انتشار ظاهرة الحياة في القوارب بدلاً من المنازل

الوباء تسبب في إحداث قفزة نحو البحر اعتبرها البعض متهورة وغير مسؤولة

أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)
أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)
TT

انتشار ظاهرة الحياة في القوارب بدلاً من المنازل

أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)
أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)

ابتاعت أليسون وزوجها لوك، قبل عامين من الآن، قارباً بطول 44 قدماً من طراز «مودي بلو» كي يحققا حلمهما بالإبحار به حول العالم برفقة أطفالهما الثلاثة. بيد أن العديد من الالتزامات الأسرية كانت تزيد من وجودهم على الأرض، وتبتعد بهم رويداً عن حلم الإبحار الجميل: وظيفتان بدوام كامل، مع أرتال من الديون المستحقة، فضلاً عن مدرسة الأطفال الواقعة في مقاطعة نيو ساوث ويلز في أستراليا.
ثم غلبت على العالم جائحة الوباء الأخير. ومن ثم فقد لوك ويليامز، البالغ من العمر 43 عاماً، وظيفته لدى شركات تعمل في تنسيق الحدائق، وتحولت الدراسة من المدرسة إلى شبكة الإنترنت، وصارت الحياة اليومية مقصورة على الأنشطة التي لا يمكن ممارستها إلا داخل المنزل.
ولمعت في أذهانهما فكرة الإبحار من جديد، وتساءلا: «إن لم يكن الآن، فمتى؟»، قام الزوجان ببيع المنزل مع أغلب الممتلكات، وانتقلا برفقة أطفالهم الثلاثة (وتتراوح أعمارهم بين 7 و12 و13 عاماً)، مع كلبين صغيرين من سلاسة لابرادودل وقطتهما الأليفة، للعيش على متن منزلهما العائم الجديد. تقول السيدة أليسون ويليامز، التي تبلغ من العمر 39 عاماً، وكانت قد تركت وظيفتها معلمة في رياض الأطفال: «لقد منحنا الفيروس المستجد دفعة إلى الأمام بدلاً من أن يعيق حياتنا ويجذبها إلى الخلف». إنهما يحاولان استعادة شيء مهم للغاية كانوا يفتقرون إليه جميعاً منذ سنوات: «أخيراً لدينا وقت يجمعنا كأسرة واحدة».
بالنسبة إلى العديد من العائلات، سبب فيروس «كورونا المستجد» اهتزازاً للتوازن الدقيق القائم ما بين العمل من المنزل، والتعليم في المنزل، ورعاية الأطفال. غير أنه ،بالنسبة إلى عدد متزايد من الأسر، تسبب حلول الوباء في إحداث قفزة ربما تبدو لدى البعض متهورة وغير مسؤولة: نحو البحر.
تقول السيدة بيهان غيفورد - وهي مدربة العائلات الساعية إلى الإبحار بالقوارب: «لم نكن مشغولين مثل الآن من قبل. لقد ارتفع معدل الاستفسارات والعملاء الجدد لدى الشركة بصورة مضاعفة، منذ بدء انتشار وباء (كورونا المستجد) في البلاد. حيث تزيد رغبة الناس في الابتعاد عن حياة المدن المغلقة».
وأضافت السيدة غيفورد تقول: «تواصل العائلات الدراسة في المنزل والعمل من بُعد على أي حال؛ فلماذا لا نستفيد من أموال بيع المنازل أو المدخرات ونحولها إلى مغامرة عائلية بحرية لا تُنسى؟». يُشار في أستراليا إلى العائلات التي لديها أطفال على متن القوارب بمسمى «قوارب الأطفال»، داخل مجتمع الإبحار. وتقدر السيدة غيفورد أن هناك ما لا يقل عن 1000 منهم يعيشون على متن القوارب في البحر راهناً.
ومن خلال 13 عاماً كاملة من الإبحار (وهو اصطلاح آخر يشير إلى الإبحار بغرض الترفيه) طافت السيدة غيفورد رفقة زوجها وأطفالها الثلاثة حول العالم على متن القارب، وتمكنت من زيارة 48 دولة وإقليماً، وسبحت عبر حطام طائرة مقاتلة يابانية قديمة تقع في غرب المحيط الهادئ، وبحثت عن شبح نابليون بونابرت في جزيرة سانت هيلانة حيث كان منفياً في آخر أيام حياته.
ولقد استفاد ابنها الأكبر كثيراً من طريقة التنشئة غير التقليدية هذه، وهو الآن طالب بالسنة الأولى في كلية لويس كلارك في ولاية أوريغون الأميركية. تقول السيدة غيفورد، التي ترسو بقارب أسرتها على سواحل بحر كورتيز في الآونة الراهنة: «لقد أصبحت شخصيات أطفالنا واضحة، وممتعة، ومختلفة تماماً. وأن تكون مختلفاً فهذا من الأمور الجيدة للغاية لأنه يعني أنك مميز عن الآخرين في شيء ما».
ومع عودة المدارس عبر شبكة الإنترنت، فإن استخدام المصطلح سالف الذكر بمعناه الحديث غير الساحلي يعني أن العديد من الأطفال سوف يقضون الساعات الطويلة داخل جدران المنازل يحملقون طوال الوقت أمام شاشات الحواسيب الخاصة بهم. ولكن بالنسبة إلى أطفال القوارب، فإن فصولهم الدراسية البحرية الجديدة هي أوسع مجالاً كمثل اتساع العالم بأسره أمام أعينهم.
يرسو قارب الزوجان ناتالي ومايكل نيف رفقة أطفالهما الثلاثة قبالة أحد الشواطئ المهجورة الذي تحيط به مياه المحيط الفيروزية الجميلة على مرمى البصر غير بعيدين عن تلال موريا الاستوائية في جزر بولينيزيا الفرنسية، في جنوب المحيط الهادئ. وعندما ينجحون في اصطياد سمكة، يقوم الوالد مايكل مع ابنه نوح البالغ من العمر 12 عاماً بفتح بطن السمكة من أجل دراسة عملية لنظامها الهضمي المقرر على نجله في المدرسة، وذلك قبل إعدادها من أجل طعام العشاء. وكانا يفحصان أمعاء السمكة، وغالباً ما اكتشفا بعض الأسماك الصغيرة، أو الحبار الصغير، أو ربما قطعة من المرجان في جوف السمكة.
يقول السيد مايكل نيف، الذي ترك وظيفته الهندسية في ولاية أوريغون الأميركية من أجل الخروج في رحلة بحرية في عام 2018: «هذا ليس من الأمور التي نعتاد القيام بها في البيئة المدرسية النموذجية على أي حال». يعتبر قارب «أوبي» أحادي الهيكل الذي تملكه أسرة السيد مايكل نيف ويعمل بالطاقة الشمسية مثالاً يُحتذى به في حد ذاته، وتقول السيدة ناتالي نيف - وهي أستاذة الهندسة الميكانيكية التي تستمتع بتدريس الابتكارات الجديدة لأطفالها: «دائماً ما نعود إلى الشاطئ من أجل التزود بالوقود وقضاء بعض الوقت – فلا بد من تأمين ضرورويات الحياة على متن القارب من الكهرباء والمياه العذبة بين الحين والآخر. كذلك لا بد من إفساح المجال أمام الأطفال كي يمارسوا أنشطتهم المحببة، بدلاً من قصر حياتهم على مساحة القارب المحدودة مهما كان اتساعه». وبالإضافة إلى كتب التعليم في المنزل، يستعين الأطفال بموقع «ويكيبيديا»، وهي موسوعة المعلومات الحرة غير المتصلة بشبكة الإنترنت، التي قام أحد الأصدقاء بتنزيلها كاملة على قرص صلب من أجل الأطفال، فضلاً عن مكتبة رقمية متواضعة. ومن المعروف أن إشارة الإنترنت غير مستقرة طوال الوقت في الأماكن البعيدة مثل مقاطعة بولينيزيا الفرنسية في جنوب المحيط الهادئ، الأمر الذي يقلل من عراك الأطفال على الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات. وبدلاً من ذلك، يحتفظ الأطفال على الدوام بقائمة من الأسئلة التي لا بد من إيجاد الإجابات عنها قبل أن يتمكنوا من الدخول على الإنترنت وذلك من أجل توفير الوقت والمجهود. تقول السيدة ناتالي عن ذلك: «هناك أمر ما يتعلق بالتأكيد بعدم توافر الاتصال بشبكة الإنترنت مما يجعل التجربة وكأنها شيء مميز في حد ذاته».
تستميل فكرة قوارب الأطفال أولئك الذين يبحثون دوماً عن الحياة السهلة والبسيطة الأكثر ابتعاداً عن التعقيد، تلك الحياة التي تؤسس للاستقلال شبه التام مع سهولة حل مشكلات الحياة اليومية. في صباح أحد الأيام، اندفعت سيدة مذعورة صوب جيس تشابمان (13 عاماً) ووالدته كاسي، اللذان كانا قد وصلا لتوهما إلى رصيف القوارب في خليج سان دييغو بولاية كاليفورنيا. وكانت مشكلة السيدة المذعورة أن زوجها قد خرج بالزورق خاصته إلى البحر ثم اكتشف فجأة أن مجاديف الزورق قد سُرقت. ومن ثم، قفز جيس إلى زورقه وتوجه مسرعاً إلى الرجل الذي كان يصارع الرياح بشراسة بالغة، ثم قام بربط زورقه بزورق الرجل المنكوب وقام بسحبه سالماً إلى الشاطئ. وقال جيس مازحاً: «شعرت للحظات وكأنني من قوات حرس السواحل في مهمة خاصة للإنقاذ».
وبالعودة إلى موطنه في مدينة لوس أنجليس، كانت أيام جيس تشابمان تدور حول الانتقال من تجربة أداء إلى أخرى رفقة والديه (حيث يقوم بدور تمثيلي في مسلسل من إنتاج شبكة «نتفليكس» الترفيهية بعنوان: «ذا هيلينغ باورز أوف ديود»، الذي قد أذيع في يناير (كانون الثاني) من بداية العام الحالي.
لكن الأمور تغيرت لا سيما مع انتقال مكاتب اختيار واختبار الممثلين إلى العمل عن بُعد، ومن ثم ارتأت أسرة تشابمان فرصة جديدة وسانحة للفرار ليس فقط من وباء «كورونا المستجد»، وإنما من العناصر ذائعة الانتشار للأنماط الثقافية عبر شبكة الإنترنت.
تقول السيدة تشابمان، البالغة من العمر 35 عاماً: «لم نرغب لأطفالنا أن تمسخهم ثقافات الحياة المادية الجامدة في المدن، والانطلاق مهرولين من غير تفكير وراء آخر صيحات الموضة، أو الحملقة طوال الوقت لمتابعة أحدث رقصات تيك توك التافهة، أو ملاحقة أخبار المشاهير العابرة عبر صفحات يوتيوب». واستطردت تقول: «إنما أردنا لهم الاهتمام والعناية بقضايا الحياة الحقيقية الواقعية مع العمل على إحداث تغيير ملموس». تحمل أسرة تشابمان اسم «أسرة الرحالة»، وهو عنوان قناة «يوتيوب» الخاصة بهم، ولقد انتقلوا للإقامة على متن قاربهم الذي يبلغ طوله 46 قدماً ويحمل اسم «سايرن»، اعتباراً من شهر أبريل (نيسان) الماضي برفقة أطفالهم الخمسة، ولقد أمضوا أغلب فترة الإغلاق العام بسبب الوباء وهم يبحرون حول مختلف موانئ العالم.
وفي حين يستمتع أولياء الأمور بقضاء أوقات إضافية مع العائلة، فإن الأطفال لا يزالون في حاجة إلى أصدقائهم، وهو أمر يصعب توفيره في البحر، مما يتطلب نوعاً من التخطيط، والمرونة في الإبحار من أجل إعادة ترتيب أولويات السفر. تقول السيدة غيفورد: «لا بد من إفساح المجال أمام التنشئة الاجتماعية للأطفال، بمعنى محاولة البحث عن العائلات الأخرى التي تعيش على متن القوارب من أجل التواصل وإنشاء الصداقات الجديدة. ومجرد توقع حدوث ذلك هو من الوسائل الجيدة للغاية عوضاً عن حالة الوحدة أو الملل البارد الذي يصيب حياة الأطفال».
ولقد نجح أطفال السيدة غيفورد في تشكيل مجموعة قوية من الأصدقاء مع أطفال القوارب الآخرين من ستة بلدان حول العالم، وذلك خلال فترة وجودهم في جنوب المحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا، مع الاستمرار في التواصل فيما بينهم عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي المتاحة.
يتمكن العديد من عائلات قوارب الأطفال من العثور على بعضهم عبر منصة «فيسبوك» في منتدى يحمل اسم «كيدز فور سيل» (أطفال الإبحار)، الذي أسسته السيدة إريكا ليليفري منذ 10 سنوات بغرض العثور على رفاق وأصدقاء جدد لأجل طفلتها الوحيدة. وقالت السيدة ليليفري، التي تبلغ من العمر 40 عاماً، وتعيش على متن قاربها الخاص في مدينة ستامفورد بولاية كونيتيكيت الأميركية برفقة زوجها وابنتها لوسي التي تبلغ 11 عاماً من عمرها الآن: «في ذلك الوقت قبل عشر سنوات لم يكن هناك منتدى معروف لأطفال القوارب في أي مكان حول العالم. وكنا نأتي إلى مرسى القوارب في زورق صغير لنجد الناس على الشاطئ يقولون لنا: (لقد فاتكم كذا وكذا من الفعاليات خلال الأيام الماضية)، مما كان يبعث في قلوبنا كثيراً من الحزن والإحباط».

- خدمة «نيويورك تايمز»

 


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».