«حصان بابل»... يحرس الجندي الغافي في أرض المعركة

بعد آلاف السنوات التي تبعدنا عن النحات البابلي

منحوتة «الحصان والفارس» لعامر العبيدي
منحوتة «الحصان والفارس» لعامر العبيدي
TT

«حصان بابل»... يحرس الجندي الغافي في أرض المعركة

منحوتة «الحصان والفارس» لعامر العبيدي
منحوتة «الحصان والفارس» لعامر العبيدي

ينظر إلى تاريخ الحضارة إلى حد كبير على أنه تاريخ للأسلحة. وفي تمثال أسد بابل صورة وافية للقوة التي تحطم كل شيء يعترضها. إنها قدرة الملك الطاغية التي لا يقف في طريقها عدو، لا مبالاة كاملة بالآخر الذي هو الغريم، وإذا تخيلنا أن الأسد يحرس بوابة المدينة المقدسة في بابل بلغتنا الرسالة التي يبعثها الملك إلى الآخرين. اللون الأسود ونوع الحجر المستعمل أعطى العمل صفة القداسة.
في لوحته التي أطلق عليها اسم «الحصان والفارس» يحاول عامر العبيدي إدراك العالم بعيني فنان يبتعد آلاف السنوات عن النحات البابلي، وبفهم لمعنى الفن يختلف بالطبع. فالأسد صار حصاناً، والعدو صار فارساً، والحجر الصلد تفتت إلى ألوان تسيل على القماش. هذه الاختلافات، مع الإبقاء على الانتماء في الشكل إلى الأصل، تحمل إلى جمهور المتلقين رسالة فيها تأكيد على أن الفن الحديث تختلف دواله بالكامل، فهو يتجه أولاً إلى الفرد، يحصن فردانيته، ويعمل على تأسيس حضاري قوامه الحرية. حتى الألوان تم توظيفها من خلال هذه الرؤية، فالأحمر صار يمثل الشهوة للحب بدلاً من التطلع إلى إفناء الآخر، إنه أحمر بارد حيادي ليس حارا متطرفاً، كما أنه يتفتح بقدر كبير من الفطرة السليمة، الروح المرحة الراقصة والقتالية ينقلها إلينا الفنان عن طريق الألوان الباذخة في اللوحة، السرج والرسن والعنان مزينة كأنما بمجوهرات عروس، البهجة الطافحة في رقصة الحصان تنقلنا إلى طقوس شرقية في الدين وفي الدنيا، وفي هذا كله رفض منيع لفوضى الحرب التي نراها محدودة جدا وتمثلها قطرة لعاب بيضاء كأنها توشك أن تسقط من ناب البهيمة التي تحرس الفارس النائم، وهناك التفاتة كاملة للرأس والرقبة الجسيمة إلى الخلف، حيث الجهة التي يحيطنا منها العدو الغادر. الشر حين يكون مبتذلا يكون بصورة عدو تقوم قوته على فعل الغدر.
تقل قيمة الأفكار القتالية شيئا فشيئا بوجه الجمال، وتكاد تختفي. الأبيض القليل في فم الحصان المفتوح المتأهب للصياح والحرب كأنما لا وجود له، تطغى عليه اللمسات البيض في الأنف والوجنة والرقبة الجسيمة. الفارس نائم، لكنه ليس موهون العزيمة، والحركة في الشفتين لا يجيدها غير العاشق، بالإضافة إلى لطخة الأخضر في القدمين. الرمال الصفر تبين في اللوحة ولا تبين، القمر ونجومه اللامعة يبين ولا يبين، وكذلك الظل الأسود الذي يلقيه السيف والترس على الرمل. لا يهم من الذي ينتصر، العدو المختفي أم الفارس المستريح في إغفاءته المنتشية بالوجود، الأهم في الأمر هو أن الحصان أدى دور الحارس في اللوحة بنجاح، مشهد نقترب فيه من نصب أسد بابل الشهير، الحارس الأبدي للمملكة القائمة في أحلام كل منا، ذلك القدر الرهيب المستعاد من الماضي - والذي بلا سبب معروف - لم يوهب لنا. يكشف العبيدي لنا في اللوحة حقيقة مغايرة: بات قدر الفارس الآن مختلفاً، فلا أسد هناك ولا عدو يتحطم بين البراثن، ولكن حافرا صلبا مسالما وسعيدا يؤدي رقصته، يدوس العشب أو السجادات فقط، ويحرس في الوقت نفسه الجندي الغافي على أرض المعركة.
يمر مشاهد لوحة «استراحة الفارس» بتجربة إبصار من نوع خاص وفريد لأن أمامه لوحتين يعيش مع أحدهما من الداخل والأخرى تحيطه بمعانيها المعروفة لديه سلفاً من الخارج. وليس من باب المغالاة القول إنه لا ينتهي من عملية المشاهدة بالانتقال إلى لوحة أخرى أو مشهد بصري آخر. إن تأثيرها يبقى في نفسه أمدا طويلا، وسوف تتولد منه أفكار وتأملات وربما رغبات وتحديات وأفعال تختلف عما يقوم به في السابق، وقد يدخل المتلقي لهذا العمل في متاهات لا تؤدي، أو يعلمه رموزاً هي مفاتيح موسيقى روحية تعود به إلى منابع الشعر، فيجد نفسه يصغي إلى أناشيد بابلية لا يعرف لها معنى لكنها تسكن قلبه مباشرة لأنها حميمية جدًا وفيها إغواء سام، تتحد فيه فضة صوت المنشد مع ضياء القمر.
يريد عامر العبيدي أن يوقظ فينا الأحاسيس الثاوية في أعماق البشر فيما يتعلق باستخدام الجمال سلاحا في الحرب. تلك الأحاسيس التي أضعفت وأميتت، ويهيج فينا الشوق العارم لإعادة بناء عالم أفضل. لوحة «استراحة الفارس» هي فعل من أفعال التمرد ضد كل الكراهية التي تجعل البشرية رهينة لها على مدار سنوات طويلة جدًا مر بها بلد الفنان: العراق. لهيب التمرد يجب أن يبقى مشتعلاً على الدوام كي لا يحدث شيء كهذا من جديد. يمثل أسد بابل مكانة بابل بين الأمم، ويجلل بلاد بابل المحتلة من أكثر من عدو في الوقت الحاضر بالعار، لكنه يبقى قدر أهل هذه الديار، يخبرهم في رسالة موجزة للغاية بأن القوة هي التي تجبر هذا الشعب الكسول على العمل، بوق سري ينادي عليهم كي ينفضوا عنهم أسمال الفقر الحضاري الذي يتآكلهم منذ عقود، ويظهروا على حقيقتهم.
قد تنسى اللوحة بمرور الزمن لكن تأثيرها في النفس وفي الذهن لا يمحى لأنه تغلغل ثمة، وتفرعت دلالاته وتشعبت. البناء الذي يقوم على مواد عمران قديم يكون أمتن من العمارة الأولى لأنه يجمع إلى زمنه عشرات أو مئات أو ألوف السنين التي هي عمر المادة الخام التي ازدادت صلابة وصارت حجراً حديدا. الرؤية صارت اثنتين، والفكر غدا اثنين، وما نحصل عليه في النتيجة هي لوحة جديدة تختلف عن الأصلين، وتتقاطع معهما، وتتقدم عبر الزمان. وبسبب هذا يكون ما قام به الرسام إنجازاً فنياً خطيراً وجادًا على أكثر من مستوى. إن الفن يخفي أسراره قدر المستطاع، غير أن اللوحة الجديدة مكشوفة أمام الجميع لأنها تشكلت بدوال معروفة وسهلة ومتاحة للجميع، فليس هناك أكثر شهرة من تمثال أسد بابل في الشرق، وفي الغرب أيضاً، فقد اتحد هذان في الماضي أكثر مما هو الآن رغم التطور الذي حصل في طرق الاتصال.
بعد مشاهدة اللوحة، يتمكن الجميع أن يشعر بظل الأسد الحارس، وهكذا ينزل الجمال سلاحا بمنزلة هاجس لا يكاد يفارقنا، وعلينا أن نرفع أبصارنا إليه. نقرأ في الكتاب المقدس: نشيد الإنشاد (10:6): «من هي المشرفة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية». إن الرب يهدد البشر الضال بالمرأة الحسناء، فهي الراووق الذي يصفي أعمالنا، ويختار الأصلح منها ثوباً أبيض ترتديه المرأة الطاهرة، ويحارب الرب به الخطيئة مثلما ينزل في الميدان جيش بألوية.
الجمال ينتخب نفسه بنفسه، ويقوي نفسه بنفسه، وما من سبيل لتجنب العواطف الداخلية التي يجعلنا الجمال نشعر بها بقوة على الدوام. بغيابه يتجه العالم حتماً صوب الفوضى. الجمال يحرس ويحمي ويقاتل ويندفع، وفي الأخير يغلب. الشعوب التي لا تعد الفن سلاحاً كتب عليها أن تعيش في اللاشيء. الجمال درع حصين لا يمكن كسره، والحصان ليس أسدا فحسب، إنما هو جيش بألوية.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!