تمثّل الشجرة العلاقة القوية بين الإنسان وجذوره الطبيعية، والبعض يرى فيها صورة للحياة والقوة والصلابة والأمل بالغد. ويعدّ لبنان من البلدان القليلة في العالم التي تزيّن علمها بشجرة. واختيرت شجرة الأرز لتتوسطه كونها ترمز إلى السرمدية.
ويتغنى اللبنانيون بغابات الأرز الموزعة على عدد من مناطقهم، في الباروك الشوفية وفي بلدة الأرز الشمالية وفي تنورين وجاج في منطقة البترون. فهم يعتبرونها من اللوحات الطبيعية النادرة في بلاد العالم، لا سيما وأن معظمها تحوّل إلى محميات يجري التأني في تربيتها والحفاظ عليها.
وانطلاقاً من مبدأ المسؤولية التي يجب أن يتحلّى بها اللبناني تجاه هذه الشجرة، أطلق غاليري أليس مغبغب في الأشرفية معرضاً بعنوان «هذه الأرزة التي تقطع». ويهدف إلى تعزيز العلاقة بين اللبنانيين وأرضهم، بالأخص مع الشجرة بشكل عام. فالمساحات الخضراء تتراجع نسبتها سنوياً بسبب اندلاع الحرائق. وأدّت صورة لبنان يحترق في عام 2019 إلى غضب كبير في الشارع اللبناني. وفي 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه اندلعت الثورة الشعبية، وكان أحد أسبابها المباشرة اللامبالاة التي تعامل معها المسؤولون تجاه الحرائق.
وفي مناسبة مرور عام على هذه الانتفاضة الشعبية، شرّع «غاليري مغبغب» أبوابه أمام معرض «هذه الأرزة التي تقطع». أرادته كما تقول صاحبة الغاليري بمثابة وقفة تأمل مع الذات، وعودة إلى الضمير تجاه الطبيعة، من خلال لوحات رسم ومنحوتات وصور فوتوغرافية وتجهيزات فنية. وتقول: «منذ عام حتى اليوم، وبالرغم من اكتساح المتظاهرين الساحات لم يتغير شيء. فالمعرض يطرح تساؤلات كثيرة في هذا الصدد. ولوحاته تؤكّد أن ما من شيء يمكنه أن يدفعنا إلى الهجرة وبأننا كلبنانيين متعلقين بأرضنا وجذورنا مهما شهدنا من نكبات ومعاص».
يشارك في المعرض نحو 14 فناناً جمعت مغبغب بعضاً من أعمالهم التي سبق واستضافتها في الغاليري. فنرى إيتل عدنان تصور شجر الزيتون بالأبيض والأسود من دون جذور، وفاديا حداد تبرز جمالية أشجار الصنوبر في بلدتي جزين وبكاسين الجنوبيتين. ويتفيأ زائر المعرض تحت ظل شجرة كستناء ضخمة للبولندية مارغورزاتا باسزكو. فيما يأخذنا نديم صفير إلى غابة الأرز في تنورين في خلفية تخترقها إضاءة طبيعية لأشعة الشمس. وفي لوحة أكليريك لشارل بيل الفرنسي يقف المشاهد مندهشاً بألوان شجرة ضخمة وتفاصيل أغصانها المتشابكة.
وتعلّق أليس مغبغب في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «استوحيت اسم المعرض من كتاب للفرنسي أندريه ميرو بعنوان (السنديان الذي نقطع). فهو استخدم هذه العبارة في المجازية للإشارة إلى نقص في الرؤية المستقبلية لدى الشعب الفرنسي الذي دفع بالجنرال شارل ديغول إلى الاستقالة».
وهل في معرضك هذا تحاولين الإشارة إلى لبنان المتقطع الأوصال؟ ترد مغبغب في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «نعم أردت ذلك لوضع الأصبع على الجرح، فليس أرز لبنان وحده هو الذي في خطر، بل البلاد برمتها، لأننا نتعامل معها وكأننا عميان. فيأتي المعرض كعودة إلى الضمير للحفاظ على جذورنا رافضين الهجرة».
وتعتبر مغبغب أن موضوع المعرض يحثّنا على فتح أعيننا، لنرى بشكل أفضل ما يدور حولنا، وكذلك يدفعنا إلى ملامسة الحقيقة.
لوحات وصور من غابات لبنانية وغيرها من الغرب يقدمها أصحابها في إطار فني بحت تترك لمشاهدها مساحات من الحرية ليتلقف جماليتها. «الشجرة في أي بلد أو منطقة يبقى لها المعنى نفسه يتراوح بين الحياة والإنسان والطبيعة والجذور. وفي النهاية الشجرة هي أقوى بكثير من الإنسان، إذ تستطيع أن تخرج إلى النور من العدم، وتتسلل أغصانها بين الصخر والجدران».
وفي تجهيز فني يحمل عنوان «أداة التوازن»، تطالعنا لودفيكا أوغورزيليك البولندية، بعمل يرتكز على غصون أشجار صغيرة ربطت ببعضها البعض، لتهتز أو تدور مع أي حركة هوائية تلامسها. وتوضح أليس مغبغب: «لودفيكا شاركت في أحد معارضي في بيروت في عام 1998. وفي أحد الأيام هامت في غابات جبلية انتزعت من الأرض غصون أشجار يابسة قشرتها وقولبتها لتؤلّف هذا التجهيز للإشارة إلى دورة الحياة الطبيعية».
ومع الفنانة البلجيكية ليوبولدين رو، نذهب في نزهة داخل حرج بيروت الملون بأشجار وزهور التقطتها في عام 2018 أثناء وجودها في لبنان وحوّلتها إلى بطاقات بريدية (cartes postales). وفي لوحات منمنة تحمل عنوان «الأوديسيه» يصوّر الفرنسي يان دوموجيه الإنسان المهاجر والعائم على زهور برّية في مجرى نهر. يشير من خلالها إلى زوارق الهجرة التي تحمل الناس المحبطين الراغبين في ترك أرضهم يأساً، ويجهلون مصيرهم الحقيقي.
معرض «هذه الأرزة التي تقطع» يستمر فاتحاً أبوابه في «غاليري مغبغب» في الأشرفية لغاية 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل. ويشارك فيه أيضاً إريك بواتفان وجان برنار سوسبيريغي، ولي واي (ياباني)، ولوتشيانو زانوني (إيطالي)، ونيكولا غاياردون، وغيرهم.
معرض «هذه الأرزة التي تقطع» وقفة مع الذات تجاه الطبيعة
لبنان من البلدان النادرة التي تزيّن علمها بشجرة
معرض «هذه الأرزة التي تقطع» وقفة مع الذات تجاه الطبيعة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة