تحديات جائحة «كوفيد ـ 19» في المؤتمر الافتراضي الدولي الخامس لـ«طب الأسرة»

الرعاية العلاجية التفاعلية تحولت إلى رعاية وقائية توعوية تعزيزية

الدكتور أشرف أمير
الدكتور أشرف أمير
TT

تحديات جائحة «كوفيد ـ 19» في المؤتمر الافتراضي الدولي الخامس لـ«طب الأسرة»

الدكتور أشرف أمير
الدكتور أشرف أمير

اختتمت مساء يوم أمس (الخميس) 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أعمال «المؤتمر الدولي الخامس لطب الأسرة» الذي أقامه المركز الطبي الدولي بجدة ممثلاً في قسم طب الأسرة، وبشراكات قوية ومتميزة شملت العديد من المنظمات والجمعيات العلمية الدولية والمحلية، وفي مقدمتها الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع والمنظمة الدولية لأطباء الأسرة (WONCA)، ومجلس الضمان الصحي التعاوني، والمجلس الصحي السعودي والمجلس العلمي لطب الأسرة بالهيئة السعودية للتخصصات الصحية والجمعية السعودية للرعاية الصحية المبنية على البراهين والبرنامج المشترك لطب الأسرة والمجتمع بجدة. صرح بذلك، لـ«الشرق الأوسط»، رئيس المؤتمر استشاري طب الأسرة الأستاذ الدكتور أشرف عبد القيوم أمير، مؤكداً أن هذا المؤتمر حقق نجاحات كبيرة في خدمة الأطباء والمتخصصين في مجال طب الأسرة والمجتمع، ليس فقط في المملكة وحدها، وإنما على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي وكثير من الدول العربية، من خلال 42 ورقة عمل علمية وبحثية قدمها أساتذة وعلماء من داخل المملكة وخارجها، تطرقت لمناقشة مجموعة من القضايا والمواضيع المتعلقة بمستقبل طب الأسرة محلياً وعالمياً ودور طبيب الأسرة في تطوير منظومة الرعاية الصحية الأولية، والتحول إلى نظام صحي يُعنى بالرعاية الصحية المبنية على القيمة والمردود، والجديد في منهجيات الوقاية والعلاج لكثير من الأمراض والمشاكل الصحية العضوية والنفسية أثناء جائحة «كوفيد - 19».
- نجاح الممارسة السريرية
وفي هذا الموضوع، سوف نقدم جانبين مهمين؛ أحدهما لمتحدث محلي يتعلق بسر نجاح الممارسة السريرية، والآخر لمتحدث عالمي عن تحديات ومسؤوليات طبيب الأسرة خلال الجائحة وما بعدها.
تحدث في المؤتمر الأستاذ الدكتور أشرف أمير، وأوضح الحاجة الملحة لأنسنة النظام الصحي الذي هو في أصله يقوم علي الإنسانية، وقد اعتراه في عصرنا الحديث الكثير من الفتور والبرود في إدارة المشاعر والعواطف الإنسانية التي تربط المريض بطبيبه بعلاقة صحية متوازنة تجعل من التقاء الطرفين لقاء حميمياً وثرياً. وهذا ما يتجلى بوضوح في الاستشارة الطبية عندما يلتقي المريض بطبيبه، فبالرغم من أن المسافة الجسدية التي تفصلهما لا تتجاوز بضعة سنتيمترات، فإن التباعد العاطفي بين الطرفين قد يمتد إلى عدة أميال بسبب انشغال الطبيب عن مريضه بالاطلاع والتحديق بشاشة الكومبيوتر، دون إعارة المريض بعض الاهتمام باستراق النظر إليه والتحدث معه.
وأجاب عن التساؤل الذي يحير كثيراً من الأطباء ولا يجد جواباً شافياً له، وهو: لماذا لا تنجح خطتهم العلاجية في السيطرة على الأمراض لدى مرضى الأمراض المزمنة، بالرغم من بذل قصارى الجهد في وصف العلاج الناجع واستخدام أحدث التقنيات العلاجية تطوراً وتعقيداً؟ فأوضح أن الإجابة تكمن لدى من يغوص في أعماق المشكلة ويقوم بتحليل الواقعة، فيجد أن علاج المريض ليس فقط جسدياً بل عقل وجسد وروح. فالنظام الصحي القائم على العلاج الجسدي للمريض يفتقر إلى العلاج الشمولي والمتكامل الذي يحقق كمال الصحة وتمام العافية. فالصحة بتعريف منظمة الصحة العالمية حالة من التكامل الجسدي والنفسي والاجتماعي والروحي وليس مجرد الخلو من المرض أو الإعاقة.
وهنا يؤكد البروفسور أشرف أمير ضرورة أن يضيف الطبيب إلى مهاراته السريرية إضافة تتلمس هذه الجوانب وتبرز الشفقة والعطف والرحمة لتجعل من الطبيب الجامد إنساناً مرهف الحس يتفاعل مع مريضه ليتلمس احتياجاته ويعيش معاناته، ومن ثم يقدم للمريض ما يحتاجه من مساعدة ومساندة.
كما أكد ضرورة تطوير الطبيب لمهاراته في التواصل والتفاعل مع المريض، سواء كان التواصل لفظياً بانتقاء الكلمات والمفردات أو غير لفظي باستخدام لغة الملامح والجسد.
- جائحة «كورونا»
أما حول التحديات ومسؤوليات أطباء الأسرة في ظل جائحة كورونا، فتحدثت في المؤتمر البروفسورة جنان أوستا (Jinan Usta) رئيسة المنظمة الدولية لأطباء الأسرة (WONCA) في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
لقد ألحقت هذه الجائحة بدول العالم، منذ سنة تقريباً، تغييرات مختلفة أصبحت معياراً تقيس به الدول كيف كانت وكيف أصبحت حياة البشرية قبل وبعد جائحة كورونا. وحتماً غيرّت الكثير في حياتنا، في طريقة المصافحة والتحدث وعقد اللقاءات والاجتماعات عن «بُعد»، وحتى التعليم أصبح افتراضياً في كثير من دول العالم.
أما القطاع الصحي، فقد أثقلت كاهله هذه الجائحة، فالعيادات الخارجية والجراحات الاختيارية لم تعد كما كانت في السابق، ودعم المناطق النائية توقف بعد أن أثقلته الظروف والصعاب، ونظام الرعاية تحول من رعاية علاجية تفاعلية إلى رعاية وقائية توعوية تعزيزية تعتمد على المجتمع بتعدد أطيافه، الأسباب الجذرية لحالات الوفاة تحولت إلى منهجية تعتمد على إدراج الأسباب الأساسية للحياة ومعرفتها والبقاء بصحة جيدة ومعافاة دائمة على ظهر هذا الكوكب. لذا هنالك تغير واضح في فلسفة الطب ونظرته بحلة جديدة على واقع الحياة.

- التحديات
إن التحديات التي تواجه الأطباء في الصفوف الأولى من الصروح الطبية تتعدد أسبابها وأشكالها ويمكن تلخيصها كما يلي:
> محدودية المعرفة بالمرض ذاته، وهو فيروس كورونا المستجد، فما نجهله حيال هذه الجائحة أكثر مما نعرفه في واقع الأمر. فكان هنالك عجز في التمييز بين الأفراد بدقة من الناحية التشخيصية سريرياً ممن يعاني من أعراض نزلات البرد والحمى والتهاب القصبات الهوائية، والأفراد الذين وقعوا في براثن جائحة فيروس كورونا. وأيضاً هنالك عجز في معرفة من سيعاني من بعض الإصابات البسيطة في الجهاز التنفسي، ومن سيضطر ليدخل وحدة العناية المركزة.
> كان هناك تحدٍ كبير جثم أمامنا فشاهدنا كثيراً من الناس ممن ينعمون بالصحة والعافية يلقون حتفهم بين عشية وضحاها دون سابق إنذار.
> التحدي الزمني، فلا أحد يعرف إلى متى ستعصف بنا هذه الجائحة والأزمة الاجتماعية والاقتصادية، ومتى ستنتهي وما حجم الخطر الذي ستخلفه على الصعيد العالمي. فلو عرفنا أنها ستبقى لبضعة أشهر أو سنة لأمكننا أن نحدد ونوجه مصادرنا وكيف نستغلها، لكن حتى الآن لا نعرف متى سترحل هذه الجائحة عنا. الخبر الجميل الذي يثلج الصدر هو أن اللقاح سيبصر النور قريباً وسنقطف ثماره ونخنق به هذه الجائحة. لكننا نحتاج إلى أكثر من 6 أشهر، أو ربما إلى سنة، لنرى كيف تلملم هذه الجائحة خيباتها وترحل بلا رجعة.
وتكمن التحديات الأخرى في طريقة ممارستنا للطب والممارسات السريرية على وجه الخصوص. هنالك طرق جديدة للعمل، فلم نعد نرى المريض مراراً وجهاً لوجه كما كان العهد سابقاً. نتخذ قرارات بشأن المريض دون رؤيته ولا معرفته وصرنا نعتمد على مشاهدة الفيديوهات للمريض لاتخاذ قرار طبي لمرض أو لمعاناة ما ومن ثم نصف الدواء. وأصبحت ممارسة طب الأسرة بطرق تنأى بها أنفسنا عن رؤية المريض وهذه الممارسة غير مناسبة ولا تنسجم مع مهنة طب الأسرة والتي تبرز فيها الثقة القائمة ما بين الطبيب والمريض لأنها مهمة للغاية. وهذا من شأنه أن يؤثر على العلاقة بين الطبيب والمريض وتؤثر حتماً على طريقة ممارسة مهنة الطب وتؤثر أيضاً على جوهر النجاح.
> النقص الحاد في المواد الطبية الأساسية، ففي كثير من الدول بات الطبيب يعالج مرضاه دون ارتداء الكمامات من الطبيب والمريض، إضافة إلى النقص في أجهزة التنفس والأدوات الوقائية، والأهم من كل هذا العنصر البشري، وهو الإنسان بقيمته وقدره.
> لقد انتاب الناسَ الذعرُ والخوفُ من هذه الجائحة، ما ولد لديهم مشاكل نفسية وعاطفية أثقلت كاهلهم، إضافة إلى أن إقفال ومنع التجوال وإغلاق الحدود والانعزال قد عكر الجانب العاطفي والنفسي لكثير من الناس. ولا نغفل مدى تأثير ذلك على الجانب العاطفي والمعنوي وحسن التعامل مع المرضى، فأصبحت هناك مسارات مختلفة وحرجة للغاية.
> تعرض كثير من الفرق الطبية وأطباء الأسرة، خصوصاً ممن يعملون في الخطوط الأمامية، للعدوى بالمرض والحجر الصحي، وقد توفي بعض منهم في دول عديدة من العالم.
> تحديات أخرى نالت من الجانب التعليمي الأكاديمي، فلقد أثرت الجائحة على طريقة تقديم المعلومات الطبية وبات التعليم في الكليات الطبية قائماً على الإنترنت والدروس عن بُعد، خصوصاً في سنوات ما قبل المرحلة السريرية. ولو نظرنا إلى الطريقة التي يتم تقديم العلاج للمرضى هذه الأيام فإنها ستؤثر حتماً على خريجي كليات الطب وجودة الطبيب ومعرفته وممارسته السريرية.
> لقد تغيرت المناوبات وأوقات الدوام والجداول الزمنية لتلبية الحاجة الملحة للرعاية الطبية في ظل جائحة كورونا.
- المسؤوليات
إن مما تفخر به مهنة الطب أن منسوبيها ومنهم «أطباء الأسرة» قد أدوا أدواراً مهمة بجدارة وتحملوا مسؤوليات جسيمة في الأوقات العصيبة للجائحة، نذكر منها ما يلي:
> أطباء الأسرة هم جنود خط الدفاع الأول والعمود الفقري وعصب نظام الرعاية الصحية، من أهم مسؤولياتهم تحديد التشخيص والتخصص والجناح المناسب ليتلقى فيه المريض علاجه المناسب بالاستعانة بالفحوصات السريرية والمخبرية والإشعاعية.
> عليهم تخفيف الأعباء على الخدمات الطبية العليا وتقليل التكلفة على الرعاية الصحية بتحديد الحالات الحرجة من عدمها، وإمكانية إرسال المريض إلى بيته لإكمال علاجه.
> الحماية والوقاية، فلا ننسى الدور البارز لأطباء الأسرة سواء إبان انتشار الوباء الحالي أو سابقاته من الأوبئة مثل مرض إيبولا ووباء إنفلونزا الخنازير (swine flu, H1N1)، الذي كان شبيها جداً في خطورته بجائحة كورونا، ولم يوجد له علاج.
> طبيب الأسرة يساعد الحكومات في اتخاذ القرارات المهمة ويحدد المصادر وكيف يمكن استخدامها وترشيدها.
> طبيب الأسرة يؤدي دوراً في عدم التمييز في استخدام مضادات الفيروسات عند توفرها ويحدد بطريقة متوازنة وعادلة الذين يحتاجونها بصورة عاجلة ويستجيبون لها أكثر من غيرهم، بعد وضع قوانين وبروتوكولات وأنظمة تحكم ذلك.
> يؤدي دوراً في عملية المراقبة والمتابعة، وكونه في الخط الأمامي فهو أول من يشعر بارتفاع عدد الحالات وأهميتها ودرجة الحرج فيها ويستشعر بالإنذار المبكر لأي حالات متجددة لأمراض خطيرة.
> اكتشاف الأشكال الجديدة للأمراض التي اختفت زمناً وعادت بحلة جديدة.
> من خلال الزيارات الميدانية للمرضى بشكل أسبوعي يمكن لطبيب الأسرة أن يتعرف على مستوى الموجة فيما إذا كان فيروس كورونا يزداد أم ينقص، ومدى تغير أعراضه والمقارنة مع أمراض أخرى.
> دور طبيب الأسرة في الوقاية ومنع الإصابة من أمراض خطيرة بتعزيز إعطاء اللقاحات كلقاح الإنفلونزا، حالياً، لتخفيف تداعيات نزلات البرد التي تتطلب الدخول للمستشفى.
> دور طبيب الأسرة في تبديد الخرافات الطبية والاجتماعية بالرأي الطبي العلمي القائم على الدليل والبرهان وتوعية المجتمعات وتصحيح الأخبار التي تتناقلها المواقع الإلكترونية.
> حل كثير من المشاكل الصحية الجسدية والنفسية المكلفة على المرضى في جلسة واحدة وتقديم الخدمات الطبية عن بعد وصرف الوصفات الطبية بطرق ميسرة وآمنة.
وأمام كل ما يقدمه طبيب الأسرة للآخرين، تقع عليه مسؤولية الاهتمام بنفسه ورعاية صحة أسرته والاهتمام بالجانب العاطفي والنفسي والاجتماعي في حياته وممارسة الرياضة، حتى يتمتع بالصحة والحيوية والرفاهية النفسية العالية ويواصل تقديم الدعم الصحي والطبي للغير، سواء في وقت السلم أو الأزمات.

- استشاري طب المجتمع


مقالات ذات صلة

8 إشارات تنبهك بها قدماك إذا كنت تعاني من مشاكل صحية

صحتك تورم القدمين قد يشير لعدد من المشكلات الصحية (رويترز)

8 إشارات تنبهك بها قدماك إذا كنت تعاني من مشاكل صحية

قالت صحيفة «إندبندنت» البريطانية إن الأقدام يمكن أن تساعد على التنبيه بوجود مشاكل صحية إذ إن أمراضاً مثل القلب والسكتات الدماغية يمكن أن تؤثر على القدمين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك الصين تقول إن فيروس «إتش إم بي في» عدوى تنفسية شائعة (إ.ب.أ)

الصين: الإنفلونزا تظهر علامات على الانحسار والعدوى التنفسية في ازدياد

قال المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها، الخميس، إنه رغم ظهور علامات تباطؤ في معدل فيروس الإنفلونزا بالبلاد، فإن الحالات الإجمالية للأمراض التنفسية.

«الشرق الأوسط» (بكين)
صحتك 7 حقائق قد تُدهشك عن «الخل البلسمي» وتأثيراته الصحية

7 حقائق قد تُدهشك عن «الخل البلسمي» وتأثيراته الصحية

خل البلسميك خل عطري مُعتّق ومركّز، داكن اللون وذو نكهة قوية، مصنوع من عصير كامل عناقيد العنب الأبيض الطازج المطحون، أي مع جميع القشور والبذور والسيقان.

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)
صحتك اختلاف تكوين المخّ قد يدفع إلى تعاطي المخدرات

اختلاف تكوين المخّ قد يدفع إلى تعاطي المخدرات

كشفت دراسة عصبية حديثة، عن احتمالية أن يكون لشكل المخ وتكوينه الخارجي دور مهم في التوجه إلى تجربة المواد المضرة في سن مبكرة، ثم إدمانها لاحقاً في مرحلة الشباب.

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك التمر كنز غذائي ودوائي يعزز الصحة

آفاق جديدة للابتكار في أبحاث الطب النبوي

تنطلق في مدينة بريدة بمنطقة القصيم، صباح يوم غدٍ السبت الحادي عشر من شهر يناير (كانون الثاني) الحالي 2025 فعاليات «المؤتمر العالمي السادس للطب النبوي»

د. عبد الحفيظ يحيى خوجة (بريدة - منطقة القصيم)

هل تتسبب العدوى في بعض حالات ألزهايمر؟

هل تتسبب العدوى في بعض حالات ألزهايمر؟
TT

هل تتسبب العدوى في بعض حالات ألزهايمر؟

هل تتسبب العدوى في بعض حالات ألزهايمر؟

ما سبب مرض ألزهايمر؟ أجاب عالم الأعصاب رودولف تانزي، مدير مركز ماكانس لصحة الدماغ بمستشفى ماساتشوستس العام، التابع لجامعة هارفارد، قائلاً: «قضيت معظم حياتي المهنية في محاولة الإجابة عن هذا السؤال».

وأكد تانزي أن السؤال مهم، ويتعين العمل على إيجاد إجابة له، خصوصاً أن مرض ألزهايمر يمثل الشكل الأكثر شيوعاً للخرف في كثير من البلدان. وعلى سبيل المثال، داخل الولايات المتحدة، يعاني ما لا يقل عن 10 في المائة من الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً من ألزهايمر.

ومثلما الحال مع معظم الأمراض، ربما يرجع مرض ألزهايمر إلى مزيج من الضعف الوراثي، ومعاناة المريض من حالات طبية أخرى، بجانب عوامل اجتماعية وأخرى تتعلق بنمط الحياة. واليوم، يركز العلماء اهتمامهم على الدور الذي قد تلعبه العدوى، إن وُجد، في تطور مرض ألزهايمر.

كشف الأسباب البيولوجية

جاء وصف مرض ألزهايمر للمرة الأولى عام 1906. ومع ذلك، بدأ العلماء في سبر أغواره والتعرف على أسبابه قبل 40 عاماً فقط. واليوم، ثمة اتفاق واسع النطاق في أوساط الباحثين حول وجود جزيئين بمستويات عالية في أدمغة الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر: أميلويد - بيتا amyloid - beta أو «ببتيد بيتا النشواني»، الذي يشكل لويحات في الدماغ، وتاو tau، الذي يشكل تشابكات. ويساهم كلاهما في موت الخلايا العصبية الدماغية (العصبونات) المشاركة في عمليات التفكير؛ ما يؤدي إلى الخرف.

من بين الاثنين، ربما تكون الأهمية الأكبر من نصيب أميلويد - بيتا، خصوصاً أنه يظهر في وقت أبكر من تاو. وقد أظهر تانزي وآخرون أن الأشخاص الذين يرثون جيناً يؤدي إلى ارتفاع مستويات أميلويد بيتا يُصابون بمرض ألزهايمر في سن مبكرة نسبياً.

الملاحظ أن الأشخاص الذين يرثون نسختين من الجين APOE4. أكثر عرضة لخطر الإصابة بمرض ألزهايمر، لأنهم أقل قدرة على التخلص من أميلويد بيتا من الدماغ.

الالتهاب العصبي

هناك قبول متزايد في أوساط العلماء لفكرة أن الالتهاب في الدماغ (الالتهاب العصبي Neuroinflammation)، يشكل عاملاً مهماً في مرض ألزهايمر.

في حالات الالتهاب العصبي، تحارب خلايا الجهاز المناعي في الدماغ الميكروبات الغازية، أو تعمل على علاج الإصابات. إلا أنه للأسف الشديد، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الإصابة؛ ما يسفر بدوره عن المزيد من الالتهاب العصبي، لتظهر بذلك حلقة مفرغة، تتسبب نهاية المطاف في موت معظم الخلايا العصبية.

ويمكن أن تؤدي كل من لويحات أميلويد بيتا وتشابكات تاو إلى حدوث التهاب عصبي، وكذلك يمكن لكثير من الميكروبات (البكتيريا والفيروسات) أن تصيب الدماغ، وتبقى هناك، دون أن ينجح الجهاز المناعي بالدماغ في القضاء عليها تماماً؛ ما قد يؤدي إلى التهاب عصبي مزمن منخفض الحدة.

وحتى العدوى أو أسباب الالتهاب الأخرى خارج الدماغ، بأي مكان في الجسم، يمكن أن ترسل إشارات إلى الدماغ تؤدي إلى حدوث التهاب عصبي.

العدوى ومرض ألزهايمر

ويعتقد بعض العلماء أن العدوى قد تسبب أكثر من مجرد التهاب عصبي، فربما يكون لها دور كذلك في تكاثر رواسب أميلويد بيتا وتشابكات تاو. وفي هذا الصدد، قال تانزي: «اكتشفت أنا وزميلي الراحل روب موير أن أميلويد بيتا يترسب في المخ استجابة للعدوى، وهو بروتين يحارب العدوى؛ ويشكل شبكة تحبس الميكروبات الغازية. وبعبارة أخرى، يساعد أميلويد بيتا في حماية أدمغتنا من العدوى. وهذا هو الخبر السار. أما الخبر السيئ هنا أن أميلويد بيتا يُلحِق الضرر كذلك بالخلايا العصبية، الأمر الذي يبدأ في غضون 10 إلى 30 عاماً، في إحداث تأثيرات واضحة على الإدراك؛ ما يسبب الخرف، نهاية المطاف».

بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الترسب المزمن منخفض الدرجة لأميلويد بيتا إلى تشابكات تاو، التي تقتل الخلايا العصبية هي الأخرى وتزيد من الالتهاب العصبي، ما يؤدي إلى موت المزيد من الخلايا العصبية. وقد تتطور دورات مفرغة يصعب للغاية إيقافها.

ويمكن للعوامل المذكورة هنا (بشكل مباشر أو غير مباشر) أن تلحق الضرر بخلايا المخ، وتسبب الخرف. ويمكن لعدة عوامل أن تزيد سوء بعضها البعض، ما يخلق دورات مفرغة.

ميكروبات مرتبطة بمرض ألزهايمر

الآن، ما الميكروبات التي قد تشجع على تطور مرض ألزهايمر؟ عبَّر الدكتور أنتوني كوماروف، رئيس تحرير «هارفارد هيلث ليتر» الأستاذ في كلية الطب بجامعة هارفارد، عن اعتقاده بأنه «من غير المرجَّح أن يكون نوع واحد من الميكروبات (جرثومة ألزهايمر) سبباً في الإصابة بمرض ألزهايمر، بل إن الأدلة المتزايدة تشير إلى أن عدداً من الميكروبات المختلفة قد تؤدي جميعها إلى الإصابة بمرض ألزهايمر لدى بعض الناس».

ويتركز الدليل في نتائج دراسات أُجريت على أدمغة القوارض والحيوانات الأخرى التي أصيبت بالميكروبات، بجانب العثور على ميكروبات في مناطق الدماغ البشري الأكثر تأثراً بمرض ألزهايمر. وجاءت أدلة أخرى من دراسات ضخمة، أظهرت أن خطر الإصابة بمرض ألزهايمر، أعلى كثيراً لدى الأشخاص الذين أُصيبوا قبل عقود بعدوى شديدة. وتشير دراسات حديثة إلى أن خطر الإصابة بمرض ألزهايمر، قد يتفاقم جراء انكماش الدماغ واستمرار وجود العديد من البروتينات المرتبطة بالالتهابات، في دم الأشخاص الذين أُصيبوا بالعدوى في الماضي.

وفيما يلي بعض الميكروبات التي جرى تحديدها باعتبارها مسبِّبات محتملة للمرض:

فيروسات الهربس المتنوعة

خلصت بعض الدراسات إلى أن الحمض النووي من فيروس الهربس البسيط 1 و2 herpes simplex virus 1 and 2 (الفيروسات التي تسبب القروح الباردة والأخرى التناسلية)، يوجد بشكل أكثر تكراراً في أدمغة المصابين بمرض ألزهايمر، مقارنة بالأصحاء. ويبرز الحمض النووي الفيروسي، بشكل خاص، بجوار لويحات أميلويد بيتا. وخلصت الدراسات المنشورة إلى نتائج متناقضة. يُذكر أن مختبر تانزي يتولى زراعة «أدمغة صغيرة» (مجموعات من خلايا الدماغ البشرية) وعندما تُصاب هذه الأدمغة الصغيرة بفيروس «الهربس البسيط»، تبدأ في إنتاج أميلويد بيتا.

أما فيروس «الهربس» الآخر الذي يمكن أن يصيب الدماغ، فيروس الحماق النطاقي varicella - zoster virus (الذي يسبب جدري الماء والهربس النطاقي)، قد يزيد مخاطر الإصابة بالخرف. وكشفت دراسة أُجريت على نحو 150000 شخص، نشرتها دورية «أبحاث وعلاج ألزهايمر» (Alzheimer’s Research and Therapy)، في 14 أغسطس (آب) 2024، أن الأشخاص الذين يعانون من الهربس الآخر الذي يمكن أن يصيب الدماغ، فيروس الحماق النطاقي (الذي يسبب جدري الماء والهربس النطاقي) قد يزيد كذلك من خطر الإصابة بالخرف. ووجدت الدراسة أن الأشخاص الذين أُصيبوا بالهربس النطاقي كانوا أكثر عرضة للإبلاغ لاحقاً عن صعوبات في تذكُّر الأشياء البسيطة. وتعكف أبحاث جارية على دراسة العلاقة بين لقاح الهربس النطاقي وانحسار خطر الإصابة بألزهايمر.

فيروسات وبكتيريا أخرى:

* فيروس «كوفيد - 19». وقد يجعل الفيروس المسبب لمرض «كوفيد - 19»، المعروف باسم «SARS - CoV - 2»، الدماغ عُرضةً للإصابة بمرض ألزهايمر. وقارنت دراسة ضخمة للغاية بين الأشخاص الذين أُصيبوا بـ«كوفيد» (حتى الحالات الخفيفة) وأشخاص من نفس العمر والجنس لم يُصابوا بـ«كوفيد»، ووجدت أنه على مدار السنوات الثلاث التالية، كان أولئك الذين أُصيبوا بـ«كوفيد» أكثر عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر بنحو الضعف.

كما جرى ربط العديد من الفيروسات (والبكتيريا) الأخرى، التي تصيب الرئة، بمرض ألزهايمر، رغم أن الأدلة لا تزال أولية.

* بكتيريا اللثة. قد تزيد العديد من أنواع البكتيريا التي تعيش عادة في أفواهنا وتسبب أمراض اللثة (التهاب دواعم السن)، من خطر الإصابة بمرض الزهايمر. وعبَّر تانزي عن اعتقاده بأن هذا أمر منطقي، لأن «أسناننا العلوية توفر مسارات عصبية مباشرة إلى الدماغ». وتتفق النتائج الأولية التي خلص إليها تانزي مع الدور الذي تلعبه بكتيريا اللثة. وقد توصلت الدراسات المنشورة حول هذا الموضوع إلى نتائج مختلفة.

* البكتيريا المعوية: عبر السنوات الـ25 الماضية، اكتشف العلماء أن البكتيريا التي تعيش في أمعائنا تُنتِج موادّ تؤثر على صحتنا، للأفضل أو للأسوأ. وعن ذلك قال الدكتور كوماروف: «هذا أحد أهم الاكتشافات الطبية الحيوية في حياتنا». هناك بعض الأدلة المبكرة على أن هذه البكتيريا يمكن أن تؤثر على خطر إصابة الشخص بمرض ألزهايمر بوقت لاحق. ولا يزال يتعين تحديد كيفية تغيير تكوين بكتيريا الأمعاء، لتقليل المخاطر.

ربما يكون لها دور في تكاثر رواسب أميلويد بيتا المسببة للمرض

عوامل نمط الحياة ومرض ألزهايمر

يرتبط كثير من عوامل نمط الحياة المختلفة بزيادة خطر الإصابة بمرض ألزهايمر. وتتضمن الأمثلة التدخين (خصوصاً في وقت لاحق من الحياة)، والإفراط في تعاطي الكحوليات، والخمول البدني، وقلة النوم العميق، والتعرض لتلوث الهواء، والنظام الغذائي الغني بالسكر والملح والأطعمة المصنَّعة.

كما تزيد العديد من عوامل نمط الحياة هذه من خطر الإصابة بأمراض مزمنة شائعة أخرى، مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والسمنة.

وبحسب الدكتور كوماروف، فإنه «نظراً لأن إجراء تغييرات في نمط الحياة قد يكون صعباً، يأمل كثيرون في أن تثمر دراسة الأسباب البيولوجية وراء مرض ألزهايمر ابتكار دواء (سحري) يمنع المرض، أو حتى يعكس مساره. ويرى الدكتور كوماروف أن «ذلك اليوم قد يأتي، لكن ربما ليس في المستقبل القريب».

في الوقت الحالي، يقترح تانزي إدخال تعديلات في نمط الحياة بهدف التقليل من خطر الإصابة بألزهايمر.

بوجه عام، فإن فكرة أن الميكروبات قد تؤدي إلى بعض حالات ألزهايمر لا تزال غير مثبتة، وغير مقبولة على نطاق واسع، لكن الأدلة تزداد قوة. ومع ذلك، تتفق هذه الفكرة مع أبحاث سابقة أظهرت أهمية أميلويد بيتا، وتاو، وapoe4 والالتهاب العصبي، بوصفها أسباب مرض ألزهايمر.

عن ذلك، قال الدكتور كوماروف: «الإشارة إلى دور للميكروبات في بعض حالات مرض ألزهايمر لا تحل محل الأفكار القديمة، وإنما تتفق مع الأفكار القديمة، وربما تكملها».

* رسالة هارفارد للقلب - خدمات «تريبيون ميديا».