إيفان كركلا لـ«الشرق الأوسط»: تربيت في كواليس المسرح وبدأت بالعتالة

إيطاليا تقلده وساماً تتويجاً لعشرين عاماً من التعاون

المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين
المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين
TT

إيفان كركلا لـ«الشرق الأوسط»: تربيت في كواليس المسرح وبدأت بالعتالة

المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين
المخرج إيفان كركلا في المركز الوطني للفنون المسرحية بالعاصمة الصينية بكين

اليوم، تكرم إيطاليا المخرج اللبناني إيفان كركلا بوسامٍ مستحقٍ، تقديراً لتعاونه الوثيق مع فنانين إيطاليين طوال 20 سنة الذي كانت فاتحته مع المخرج الكبير فرانكو زيفيريلي.
إيفان، وبعد مسار وصل من خلاله إلى العالمية، وما يزيد على 15 مسرحية، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بهذه المناسبة، أقف -كما فرقة كركلا- على ناصية جديدة؛ هذا الوسام بمثابة شاهد على العلاقات الإبداعية بين لبنان وإيطاليا، ويزيدني إحساساً بالمسؤولية، ودفعاً لانطلاقة مختلفة، وللنحت في دروب لم أسر فيها بعد».
فكرة التكريم ولدت أيام السفير الإيطالي السابق لدى لبنان ماسيمو ماروتي، الذي كان يعرف متانة العلاقة بين «مسرح كركلا» والفنانين الإيطاليين. طرح الفكرة على دولته، وجاءت الموافقة من الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، لكن الجائحة أخرت كل شيء. اليوم، يقام في «مركز الإيفوار»، في بيروت، حفل صغير أذنت به لجنة كورونا، مشترطة اتخاذ الإجراءات كافة، تقلد خلاله السفيرة الإيطالية الحالية نيكوليتا بومبارديري، إيفان كركلا وسام «نجم إيطاليا»، حيث سيُعرض فيلم حول مسار الفرقة، ثم تقدم لوحة فنية إنعاشاً للقلوب التي اشتاقت إلى المسرح في زمن التباعد.

- سحر إيطاليا
قصة الحب بين إيفان، مخرج مسرحيات فرقة كركلا منذ أكثر من 26 عاماً، وإيطاليا بدأت عندما زار، مع والده المايسترو عبد الحليم كركلا، البندقية طفلاً، وأغرم بسحر المدينة العائمة. يقول: «من وقتها، تطورت علاقتي بالفن الإيطالي. العظمة لا تزال حاضرة في روما؛ يشعر الإنسان فيها أنه يعيش في العصر الروماني، فهي جسر النهضة. في دول كثيرة عريقة، لا نرى التاريخ منعكساً بقدر كبير على الحاضر، كما هو في إيطاليا. سرٌ ما يربط بين الإيطاليين والجمال، في الملبس واللغة والموسيقى والسينوغرافيا. كبار المخرجين في السينما والمسرح والأوبرا خرجوا من إيطاليا».
كانت فرصة ذهبية لإيفان تعارفه على فرانكو زيفيريلي في مهرجانات بعلبك وهو يحضر مسرحية «الأندلس: المجد الضائع»؛ دعاه الرجل لحضور افتتاح أوبرا «لابوهيم» في «تياترو سان كارلو» في نابولي. ذهب يومها إيفان وقرر البقاء، حيث قضى مع المخرج الإيطالي أربع سنوات، رافقه خلالها في أعماله حول العالم. يصف زيفيريلي بأنه «المخرج العبقري. كان بالنسبة لي مدرسة؛ مدرستي الأولى هي التي يعرفها كل الأطفال، والمدرسة الثانية هي عبد الحليم كركلا، أما الثالثة فهي زيفيريلي. مع عبد الحليم، تعلمت التراث والعلاقة بالأرض وثقافتنا، ومدرسة زيفيريلي هي المسرح العالمي. كنت محظوظاً بين هذين العملاقين، أحدهما من الشرق والآخر من الغرب. فقد جعلاني أحمل اسم كركلا، وأصل به إلى محطات جديدة عالمية».
من يومها والتعاون مع الإيطاليين لم ينقطع. يقول: «علاقتي بزيفيريلي فسحت لي المجال لأن أتعامل مع كل فريق عمله إلى اليوم؛ رحل الرجل وفريقه يتجدد. خلال عقدين، اشتغلت مع من هم في أعمار الثمانين، كما العشرين. وهذه أعدها شجرة ثقافية إبداعية أتشارك فيها مع إيطاليا، فهم فنانون يعملون مع كبريات المسارح، وعندهم إيمان رهيب بمسرح كركلا». التعاون دائم في مجال السينوغرافيا، والإضاءة، والسينوغرافيا الافتراضية، وطريقة بناء ديكورات المسرح، ونقلها خلال الجولات، والتطوير التقني».

- الطفولة البريطانية
انتقل إيفان كركلا منذ كان ابن ست سنوات ليلتحق بمدرسة «الليسيه الفرنسية» في لندن، ويكمل كل تعليمه المدرسي. ففي اليوم الأول لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 أبريل/ نيسان 1975)، كانت فرقة كركلا تقدم في «مسرح اليونيسكو» مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب». وفي حين كانت الفرقة تغادر في قافلة سيارات، تعرضت لإطلاق نار كثيف، وأصيبت أميرة ماجد، واحدة من أعضاء الفرقة، بشلل دائم، و«كانت أمي تقود إحدى السيارات، وأنا بجانبها، وفي المقعد الخلفي فتاتان، إحداهما بترت ساقها. أمي تركت المقود، ونامت فوقي لتحميني، واصطدمت السيارة بحائط أحد المباني. أخرجونا من بين الحطام. يومها، قرر والدي إرسالنا إلى بريطانيا لسنة واحدة، ثم أعادنا لشهور قليلة ظناً منه أن الوضع قد تحسن، لكن الأمر لم يكن كذلك، فعدنا وأنهيت كل دراستي هناك».
كان عبد الحليم كركلا حريصاً على أن يعود إيفان إلى لبنان في كل عطلة، حيث «يأخذني إلى بعلبك، ويصطحبني لزيارة البدو والجيران وأصدقاء جدي؛ لم يحرمنا من هويتنا العربية وتراثنا، وهو ما أفادني كثيراً في حياتي». ربما هذا ما جعل علاقة الابن باللغة العربية متينة؛ يقرأ المسرحيات، ويوافق عليها، وهو معجب بشاعر الفرقة الأثير طلال حيدر الذي يصفه بأنه «نافذة صوب رؤية اللغة العربية من خلال صور مسرحية».

- تربية في كواليس المسرح
إضافة إلى المشاركة في المسرحيات المدرسية في لندن، كان إيفان في العطلات يرافق الفرقة حيث تذهب، وفي أي بلد كانت، ويذكر أن «البداية كانت مع مسرحية (الخيام السود)؛ كنت أحضر المسرحية جالساً على المسرح وراء خيمة. أتابع كل العمل وأحفظه، وأبقى محبوساً لا أغادر قبل انتهاء العرض».
إيفان هو الآخر يصطحب ابنه الذي بلغ الخامسة إلى المسرح، حيث يشارك في التدريبات مع أعضاء الفرقة، ولا يغادر إلا بعد أن يقدم رقصة منفردة. ويقارن إيفان بينه وبين ابنه: «لا أعرف متى دخل في هذه الأجواء. ومن الصعب معرفة متى دخلت أنا إلى المسرح. تربيت في الكواليس، وبدأ والدي يسند إلى المهمات بالتدريج. في السابعة، كنت أحضر المسرحيات مختبئاً وراء خيمة، وفي التاسعة أعطاني علماً ودخلت أتحرك به على المسرح في مسرحية (أصداء). كنت مجرد كومبارس، أعمل في العتالة، أربط الصناديق، أنظف الأحذية، أمسح المسرح. كان ممنوعاً أن أقف مع الفرقة، حتى لو كنت ابن عبد الحليم كركلا. في الرابعة عشرة أديت رقصة صغيرة». وأول دور حقيقي لعبه إيفان كان في مسرحية «حلم ليلة شرق» عام 1992 وعمره 23 سنة.
يقول إيفان: «عرف والدي كيف يربيني في الكواليس من دون توجيه، إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه أنني سأكمل المسيرة في هذا المسرح»، مضيفاً: «حين كنت آخذ دروس الباليه في بريطانيا، أدركت أنني لن أكون راقصاً. علاقتي أكبر بتوجيه المسرحية، بالموسيقى والديكور والكلمة والشعر، وكيف يكون تسلسل المشاهد. أحسست أن طاقتي أهم في الكواليس، وأنني على المسرح لن أكون الأول؛ إحساس تطور بعد أن رافقت زيفيريلي، وجلت معه بكل أعماله». وقد درس إيفان في لوس أنجليس أربع سنوات الإخراج المسرحي، وماجستير لسنتين في الإخراج السينمائي، ثم عاد إلى لبنان ليبدأ مشواره مع فرقة كركلا بـمسرحية «حلم ليلة شرق»، وكان فيها ممثلاً أيضاً.

- التمثيل في السر
لا أحد يعلم أن إيفان يؤدي أدوراً تمثيلية في كل مسرحيات كركلا، فهذا أمر يبقى طي الكتمان؛ يقول إيفان: «أحب التمثيل كثيراً، أصعد إلى المسرح دون أن أُعلم أحداً. يتفاجأون بي. الفرقة باتت تعرف بالطبع، لكن بسبب الماكياج لا يعرفونني أحياناً، ينظرون إلي في أثناء العرض، ويتساءلون: من هذا؟».
ولا يفوت إيفان مسرحية من دون المشاركة فيها تمثيلاً، فذاك شغف لا يتنازل عنه، بالطبع لم نر اسمه بصفته ممثلاً على كاتالوغ مسرحية «زايد والحلم»، لكنه لعب دور زايد في بعض المشاهد، معتبراً أن المخرج أفضل من يمكن أن يؤدي لأنه يعرف المطلوب من الدور.
ويأسف إيفان لأن كثراً لا يقدرون كم الجهد المبذول خلف أعمال كركلا. مدير وعراب الفرقة ودينامو حركتها عبد الحليم كركلا يعمل ما لا يقل عن عشر ساعات في اليوم. لا يمر يوم دون أن يكون عبد الحليم وولداه إيفان واليسار (مصممة الرقص) في المسرح، والراقصون يتدربون. الفرقة لا ترتاح سوى الأحد. خلال الحجر، تواصلت التدريبات عبر «زووم»، بمعدل خمس ساعات يومياً؛ جسد الراقص إذا توقف يفقد ليونته. وأيام يفك الحجر، تجري فحوصات لكل الراقصين، ويعود الجميع إلى المسرح. يقول: «قررنا أن نعيش في فقاعة، كما كل الراقصين في العالم الذين يتعايشون فيما بينهم. نتدرب على أربعة أعمال في وقت واحد؛ يجب أن نبقي الذاكرة حية. دراسات كثيرة أجريت على فنانين حول العالم، وكيف أثرت عليهم العزلة، ونحن نأخذ الأمر بعين الاعتبار».
من الظلم انتقاد فرقة كركلا لأنها أدخلت الغناء إلى عروضها؛ إدخاله جاء نوعاً من التطور، فجمهور الرقص في العالم العربي محدود؛ شعوبنا تميل إلى الغناء. «في أميركا نقدم مسرحاً راقصاً»، يقول إيفان «لأن مزاج الجمهور يتقبل ذلك، في الصين الأمر مختلف. ثم كيف يمكن تقديم مسرحية (زايد والحلم) من دون كلام، أو (بليلة قمر) المقتبسة عن شكسبير، أو (جميل بثينة)؛ هذا كمن يتحدث عن المتنبي بالاستغناء عن شعره!».
يشعر إيفان بأن ثمة إجحافاً، فعبد الحليم كركلا أفسح مجالاً لتطور الرقص في العالم العربي. كثيرون ممن شكلوا فرقاً كانوا تلامذة في فرقة كركلا، وهو شجعهم على الاستقلالية، وهؤلاء من دول عربية عدة. فرقة كركلا بلغت العالمية بعد أن عرضت في بكين أكثر من مرة، وواشنطن ونيويورك وباريس ولندن، وغالبية عواصم الدنيا. كما يرى أن والده أعاد الاعتبار للرقص في العالم العربي، بعد أن قدم تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، وخاطب جماهير العالم بطريقة معاصرة، من دون أن يخسر هويته العربية. يقول: «إذا أردنا محاسبة كركلا، لنسأله ما الذي حققته وأنت تحمل راية لبنان والعالم العربي، لا أن نسأله لماذا أدخلت الغناء على المسرح الراقص؟ ثم إن كان غنائياً أو راقصاً، لنتذكر أن كركلا هي الفرقة العربية الوحيدة التي يعمل راقصوها الخمسون طوال العام من دون توقف. ولا تجمع راقصين ومطربين حين يكون عندها عمل تقدمه، ثم يذهب كل في حال سبيله؛ هؤلاء كالجيش على أهبة الاستعداد. وعلى هذا الجيش أن يبقى مدرباً حاضراً. ولا توجد مؤسسة عربية من هذا النوع عمرها 52 سنة. ومن يريد أن يحاسب كركلا، فعلى هذا يجب أن يحاسب».
وتحضر الفرقة لمسرحية جديدة عن (ملكة سبأ)، شارك في كتابة نصوصها الراحل أنسي الحاج وعبد الحليم كركلا وطلال حيدر. وسيصدر إيفان كتاباً بالعربية والإنجليزية، هو الأول الذي يحكي مسار الفرقة، عنوانه «كركلا في نصف قرن».
وتجاوزت الفرقة صعوبات كثيرة، فـ«كل الفرق التي نعمل معها مدعومة من دول أو مؤسسات؛ نحن كبرنا في هذه البقعة من الكرة الأرضية التي للأسف لا اهتمام فيها بالفن. لا نلوم أحداً لكننا مستمرون؛ وهو أمر ليس بالسهل». ولا ينكر إيفان فضل ملك الأردن الراحل حسين بن طلال على الفرقة، ولا دعم الإمارات وجهات أخرى، لكن الفرقة لم تتمتع يوماً بالاستقرار الذي يسمح بالعمل من دون أرق.
ومع ذلك، تحولت إلى مؤسسة لها راقصوها، ولها مدرسة كانت قبل الجائحة تدرب 1300 طالب، ولديها مستودعاتها وورشها وأرشيفها، ومبناها الخاص الذي شيده عبد الحليم كركلا في بيروت. لذلك «أنا على استعداد لسماع كل الانتقادات، لكن من يريد أن يفعل فليأخذ بعين الاعتبار ما بذلناه من جهد، وما حققناه من دون معونة منتظمة». ولم تتوقف الفرقة عن العرض خلال 15 سنة من الحرب الأهلية، ولم تتوقف أيضاً خلال الجائحة عن التدريبات. «كان سهلاً أن يقول عبد الحليم كركلا لأعضاء الفرقة: ليذهب كل إلى بيته، وبعد انقضاء الجائحة نلتقي من جديد، لكننا لم نفعل، ونتحمل مسؤولياتنا. لن نتوقف بعد 52 سنة، مع أن الوضع خطر، لكننا نواجه».
الحرب الأهلية اجتازها عبد الحليم كركلا، اليوم حرب أخرى يقود مواجهتها إيفان، بدعم من عبد الحليم واليسار، وبمساندة من أصدقاء الفرقة في العالم.


مقالات ذات صلة

انطلاق مسابقة «المسرح المدرسي» بالسعودية... وترقب النتائج في نوفمبر

يوميات الشرق جوائز بقيمة 3 ملايين ريال سعودي تنتظر الفائزين في مسابقة «المسرح المدرسي» (موقع هيئة المسرح والفنون الأدائية)

انطلاق مسابقة «المسرح المدرسي» بالسعودية... وترقب النتائج في نوفمبر

انطلقت مسابقة «مبادرة المسرح المدرسي» التي تشارك فيها ألف مسرحية قصيرة من إعداد الطلاب والطالبات من جميع المدارس التابعة لإدارات التعليم على مستوى السعودية بعد…

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق التمرين على تقديم عروض يتواصل (مسرح شغل بيت)

«مسرح شغل بيت» يحتفل بـ8 سنوات على ولادته

تُعدّ الاحتفالية حصاد 8 سنوات من العمل والاجتهاد، خلالها قدّم «مسرح شغل بيت» نحو 40 عملاً توزّعت على أيام تلك السنوات عروضاً شهرية استمرت طوال أزمات لبنان.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق توقيع اتفاق شراكة بين هيئة المسرح وجمعية المسرح السعوديتين على هامش المؤتمر (جمعية المسرح)

جمعية المسرح السعودية تطلق 8 مشاريع لتعزيز عطاء المبدعين

أطلقت جمعية المسرح والفنون الأدائية في السعودية 8 مشاريع لتعزيز أدوارها في القطاع بوصفها رابطة مهنية للممارسين في مختلف الفنون المسرحية والأدائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مهرجان الخليج للمسرح ينطلق من الرياض في دورته الـ14 (حساب المهرجان على منصة إكس)

«المسرح الخليجي" يستأنف مسيرته من الرياض بعد غياب 10 سنوات

أطلق مهرجان المسرح الخليجي أعماله، في مدينة الرياض، التي تحتضنه للمرة الأولى منذ عام 1988 من خلال دورته الـ14.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق المصنع يشهد النسخة العصرية من مأساة ماكبث (مهرجان المسرح التجريبي)

«ماكبث المصنع»... صرخة مسرحية للتحذير من الذكاء الاصطناعي

في رائعة وليام شكسبير الشهيرة «ماكبث»، تجسد الساحرات الثلاث فكرة الشر؛ حين يهمسن للقائد العسكري لورد ماكبث بأنه سيكون الملك القادم على عرش أسكوتلندا.

رشا أحمد (القاهرة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».