استعراضات السيارات في نيويورك... زادت شعبيتها بفعل الوباء وتزايدت الشكاوى من ضجيجها

 استعراض السيارات المعدلة يجذب المشاهدين والمشاركين (نيويورك تايمز)
استعراض السيارات المعدلة يجذب المشاهدين والمشاركين (نيويورك تايمز)
TT

استعراضات السيارات في نيويورك... زادت شعبيتها بفعل الوباء وتزايدت الشكاوى من ضجيجها

 استعراض السيارات المعدلة يجذب المشاهدين والمشاركين (نيويورك تايمز)
استعراض السيارات المعدلة يجذب المشاهدين والمشاركين (نيويورك تايمز)

كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل حال تجمع مئات الأشخاص داخل موقف فارغ للسيارات في منطقة كوينز الصناعية المتاخمة للطرف الغربي من جزيرة لونغ آيلاند.
وتقاطرت حشود المتفرجين من كل مكان كما لو كانوا يتابعون أحد مهرجانات الرقص المجنونة، وارتفعت الأيدي بالهواتف المحمولة تلتقط الصور ومقاطع الفيديو لتوثيق المشهد من أمامهم: السيارات اللامعة البراقة التي تنطلق في حركات دائرة وبسرعات كبيرة، مع الإطارات التي تنبعث منها أعمدة الدخان الرمادية الخانقة، فضلا عن ركاب تلك السيارات الذين برزت رؤوسهم من نوافذ سياراتهم لالتقاط كل ما يمكنهم من الصور الذاتية لذكرى الفعالية. وكانت الضوضاء الناجمة عن ذلك تغمر الجميع من دون استثناء.
وفي بعض الأحيان، لم يكن الناس يملكون إلا الارتجاف من فظاعة أصوات الفرقعة العالية للغاية المنبعثة من عوادم السيارات من دون كواتم للصوت، غير أن أغلبهم كانوا يصيحون في إعجاب كبير بما يشاهدونه. لقد كان الأمر أشبه ما يكون بحرب عصابات السيارات في ذلك الجيب المهجور والمنسي من المدينة. وكان الضجيج والضوضاء من أبرز علاماتها الظاهرة.
وعندما كانت تلك السيارات تهدر بأصوات محركاتها عبر شوارع مدينة نيويورك في طريقها لتلك الفعالية، كانت تعلن عن أنفسها بأصوات المحركات الصاخبة مع كل منعطف. وكان السائقون قد تجمعوا في وقت سابق من تلك الليلة عند منطقة أستوريا من حي كوينز أول الأمر. ومع الاستعداد للانطلاق كانت أصوات المحركات والعوادم ذات الضجيج الهائل تسبب انطلاق صفارات الإنذار في مختلف السيارات الرابضة في هدوء على جوانب الطريق. وفي بعض الليالي الأخرى، كان دوي محركات السيارات يثير ذعر الناس داخل جدرانهم منازلهم الهادئة.
كانت السيارات الحديثة، والأخرى القديمة المعدلة بمحركات أكبر، والتجمعات المرتجلة غير المنظمة، قد تناثرت عبر مختلف أركان المدينة الكبيرة في المواضع التي تنتشر عندها خطوط قطارات الأنفاق سيما وأن مفهوم امتلاك السيارات ليس جديدا ولا بالغريب على سكان المدينة. لكن مع شهور الإغلاق الوبائي الطويلة والمملة للغاية، يبدو أن المزيد من الناس قد فكروا في الاستمتاع بتلك الهواية العجيبة، وفقا للعديد من المقابلات التي أجريت والشكاوى الكثيرة من الضوضاء التي تنجم عن تلك الممارسة.
ومع اندفاع المحركات والسيارات عبر الشوارع الهادئة، ارتفعت معدلات الشكاوى من الضوضاء العارمة – والتي اتخذت رمزا مميزا لها بين سكان المدينة يصفها بأنها «حمى تشغيل المحركات الخاملة» – بنسبة تجاوزت 40 في المائة عند المقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وحازت أحياء مانهاتن، وبروكلين، وكوينز على نصيب الأسد من تلك الشكاوى، وكانت أبلغ ما كانت في حي برونكس الذي وصلت فيه نسبة الشكاوى إلى 150 في المائة، ثم في ستاتن آيلاند التي بلغت الشكاوى فيها نسبة 75 في المائة تقريبا.
وبالنسبة لأولئك المهووسين بركوب السيارات والذين يجهزون أنفسهم جيدا لمعاودة استخدام سياراتهم – على غرار زيجي رودريغيز 20 عاما – فإن كل تعديل صعب أو مكلف يدخلونه على سياراتهم يعد بالنسبة إليهم معلما من معالم الفخر والمباهاة. كما أن كل مطاردة تتم في سرية بين الأصدقاء، أو ربما كل سباق خفي يجري عبر الشوارع يوفر حالة من العنفوان تشتد إليها الحاجة كثيرا في ظل أجواء الإغلاق والإلغاء القاتمة الراهنة.
يقول زيجي رودريغيز، مبتهجا للغاية حال تشغيله لمحرك سيارته على الوضع الخامل في منطقة أستوريا انتظارا لبدء تجمع يوم السبت الماضي: «بعد بذل الكثير من الجهد في السيارة، تقوم بينك وبين سيارتك حالة أشبه بالانسجام في كيان واحد». وكان السيد رودريغيز قد أمضى جل وقته خلال فترات الإغلاق في إضافة التعديلات على سيارته طراز «بي إم دبليو» بحواف الزجاج البركاني، والمصابيح الأمامية المخصصة، ومضخم الصوت في صندوق السيارة، وبطبيعة الحال ذلك المحرك الضخم للغاية.
وقال زيجي رودريغيز – وهو طالب جامعي يعمل في وظيفتين، إحداهما على موقع أمازون والأخرى في نادي «بي جيه» لمبيعات التجزئة، وذلك حتى يتمكن من الإنفاق على هوايته: «إنني سعيد للغاية بسيارتي تلك. لكن والدتي لا تحبها أبدا، ولكن مهما يكن الأمر، يبدو الأمر جيدا جدا بالنسبة لي، فهي تلفت أنظار الناس في كل مكان أذهب إليه».
بالنسبة إلى العديد من سكان مدينة نيويورك الآخرين – أولئك الذين يحاولون الحصول على ليل هادئ لنوم أطفالهم، فإن رواد المطاعم التي تعمل في الهواء الطلق مع دوران محركات السيارات الصاخبة من حولهم، وغير ذلك ممن يشعرون بالفزع من أصوات أنابيب العوادم التي تبدو كمثل طلقات الرصاص المرعبة – فإن الوتيرة المتزايدة من اندفاع السيارات ذات المحركات الصاخبة تؤدي إلى تفاقم الحالة المعنوية المتوترة بالفعل لدى سكان المدينة بالإضافة إلى معاناتهم من فيروس كورونا المستجد وتداعياته.
يقول ستيفن باركهيرست 35 عاما ويعمل منتجا لأفلام الفيديو: «كانت صفارات الإنذار تشكل نوعا من أنواع الرعب المستمرة بالنسبة إلى سكان المدينة في الآونة الأخيرة». وأضاف أنه منذ أبريل نيسان الماضي، كانت زمجرة أنابيب العوادم في السيارات المعدلة شرا لا مفر منه في أغلب الليالي التي يقضيها داخل شقته في الطابق الأرضي من منطقة أستوريا في كوينز، وقال إنه مع ارتفاع ضوضاء السيارات لا يمكن لأحد أن ينعم بلحظة هدوء واحدة.
ومما يضاف إلى هذا الإزعاج الشديد هناك مشكلة الإهانة الضمنية المتصورة، كما يواصل السيد باركهيرست قائلا: «نحن نعاني من هذه الأزمة سويا، وهناك مجموعة من الأشخاص الذين لا يعبأون البتة بالأمر ويحاولون جعل حياة الناس العسيرة أكثر تعبا ومعاناة ومشقة».
ونجم الارتفاع في شكاوى الضوضاء عن سعي أولئك الشباب وأغلبهم من الذكور في تحقيق التحول الاجتماعي وهو الموافق لمعايير التباعد الاجتماعي المعروفة بصورة من الصور، حيث يقبع كل واحد منهم منفردا داخل سيارته الخاصة بعيدا عن الآخرين في نهاية المطاف.
وفي حين أن عددا غير كبير من فنيي صيانة السيارات قد أبلغ عن ازدهار في طلبات تعديل السيارات، يقول عشاق هذه الهواية المزعجة إن أزمة الوباء الراهنة قد فتحت أمامهم المجال وأتاحت لهم الوقت لإدخال التعديلات على سياراتهم بأنفسهم. وقال البعض منهم إن شيكات الإعانات المالية قد ساعدت في ذلك، إذ قال السيد رودريغيز أن نصف ما قد حصل عليه من إعانات حكومية خلال فصل الربيع الماضي قد أنفقه بالكامل على تعديل سيارته المفضلة.
ويجري كل ذلك بصرف النظر تماما عن أن تعديل محركات السيارات لكي ترتفع أصواتها هو من الممارسات غير القانونية في المقام الأول في ولاية نيويورك. وفي الشهر الماضي، تقدم السيناتور الديمقراطي أندرو غونارديس من بروكلين في نيويورك باقتراح مراجعة القانون من أجل تحديد الحد الأدنى لصوت عادم السيارة ذلك القانون الذي يتعامل راهنا مع الضوضاء المفرطة أو غير المعتادة فقط، وذلك مع تجهيز سلطات إنفاذ القانون بأجهزة قياس أصوات العوادم، فضلا عن رفع مقدار العقوبة للمخالفين من 125 دولارا فقط إلى 1000 دولار دفعة واحدة.
وقال السيناتور غونارديس في رسالة بالبريد الإلكتروني: «لطالما كانت تلك من المشكلات المستمرة، ولكن من الواضح أنها قد تفاقمت في الفترة الأخيرة سيما مع فراغ الشوارع أغلب الوقت من السيارات بسبب الوباء. إن الوقت الراهن من الأوقات العصيبة على الجميع، وآخر ما يحتاج إليه الناس حاليا هو متابعة حفنة من الحمقى والموتورين الذين يسابقون بعضهم البعض بحثا عن تعويض شيء مفتقد من حياتهم البائسة».
ومع ذلك، فهناك درجات متفاوتة من الضوضاء والضجيج. ومن أبرز أسباب الغضب لدى أولئك الذين يبغضون هذه الممارسة وتلك السيارات – وهي المسألة التي تنقسم عندها آراء المعجبين أنفسهم – هي تلك الأداة المعروفة باسم «الأنبوب المستقيم». فهذه الأنابيب الملحقة بعوادم السيارات، وبعد إدخال تعديل معين على برنامج السيارة، تجعل صوت العادم أشبه ما يكون بصوت إطلاق الرصاص، مما يؤدي إلى طرد دخان العادم المتراكم على نحو مفاجئ وبصوت مرتفع للغاية.
يقول مانميت نجار 26 عاما – وهو طالب في قسم إدارة الطيران في كلية فارمينديل – من داخل محل لصيانة السيارات في «ويليتس بوينت» بحي كوينز لإضافة المزيد من الصفارات إلى سيارته، إنه لا يجد سلامه الداخلي مع نفسه إلا بتواجده داخل نفق «ميد تاون» في حي كوينز، حيث يفتح نوافذ سيارته، ويوقف مذياع السيارة عن العمل، ثم يدير المحرك بأعلى صوت ممكن في سيارته التي لا يوجد فيها كاتم للصوت بطبيعة الحال، ويقول إنه يعشق هذا الصوت كثيرا.
ولكن بالنسبة إلى نجار والعديد من سائقي السيارات الآخرين الذين جرت مقابلتهم لأجل هذا الموضوع، فإن الأنابيب المستقيمة تصدر أصواتا مزعجة للغاية، وهي تتسبب في إيقاظه من نومه – بل وإيقاظ كلبه الأليف – عندما يحاولون النوم والاسترخاء في المنزل. وقال السيد نجار أخيرا: «أنا أتحمل هذا الصوت بالكاد، ولذلك لا أستطيع أن أجبر أي شخص على تحمله».
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

الصين تدافع عن «الإفراط في التصنيع»

الاقتصاد سيارات معدة للتصدير في ميناء يانتاي بمقاطعة شاندونغ الصينية (رويترز)

الصين تدافع عن «الإفراط في التصنيع»

قال نائب وزير مالية الصين، إن القدرات الصناعية لبلاده تساعد العالم في مكافحة التغير المناخي، وفي جهود احتواء التضخم، في رد على انتقاد وزيرة الخزانة الأميركية.

«الشرق الأوسط» (بكين)
رياضة عالمية إستيبان أوكون (أ.ب)

«فورمولا 1»: أوكون سيقود فريق هاس الموسم المقبل

قال فريق هاس المنافس في بطولة العالم لسباقات «فورمولا 1» للسيارات، اليوم (الخميس)، إن الفرنسي استيبان أوكون سيقود له لعدة سنوات مقبلة، بداية من الموسم المقبل.

«الشرق الأوسط» (سبا فرانكورشان)
رياضة عالمية ماكس فيرستابن (أ.ب)

جائزة بلجيكا الكبرى: فيرستابن للعودة إلى سكة الانتصارات

يأمل الهولندي ماكس فيرستابن بطل العالم ثلاث مرات في وضع حد لإخفاقاته بالسباقات الثلاثة الماضية والعودة إلى سكة الانتصارات بمواجهة تهديد ماكلارين المتفوق.

«الشرق الأوسط» (سبا فرنكورشان)
الاقتصاد شركة «بي واي دي» الصينية للسيارات الكهربائية في تايلاند (رويترز)

«بي واي دي» تزيد هيمنتها على أسواق جنوب شرق آسيا

أظهرت بيانات حكومية أن شركة «بي واي دي» الصينية وسّعت الفارق في مبيعاتها عن «تسلا» في سنغافورة في النصف الأول من العام الحالي.

«الشرق الأوسط» (بكين)
يوميات الشرق السيارات لا تحتوي في الواقع على موازين حرارة مدمجة فيها (رويترز)

لماذا يجب عليك عدم الوثوق بميزان حرارة سيارتك؟

إذا كنت في سيارتك وتريد أن تعرف مدى سخونة الجو فلا تعتمد على دقة ميزان الحرارة في المركبة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)