أن يقود إلى مسخ الإسلام، ثاني الديانات في فرنسا، وهو يرى أنه عندما ينجح الإسلام في فرنسا في التغلب على مشاكله التنظيمية، فإنه سيجد مكانه الطبيعي داخل الأسرة الفرنسية. وحل هذه الإشكالية من مسؤولية المسلمين أنفسهم. إلا أن للدولة الحق في منع الممارسات التي لا تتوافق مع روحية قانون عام 1905، الذي أرسى العلمانية والفصل بين الدين والدولة، ويتيعن على الجميع احترامهما.
ويرسم الكاتب في الفصل الأول المسار الذي سلكته فرنسا منذ مئات السنين للوصول أخيراً إلى تبني مبدأ العلمانية، الذي يتكىء إلى ثلاثة أسس: حياد الدولة، وحرية الاعتقاد وممارسة الديانة المختارة، وأخيراً التعددية الدينية. فالعلمانية تحمي كل الديانات والمعتقدات، ما دام أن معتنقيها يحترمون النظام العام، أي سلطة الدولة.
إلا أن مبدأ «المواطنة» يتخطى، وفق الكاتب الانتماءات الدينية، ما يعني عملياً أن العلمانية تضمن حياد الدولة والتعددية وانتفاء التمييز بين الأفراد، مهما تكن معتقداتهم.
وخلال العقود التي انقضت منذ تبني هذا المبدأ، لم تجد الأديان صعوبة في التعايش والتآلف معه، والنمو والتطور، أكانت مسيحية أم يهودية أم إسلامية أم بوذية. ومنذ عام 1905، المعتقد في فرنسا حق فردي تحميه الدولة وتسمح بممارسته، ولكن لا أحد مُتاح له أن يستقوي بديانته للحصول على حقوق خاصة. وبالمقابل، لا يُسمح بأن تتمايز معاملة فرد من الأفراد بسبب ديانته، كما أنه لا دين للدولة.
وبعد مرتبة «المفهوم»، ترجمت العلمانية إلى قوانين، ودخلت إلى الدستور، بحيث إن القوانين الفرنسية تكرس الحرية الدينية وحرية العبادة وتعددية المعتقدات. وكدليل على حيادية الدولة، فإن القانون يمنعها، منذ عام 1905، من تمويل الأديان، لأن التمويل يعني التدخل، وبالتالي القضاء على الحيادية. كذلك يتعين على الموظفين الحكوميين أن يلتزموا الحيادية المطلقة.
بين فرنسا والإسلام تاريخ قديم، يعود إلى وصول الإسلام إلى إسبانيا، وتمدده من هناك إلى جنوب ووسط فرنسا (معركة بواتيه عام 732 بين شارل مارتيل وعبد الرحمن الداخل) ثم الحروب الصليبية، وما شهده البحر الأبيض المتوسط طيلة مئات السنين من مبادلات تجارية وثقافية، ووصول العثمانيين إلى فيينا، وأخيراً التمدد الفرنسي الاستعماري في المغرب العربي وأفريقيا في القرن التاسع عشر، وما تبعه في القرن العشرين من حركات تحررية.
والسمة البارزة للإسلام الفرنسي، بحسب المؤلف، أنه أصبح دين المهاجرين منذ ثلاثينات القرن الماضي، بعد أن كان دين المستعمرين. وحالياً، وبغياب إحصائيات دقيقة، يتراوح عدد المسلمين في فرنسا ما بين 3.5 و5 ملايين نسمة، بينهم نحو مليون نسمة من المتديِّنين، ونحو مائة ألف من المعتنقين الجدد.
ويرى دارمانان أن إسلام فرنسا يعاني من أربعة تحديات رئيسية: تدخل دول «المصدر» في شؤون المسلمين، إن لناحية التمويل أو التنظيم، وتحديداً تركيا ودول المغرب الثلاث (الجزائر والمغرب وتونس). والثاني صعوبة توافر أئمة يعرفون الثقافة الفرنسية وقوانين البلاد وروحيتها، والثالث غياب وحدة التنظيم، ما يجعل الحوار بين الدولة والمسلمين صعباً، بعكس الحال مع الكاثوليك واليهود. والتحدي الأخير يمكن أقلية نشطة وفاعلة من مصادرة النطق باسم المسلمين، الأمر الذي يؤسف له ويفتح الباب لتغلغل الفكر المتطرف، أو بروزه بقوة على حساب المسلمين الراغبين في الاندماج، الذين يتبنون إسلاماً منفتحاً وسطياً بعيداً عن العنف وخطاب الكراهية.

- مدرستان وآيديولوجية واحدة
ويشدد الكاتب، في الفصل الرابع، على التمييز بين الإسلام والإسلاموية. إلا أن الأخيرة تستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي لتبث قراءة متشددة للإسلام ولما تسميها الممارسات الإسلامية المتوافقة مع الديانة، عن طريق الفتاوى التي تصدر من هنا وهناك، وتتناول كل مناحي الحياة اليومية.
ويميز دارمانان بين مدرستين؛ الأولى تتشكل من «الإخوان المسلمين» وتتبنى آيديولوجيا رفض الغرب وحداثته والهيمنة على الجاليات المسلمة في الغرب، لإبقائها داخل قراءة وممارسات متشددة ثقافياً ودينياً، والمدرسة الثانية هي «السلفية» التي تريد العودة إلى دين وممارسات الآباء الصالحين، وتدعو إلى الانقطاع عن المجتمع الحديث.
ويؤكد المؤلف أن ما يجمع بين هاتين المدرستين هي الآيديولوجيا المعادية للغرب والحداثة، ورفض الفصل بين ما هو ديني وسياسي - اجتماعي، واعتبار العلمانية أداة قتال ضد الإسلام.
بيد أن وسيلة التغلغل المتبعة تعتمد على العمل الاجتماعي وتوفير المساعدات المالية والصحية والخدمات والتعليم والرياضة، والاتكاء على ذلك للتأثير على العقليات والممارسات، بما فيها ارتداء الثياب والدعوة لتعميم الحجاب.
وأسهم تخلي الدولة عن واجباتها إزاء المهاجرين والأحياء الفقيرة، ووجود ممارسات تمييزية إزاءهم في بعض الأحيان، والفشل التعليمي، في توفير فضاء لتحرك الآيديولوجيات الإسلاموية، التي يهاجمها وزير الداخلية بعنف في الفصل الخامس، تحت عنوان: «مناهضة الانفصالية الإسلاموية».
بداية، يعتبر الكاتب أن الإسلاموية هي «حصان طروادة الحامل لقنبلة عنقودية ستفجر المجتمع الفرنسي»، هكذا فعلت في إيران وأفغانستان والسودان واليمن والعراق، حيث لم تترك وراءها سوى العنف والدمار والخراب والموت، مضيفاً: «إنها اليوم عندنا في أوروبا وفي فرنسا»، وخطرها يكمن في أن تدفع لظهور مجموعات تعيش وفق قيمها، وبعيداً عن قيم المجتمع، وأولاها العلمانية. وهذه المجموعات، بحسب الكاتب، يتم إخضاعها لآيديولوجيا «انفصالية» بالغة الخطورة.
والخطر الثاني يكمن في ردة فعل المجتمع المضيف، الذي ينظر بكثير من القلق لبروز مجموعات رافضة لقيمه، أو راغبة في العيش بعيداً عنه.
ويرى دارمانان أنه يتعين التحرك في اتجاهين: محاربة فرض مرجعيات وقيم إسلاموية في الفضاء العام، ومعاودة إنتاج ما يسمى الوعد بقيام جمهورية يغلب عليها الإخاء، وهو العصب الثالث في ثلاثية الجمهورية: حرية ومساواة وإخاء.
وهكذا، يصل دارمانان إلى مشروع قانون «تعزيز مبادئ الجمهورية» الذي صوت عليه مجلس الشيوخ يوم الجمعة، ويعود لمجلس النواب لقراءة ثانية وأخيرة. ويتضمن المشروع طائفة من الإجراءات التي تتناول الرقابة على الجمعيات الدينية، ومنع التدخل الخارجي في شؤون مسلمي فرنسا، وتنشئة الأئمة، ومحاربة خطاب الكراهية، ومنع تعدد الزوجات وتزويج القاصرات، ومنع شهادات العذرية، وفرض الحيادية في الخدمات العامة.
باختصار، غرض مشروع القانون الذي دار بشأنه جدل كبير في مجلسي النواب والشيوخ، أن يواجه جميع الممارسات التي يعتبرها المشرع مخالفة لمبدأ العلمانية وللمتعارف عليه في المجتمع الفرنسي.
ويرصد الكتاب كل هذه المظاهر والبنود التي يتضمنها مشروع القانون، المُنتظر منه أن يكون درعاً تقي من هذه المظاهر، أو على الأقل تحد من انتشارها.
والخلاصة التي يصل إليها وزير الداخلية أن الفرنسيين ينتظرون من حكومتهم أن تواجه بقوة الخطر الداهم، من غير سذاجة أو ضعف، ولكن من غير ديموغاجية أو انطوائية. ويحذر دارمانان من الذين «يريدون المزيد والمزيد، وقرارات أكثر قساوة وتشدداً»، لا بل يتبون نظريات عنصرية، ويرفضون اعتبار الإسلام ديناً قادراً على التعايش في مجتمع ديمقراطي علماني.


مقالات ذات صلة

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب إيمانويل تود

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً.

سوسن الأبطح
كتب شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

يطرح الكاتب العراقي ماجد الخطيب في السوق كتابه المعنون «البيئة المسلية» في زمن ما عاد فيه الإنسان يشعر بأي تسلية وهو يشاهد الخراب البيئي العظيم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

بعد بدايات متواضعة من قاعة فندق بيرنرز في وستمنستر عام 1971 أصبح معرض لندن للكتاب (LBF) – الحدث العالمي الأهم في صناعة المحتوى الإبداعي خلال فصل الربيع

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان

«الشرق الأوسط» (عمّان)
صحتك التعاطف مع الذات والوعي بما يحتاج إليه جسمكم هما المفتاح لنوم أفضل (متداولة)

8 نصائح بسيطة لنوم أفضل

هل تواجهون صعوبة في النوم؟ إليكم 8 نصائح رئيسية عملية لمساعدتكم على الاسترخاء والاستغراق في النوم.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود
TT

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول.

هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات».

حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟

الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك.

وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج.

وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً.

ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم.

أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها.

ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها.

«أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب».

عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه، سواء الديموغرافي أو الاقتصادي يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الآيديولوجية والمالية الممتدة من عام 1700 يقودنا نحو افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم».

أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. الغرب وقع في فخ هذه الحرب وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. على عكس الدول الغربية في روسيا زاد معدل الأعمار، كذلك ارتفعت نسبة الخصوبة، بعد أزمة التسعينات، هناك تحسن واضح في كل المؤشرات الروسية.

فمنذ بداية حكم بوتين إلى عام 2000، انخفض معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المائة إلى 8 في المائة، والانتحار من 39 إلى 13، والقتل من 28 إلى 6. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4. وهو أفضل من المعدل الأميركي. ومع أن عدد سكان روسيا هو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، فإنها تنتج ضعف كمية القمح، فيما أميركا، تعتمد على الخارج في معظم قدرتها الإنتاجية. ومن الأرقام اللافتة أن 23 في المائة من الروس في التعليم العالي يدرسون الهندسة، مقابل 7 في المائة في الولايات المتحدة، وهو ما ساعد الأولى على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة.

يرفض الكاتب فكرة أن روسيا لها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، ويعتبر أن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدوده. فكيف لشعب لا تتجاوز نسبة الخصوبة لديه 1.5 لكل امرأة أن يكون غازياً وطامعاً في التمدد؟ وكيف لبلد عدد سكانه 144 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 17 مليون كم مربع، أن يفكروا بالتوسع، ولديهم كل هذه الأراضي الشاسعة، التي يحتاجون حمايتها والحفاظ عليها. لذا فإن كل الكلام الغربي الذي يضخه الإعلام للتخويف من روسيا هو نوع من الفانتازيا لا بل فكرة سخيفة ، ليس أكثر. وللتدليل على ذلك يشرح كيف أن روسيا هي التي أرادت التخفف من الدول التي التحقت بالاتحاد السوفياتي، وأن التخلص منها ومنحها استقلالها كان إحدى الغايات الروسية، خصوصاً بولندا التي شكلت حملاً ثقيلاً.

يرى تود أن الغرب وقع في فخ حرب أوكرانيا وخسرها ليس بفعل قوة روسيا بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل

في مطلع الكتاب يتحدث تود عن مفاجآت عديدة للحرب الأوكرانية - الروسية، بينها أن أوروبا التي اعتبرت نفسها بعيدة عن الحرب أصبحت جزءاً منها، ثم أن الصمود العسكري الأوكراني أذهل الروس فعلاً. لكن الذي أذهل العالم أجمع هو الصمود الاقتصادي الروسي، في مواجهة عقوبات كان يفترض أن تركّع الروس، لكنهم عكس ذلك استطاعوا أن يتكيفوا مع العقوبات بشكل كبير، واستعدوا سلفاً للاستقلالية في المجال التكنولوجي وحتى المالي، بحيث إن العقوبات المصرفية الكبيرة لم تنل منها كما كان متوقعاً. أما إحدى أهم المفاجآت فجاءت من أميركا حين ظهرت تقارير مصدرها البنتاغون عام 2023 تقول إن الصناعة العسكرية الأميركية تعاني عجزاً، وأنها لا تتمكن من تأمين القذائف لحماية حليفتها. أما الصدمة الكبرى للغرب، فكانت عدم تجاوب دول الجنوب مع مطالب أميركا لخنق روسيا. بل على العكس فإن الغرب وجد نفسه في عزلة عن العالم، الذي لم ير بارتياح كل الإجراءات العدائية التي اتخذت ضد روسيا.

أما في نهاية الكتاب، فيشرح بالتفصيل كيف سيقت أميركا، ووقعت في الفخ الأوكراني. ويعدُّ أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 على عكس الادعاء الغربي لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن أميركا كانت لم تعد قادرة على المواجهة. وبما أن الجميع صدق الكذبة، خصوصاً الغرب، فقد استمرت أميركا في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في الداخل. وبينما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، تركت الصين تُنهك الصناعة الأميركية، وكانت روسيا تتعافى.

ويرى الكتاب أن الحمائية الأميركية لا يمكن أن تنجح، «لأن أميركا ضعيفة جداً صناعياً. فهي لا تنجح في تطوير صناعة بديلة للواردات. ولم تعد العمالة الماهرة موجودةً لديها». وحتى نوعية الأسلحة الأميركية إذا ما دخلت حرباً حقيقيةً مع الصين مثلاً، فلربما لا تصمد طويلاً. إذ ماذا تفعل حاملات الطائرات الأميركية التي تستعرض في المتوسط أمام الصواريخ الصينية الفرط صوتية، ألم تجعلها بالية وغير قادرة على الدفاع عن تايوان؟

حرب غزة التي ينتهي بها الكتاب، يعتقد تود أنها «كانت مفيدة لأميركا كي ينسى العالم أنها تخسر في أوكرانيا، ولكي تنسى هي نفسها ذلك».

أما الخلاصة السوداء التي يوصلنا إليها، فيتركها مفتوحةً بوسع ضبابية المشهد لأن «الحالة السوسيولوجية صفر لأميركا، تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها». لذلك ينصحنا تود بالتالي: «دعونا نبقى يقظين، لأن العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق ممكناً».