السفر في 2021... آمال في اللقاح وعودة رحلات رجال الأعمال

آمال بانتقال الأشخاص من مرحلة البحث عن رحلات عبر الإنترنت إلى حجزها بالفعل (أ.ف.ب)
آمال بانتقال الأشخاص من مرحلة البحث عن رحلات عبر الإنترنت إلى حجزها بالفعل (أ.ف.ب)
TT

السفر في 2021... آمال في اللقاح وعودة رحلات رجال الأعمال

آمال بانتقال الأشخاص من مرحلة البحث عن رحلات عبر الإنترنت إلى حجزها بالفعل (أ.ف.ب)
آمال بانتقال الأشخاص من مرحلة البحث عن رحلات عبر الإنترنت إلى حجزها بالفعل (أ.ف.ب)

ظل عالم السفر في دوامة في 2020. فحتى مع بدء حملات التطعيم ضد «كوفيد- 19» في الولايات المتحدة وأوروبا، أغلقت الدول حدودها أمام الزوار من المملكة المتحدة، وذلك بسبب ظهور سلالة جديدة من فيروس «كورونا» المستجد. وفي حين أن عدد الأشخاص الذين يسافرون في الولايات المتحدة قد بات آخذاً في الارتفاع مرة أخرى؛ حيث وصل إلى مليون شخص في اليوم في عطلة نهاية الأسبوع قبل عيد الميلاد، فإنه لا تزال مجموعة من أنظمة الحجر الصحي والاختبارات سارية في أجزاء كثيرة من البلاد.
وفي جميع أنحاء العالم، تسبب «كوفيد- 19» في مقتل أكثر من 1.5 مليون شخص، ومرض ملايين آخرين، والإضرار بالاقتصادات، ومن بين جميع الصناعات التي عانت من تأثيره المدمر، فقد تضررت صناعة السفر بشكل لا مثيل له.
وصحيح أن صناعة السفر قد تضررت من قبل بسبب كوارث سابقة؛ حيث أصبحت تدابير السلامة التي تم وضعها بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بمثابة جزء أساسي من تجربة السفر، وليس من الواضح بالضبط ما هي التغييرات التي قد تطرأ على مشهد السفر بعد عام من الآن، أو بعد 10 سنوات، ولكن يبدو أن بعض الإجابات قد بدأت في الظهور.
فمع اقتراب العام الجديد، نظرنا في عدد من أكثر الاستفسارات إلحاحاً التي تواجه صناعة السفر والمسافرين، وإليكم الإجابات.
> هل سأحتاج إلى إثبات أنني قد تلقيت التطعيم ضد «كوفيد- 19» للسفر؟
- في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلنت خطوط «كانتاس» الجوية أنه بمجرد توفر لقاح لفيروس «كورونا» المستجد، سيحتاج الركاب الذين يأملون في السفر على متن شركة الطيران إلى إثبات أنهم قد تلقوه. ووصف آلان جويس، الرئيس التنفيذي للشركة، الحاجة إلى إثبات التطعيم بأنها «ضرورة». وقال: «من خلال حديثي مع زملائي في شركات الطيران الأخرى حول العالم، فإن هذا الأمر سيكون شائعاً».
ويختبر عديد من شركات الطيران حالياً التكنولوجيا لتبسيط عملية التوثيق الصحي، بما في ذلك تطبيقات الصحة الإلكترونية، لضمان قدرة المسافرين على تقديم بياناتهم الصحية بطريقة آمنة وقابلة للتحقق.
وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كانت هناك حاجة إلى وجود استمارة أو شهادة صحية شاملة للسفر؛ لأن ذلك سيتطلب مشاركة من دول ومنظمات مختلفة، ولكن هذا قد حدث من قبل بالفعل، فقد تم إنشاء الشهادة الدولية للتطعيم أو الوقاية، المعروفة لدى كثيرين باسم البطاقة الصفراء، في منتصف الثلاثينات من قبل منظمة الصحة العالمية؛ حيث يتم استخدامها كدليل للتطعيم ضد عدة أمراض، ولا تزال بلدان عديدة تطلب إثباتاً للحصول على بعض التطعيمات عند السفر إليها.
وهناك طلب شائع من الناس في جميع أنحاء الصناعة، وهو أن تعمل الحكومات معاً لتوحيد متطلبات الاختبار والتطعيم. فعلى سبيل المثال، يجب أن يعرف المسافرون الذين تم تطعيمهم في الولايات المتحدة أن التطعيم والتوثيق الخاص بهم صالح في تايلاند، والعكس صحيح.
> كم من الوقت يجب أن أنتظر حتى يتم السفر؟
- مع إعطاء اللقاحات المعتمدة في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة وأماكن أخرى، يأمل المطلعون على الصناعة أن ينتقل الأشخاص من مرحلة البحث عن رحلات عبر الإنترنت إلى حجزها بالفعل.
وكتب سكوت كيز، مؤسس «Scott’s Cheap Flights»، وهي منصة حجز طيران عبر الإنترنت، في رسالة بريد إلكتروني حديثة: «لقاح فيروس (كورونا) الآمن والفعال والموزع بشكل جيد سيكون بمثابة العمود الفقري للعودة إلى الحياة الطبيعية للسفر، فالأخبار السارة على جبهة اللقاحات هي أخبار رائعة على جبهة السفر».
وقد صرح كبير خبراء الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، أنتوني فاوتشي لصحيفة «تايمز» البريطانية، هذا الشهر، قائلاً: «أعتقد أن الأمر سيكون تدريجياً، فلا يوجد أبيض وأسود فقط».
وحتى يتم توزيع اللقاح على نطاق واسع، سيظل اختبار فيروس «كورونا» بمثابة جزء أساسي من تجربة السفر، وذلك قبل السفر وبعده، وأتوقع أن يتم تقديم الاختبار كوسيلة راحة في عدد متزايد من الفنادق، ومع ذلك، فإنه بالنسبة لكثير من العاملين في الصناعة، ستكون اللقاحات بمثابة سبب للأمل.
> متى سأسافر للعمل مرة أخرى؟ وماذا عن أميال المسافر الدائم المجانية الخاصة بي؟
- كان هذا العام هو العام الذي توقف فيه السفر من أجل العمل، كما تعرضت للخطر أيضاً أرصدة نقاط الولاء التي يحصل عليها المسافرون بشكل متكرر من رجال الأعمال وغيرهم بشكل مجاني؛ حيث بدت الأميال والنقاط أقل قيمة؛ لأنه لم يكن هناك أحد يسافر في 2020.
ويقول الخبراء إن برامج النقاط بعيدة كل البعد عن التوقف، مستشهدين بوجود برامج جديدة قد تسمح للناس باستخدام النقاط مثل النقود بسهولة أكبر على أشياء أخرى غير تذاكر الطيران.
وقال بريان كيلي، مؤسس موقع «The Points Guy»، وهو موقع سفر مخصص لبرامج النقاط المجانية على السفر، إن «معظم شركات الطيران قد قامت بزيادة قيمة نقاطها من خلال التخلص من الرسوم»، وأشار أيضاً إلى أنه تم إسقاط رسوم تغيير مسارات الرحلة أو استرداد الأميال في الرحلات الملغاة.
ولا يزال بنك النقاط ينمو إلى حد ما بفضل بطاقات ائتمان مكافآت السفر التي توسعت لتقديم مكافآت على أشياء مثل شراء البقالة أثناء الوباء، كما تشير زيادة فرص السفر مع التوزيع الواسع للقاحات إلى أن المنافسة على استرداد قيمة التذاكر قادمة. ويقول فيك كريشنان، من شركة «McKinsey & amp» للسفر، إن «شركات الطيران ستحرص على عدم تعريض ولاء العملاء للخطر بمجرد انحسار هذه الأزمة».
ويتوقع معظم المحللين أن يكون الدافع وراء أي انتعاش للسفر على المدى القريب هو السفر بغرض الترفيه للذين هم في أمسِّ الحاجة لقضاء إجازة أو الذهاب في زيارة للعائلة، وليس السفر بغرض العمل.
وبصرف النظر عن المخاوف الصحية وتجميد السفر لدى الشركات المختلفة، فإن المسافرين من رجال الأعمال يحتاجون إلى مكان يذهبون إليه، كما أن إشغال المكاتب حالياً قد بات منخفضاً جداً، ولذا فإنه لا يوجد سبب حقيقي للسفر إلى مدينة ما؛ حيث تشير البيانات إلى أن متوسط ​​إشغال المكاتب يصل لحوالي 24 في المائة على الصعيد الوطني.
ومن المتوقع أن تنتعش رحلات العمل في الربع الثالث من 2021. كما تتوقع شركة «McKinsey & amp» أنه لن يحدث التعافي الكامل قبل 2023 أو ما بعده.
وقبل أن يتمكن المسافرون من رجال الأعمال من استئناف تجميع النقاط بشكل جدي، فإنه يمكننا توقع مزيد من الطرق لاستخدامها، ومع ذلك، قد يكون العام المقبل هو الوقت المناسب لحجز رحلة كبيرة بالنقاط، عندما يكون ذلك آمناً، وذلك لأن تخفيض قيمة العملة سيكون أمراً لا مفر منه.
وقال أليكس ميلر، الرئيس التنفيذي ومؤسس موقع «UpgradedPoints.com»، وهو موقع مخصص لزيادة النقاط: «أعتقد أن ما قد يحدث هو زيادة في القيمة في كيفية استخدام النقاط في الأرباع الأولى من 2021»، وبعد ذلك نتوقع «انخفاضاً بطيئاً في قيمة هذه النقاط في نهاية العام وحتى 2022».
* خدمة {نيويورك تايمز}



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)