صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله

نقل الصورة السينمائية من ترف القصور إلى بساطة الحياة الشعبية

صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله
TT

صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله

صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله

بعد ربع قرن من رحيله في 22 يوليو (تموز) 1996 عن 81 عاماً، تخرج مذكرات المخرج صلاح أبو سيف المُلقب برائد الواقعية في السينما المصرية إلى النور، التي سجلها على مدار لقاءات عدة معه الكاتب الصحافي عادل حمودة.
تقع المذكرات في 260 صفحة، وصدرت عن دار «ريشة» للنشر بالقاهرة، وتلقي الضوء على جوانب مستترة مهمة في حياة مخرج عبقري قدم عشرات الأفلام، أصبح بعضها علامة في تاريخ السينما في مصر، منها «الزوجة الثانية»، و«شباب امرأة»، و«أنا حرة»، و«القاهرة 30»، و«بداية ونهاية»، و«بين السماء والأرض»، ونقل الصورة السينمائية من حياة القصور المترفة إلى بساطة الحارة الشعبية.
المذكرات تأخر نشرها ما يقرب من ربع قرن بسبب فقدان عادل حمودة لمسودتها الأصلية، حتى عثر عليها لاحقاً، لافتاً في مقدمتها إلى أن أغلب المشاهير في عالمنا العربي يخشون كشف أسرارهم ومحاسبتهم بأثر رجعي، كما يخشون السفر دخل نفوسهم، ويكتفون بالسفر داخل نفوسنا، مؤكداً أن «من يملك الجرأة على مخالفة ذلك يتصور أننا سنسقطه من عيوننا، وهو خطأ شائع». وحول تقييمه لمدى صراحة صلاح أبو سيف في تلك المذكرات، يوضح عادل حمودة أنه للإنصاف كان «صريحاً بسيطاً، كما لو كان يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع، وكان ما قاله أقرب إلى المونولوج لا إلى الحوار، أقرب إلى الاعتراف لا إلى المناقشة».

فقر وحرمان
ترصد المذكرات العديد من الملامح حول طفولة صاحبها، فقد عاش يعاني من جحود الأب الذي كان ثرياً ومزواجاً يملك العديد من الأفدنة الزراعية، ومع ذلك تنكر لابنه، ولم يره مرة واحدة، أو ينفق عليه قرشاً، لأن والدته تلك المرأة الشابة الجميلة صممت أن تعيش في حي بولاق الشعبي بالقاهرة، ولا تنتقل إلى محافظة بني سويف بصعيد مصر، لتكون مجرد رقم جديد في «امبراطورية الحريم» التي بناها الأب الذي كان يغير زوجاته، كما يغير ملابسه، فعاقبها الزوج بالطلاق والإهمال، وحين حصلت على حكم قضائي يلزمه بالإنفاق عليها، استطاع بنفوذه كعمدة قرية وإقطاعي صغير أن يتهرب من تنفيذ الحكم، وهكذا عاش المخرج طفولة عنوانها الفقر والحرمان. ويتوقف صاحب المذكرات عند خاله ناظر المدرسة الشاب الذي تولى الإشراف على تربيته وتعليمه، وكان مثقفاً يهوى القراءة والفن، ويشتغل بالسياسة وكانت ميوله ثورية، يعقد الاجتماعات ويوزع المنشورات المنددة بالاحتلال الإنجليزي للبلاد، وينظم خلايا سرية. ويحكي أنه ذات يوم اقتحم البوليس السياسي منزل العائلة، وقام بتفتيشه بحثاً عن المنشورات، ولكن قبل دخولهم الشقة نجحت خالته في إخفاء المنشورات في سلة الخبز، فلم يعثروا عليها، ولو أنهم نظروا في وجه الطفل الصغير «صلاح» لعرفوا مكانها فقد كانت عيناه ترتكز على السلة. ومع أنهم لم يجدوا منشورات، فإنهم لم يتركوا خاله وأخذوه معهم بعد أن وضعوا الحديد في يديه.
ويحكي أيضاً عن الحارة الشعبية التي نشأ بها، ومن معالمها «الحانوتي» الذي كان لا بد أن يكون خفيف الظل حتى لا ينفر منه الناس، وكان ابن الحانوتي زميلاً له، وابن البقال أيضاً، ويتذكر أن البقال كانوا يسمونه «خضرة»، ويعاملونه كطفلة خوفاً من الحسد، لأن كل إخوته الذكور سبق وأن ماتوا صغاراً.

الحارة الشعبية
يقول أبو سيف إن الحارة بكل تفاصيله كانت عالمه الخاص الذي فرض نفسه على أفلامه عندما أصبح مخرجاً، فلا يوجد فيلم من أفلامه لا يحتوي على تفاصيل هذا العالم الشعبي العجيب الغريب.
ويشرح أبو سيف كيف تحولت طفولته إلى مخزن خبرات وذكريات أفادته في صناعة الأفلام قائلاً: «قدمت على الشاشة الدنيا التي عرفتها لم أكذب، ولم أفتعل ما لا أعرفه، وربما كان ذلك سر انفعال وحماس الجمهور لأفلامي». ويضيف أن أمه كانت «هي المسؤولة عن كل شيء وصاحبة القرار الأول والأخير، فهي الأب والأم معاً، ومن ثم لا تجاوز ولا تدليل، والعقاب لا بد منه مهما كان حجم الذنب صغيراً». ولا جدال أن السبب هي رغبة الأم الدفينة أن تثبت للأب أنها كانت على حق، أو أن اختيارها كان صائباً.
يحكي أبو سيف أيضاً عن بيته الذي نشأ فيه، مشيراً إلى أنه كان على الطراز المملوكي، مدخله من الرخام، ونوافذه مغطاة بمشربيات على شكل نصف دائرة محفورة بالزخرفة الإسلامية أو الأرابيسك، ولعل ذلك ما جعل الكثير من شخصيات أفلامه تخرج من وسط تسيطر عليه الروحانيات والمعتقدات الإسلامية. ويرى حمودة أنها ملاحظة فاتت الكثير من النقاد الذين اهتموا أكثر بالصراع الاجتماعي في أفلامه وفاتهم البعد الروحاني.

سحر السينما
يروي أبو سيف عن طفولته مع السينما، قائلاً إنه ذات يوم وهو يتسكع في شوارع القاهرة وقف أمام شباك التذاكر لدار سينما عليها زحام بحي عابدين، يسأل عن سعر التذكرة، وعرف أنه قرش صاغ، أي مصروف يومين، فقد كان مصروفه اليومي نصف قرش، ومن ثم كان القرش ثروة كبيرة، ولكن لم يتردد في التضحية به. دخل السينما وفي هذا العرض شاهد فيلمين، أحدهما لشارلي شابلن، وكان اسمه «شارلي في البنك»، والآخر كان لممثل إيطالي قديم كان من نجوم السينما الصامتة هو إيلامو لنكولن، وكان أول من قدم دور طرزان على الشاشة.
خرج أبو سيف من السينما مفلساً، ليعود لبيته سيراً على الأقدام، ولكنه لم يشعر بطول المسافة فقد كان منتشياً مسحوراً لا يكاد يصدق ما رآه، ومن شدة انفعاله لم يستطع الكذب، فأخبر أمه وخاله بسر السينما، وتلقى عقاباً قاسياً، فقد ارتكب جريمتين معاً؛ التهرب من المدرسة ودخول السينما، وما كان منه إلا أن تحمل الضرب، ولكن بدون بكاء!

من باريس إلى أم كلثوم
عاش أبو سيف ميلاد استديو مصر، أول محاولة مصرية جادة لتوفير أدوات إنتاج محلية تساهم في نهضة السينما، وهو فكرة طلعت حرب أبو الاقتصاد المصري الحديث، كما شارك كمساعد مخرج في صناعة فيلم «العزيمة» من إخراج كمال سليم، الذي يعد بداية الواقعية في السينما المصرية. وكانت المرة الأولى في الفيلم التي تصور حارة مصرية نرى فيها على الشاشة الحلاق والحانوتي والجزار وبنت البلد والحياة الخلفية الخفية للقاهرة! وتكشف المذكرات عن سر مهم، حيث يروي أبو سيف أنه البطل الحقيقي لفيلم «شباب امرأة» الشهير الذي قامت ببطولته تحية كاريوكا وشكري سرحان، وفيه تقوم سيدة ناضجة تعاني الحرمان باستغلال شاب ساذج يبحث عن مكان للإيواء! يقول: «الفيلم تجربة حية عشتها في باريس، حين سافرت إليها شاباً في مقتبل العمر لأدرس المونتاج والإخراج. الطرف الآخر سيدة تمتلك فندقاً صغيراً، تجاوزت سن الشباب في حاجة إلى علاقة تعيد مصالحتها مع الحياة ومستعدة لأن تفعل أي شيء في سبيل ذلك».

ويشير صاحب المذكرات إلى موقف طريف جمعه بكوكب الشرق أم كلثوم، فقد كانت مطربة شهيرة عندما بدأت السينما تجري وراءها، أو بتعبير أدق وراء صوتها. كان أبو سيف مسؤولاً عن مونتاج فيلم تصوره في استديو مصر، وكانت حريصة على متابعة المونتاج كل يوم بعد الانتهاء من التصوير. ولم يكن يتصور مخرجنا أن هذه المتابعة جزء من وساوس ومخاوف أم كلثوم عند القيام بأي عمل فني، وتصور أن هذا الاهتمام موجه له شخصياً. ضاعف هذا الإحساس أنها كانت دائمة السؤال عنه، وسألت زملاء له عن أخلاقه ومرتبه، وكانت تحرص على إحضار الطعام له من بيتها، وكان من الطبيعي أن يقنعه غرور الشباب بأنها تحبه، بل تسعى للزواج منه!
لكن أبو سيف لم يبتعد عما في نيتها كثيراً، فهي كانت تريده أن يتزوج، ولكن ليس منها، بل من فتاة قريبة لها. وفيما بعد عرفت كوكب الشرق أنه مهتم بفتاة في قسم المونتاج، فاختفى الطعام، على حد تعبيره، وتراجع اهتمامها به حتى نهاية الفيلم!


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم