تجربة حملة بوش الأب بارقة أمل لترمب

دروس من سباق 1988 قد تساعد الجمهوريين على هزيمة بايدن

بوش ودوكاكيس خلال سباق 1988 الرئاسي (نيويورك تايمز)
بوش ودوكاكيس خلال سباق 1988 الرئاسي (نيويورك تايمز)
TT

تجربة حملة بوش الأب بارقة أمل لترمب

بوش ودوكاكيس خلال سباق 1988 الرئاسي (نيويورك تايمز)
بوش ودوكاكيس خلال سباق 1988 الرئاسي (نيويورك تايمز)

كان جورج بوش الأب واقعاً في مأزق انتخابي. كان ذلك في شهر يوليو (تموز) 1988 حين كان مايكل دوكاكيس، مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة، قد دخل المعترك الانتخابي بصفة رسمية بعد مؤتمر الحزب الديمقراطي. وعكس استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» أن مركز بوش متراجع بمقدار 17 نقطة عن منافسه الديمقراطي.
بيد أن جورج بوش الأب كان يملك خارطة طريق واضحة نحو الفوز.

عقد كبار مساعدي بوش، قبل شهر واحد من ذلك، اجتماعاً خاصاً بعيداً عن الأنظار وبعيداً كذلك عن المقر الرسمي للحملة الانتخابية، وذلك في فندق جيفرسون بالعاصمة واشنطن، من أجل استعراض مجلد سميك من بيانات الاقتراع وبيانات جماعات الضغط المعنية. وأظهرت أبحاث حملة بوش أن سجل السيد دوكاكيس لم يكن معروفاً بصفة جيدة، وأن بعضاً من المواقف الليبرالية المتخذة من جانبه، لا سيما تأييده المعلن لمنح السجناء إجازات خارج السجون مع معارضته القوية لعقوبة الإعدام، قد تكون السبب الحقيقي في إغراقه انتخابياً.
واصلت حملة بوش عملها، ودخلت الخطة التي وضعت في تلك الغرفة المغلقة حيز التنفيذ. وكما أبلغني لي أتواتر، مدير الحملة آنذاك، فإن الخطة استندت إلى تجريد دوكاكيس من كل ما يستند إليه من ركائز للفوز، بدءاً من الخطاب قوي اللهجة والأسلوب الذي ألقاه بوش في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في أغسطس (آب) من العام نفسه وحتى يوم انعقاد الانتخابات الرئاسية.
ولم ينجح بوش في التغلب على الميزة التي حققها دوكاكيس في استطلاعات الرأي الصيفية فحسب، بل تمكن من هزيمته بكل سهولة بهامش بلغ 53 في المائة مقابل 46 في المائة، إذ حاز على أصوات 40 ولاية دفعة واحدة.
وبغير طريقة من الطرق، كانت حملة بوش الرئاسية لعام 1988. مع وجود أتواتر على رأس المخططين الاستراتيجيين في الحملة، قد استحدثت ما عُرف منذ ذلك الحين بالحملات الانتخابية السلبية. ولعل أبرز ما نذكره من تاريخ تلك الحملة نجاح المعسكر الجمهوري في إلصاق قضية ويلي هورتون بدوكاكيس، وهي قضية المواطن الأميركي من أصول أفريقية الذي ارتكب جريمة اغتصاب بحق مواطنة أميركية بيضاء من ولاية ماريلاند وطعن صديقها في نفس الحادثة خلال وجوده خارج السجن ضمن برنامج إجازات السجناء في ولاية ماساتشوستس التي كان دوكاكيس حاكماً لها في تلك الأثناء.
وفي الوقت الذي يواجه فيه الرئيس دونالد ترمب أجواء مماثلة لأجواء ثمانينات القرن الماضي الانتخابية في معرض منافسته الرئاسية الشرسة ضد المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن، يمكننا القول بأنه يدير واحدة من أعنف الحملات الانتخابية الرئاسية وأشدها حدة منذ هزيمة دوكاكيس على يد بوش الأب من قبل. كما ينظر صقور المعسكر الجمهوري راهناً إلى السباق الرئاسي لعام 1988 على اعتباره بصيص الأمل أمامهم في خضم مشهد سياسي تخيم عليه سحب شديدة القتامة.
ورغم الاختلافات القائمة كافة ما بين المرشحين الديمقراطيين، فإن هزيمة مايكل دوكاكيس ظلت لفترة طويلة نسبياً بمثابة درس شديد القسوة في مدى السرعة التي يمكن أن يتغير بها الرأي العام الأميركي، وكيف أن استطلاعات الرأي الصيفية هي ذات أثر سريع الزوال، وكيف يمكن للمؤتمرات الحزبية المُعدة بكل عناية وحذر أن تأتي بأبلغ تأثير في خضم الحملة الانتخابية المتعثرة.
ومع بدء اجتماع الحزب الجمهوري الليلة من أجل ترشيح ترمب لولاية رئاسية ثانية، انطلق الرئيس رفقة حلفائه السياسيين والإعلاميين في هجمة شرسة على معسكر بايدن ورفيقته الانتخابية السيناتور كامالا هاريس. وهناك خط مباشر وواضح بين الحملة الإعلامية القاسية التي شنها جورج بوش الأب ضد دوكاكيس لوصمه بأنه ليبرالي يساري بالغ التطرف، والتيمات العنصرية التي واكبت «شخصنة» قضية ويلي هورتون وإلصاقها بدوكاكيس وقتذاك، وبين ما تعكسه وتجسده حملة ترمب الانتخابية حالياً.
فاز جورج بوش الأب الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس آنذاك في انتخابات عام 1988 الرئاسية عن طريق كيل الاتهامات ضد دوكاكيس الذي كان قابعا في ولاية ماساتشوستس، على اعتباره من أبناء النخبة الثرية من خريجي الجامعات المرموقة من غير ذوي الصلات الحقيقية والمباشرة بقضايا الأمة الأميركية ذات الأهمية. ولعب بوش الأب بمهارة فائقة على وتر القضايا الأميركية الساخنة، لا سيما الضرائب والجريمة، والتي برهنت مراراً وتكراراً عن فعاليتها البالغة ضد رجال المعسكر الديمقراطي، وهي نفس القضايا والتيمات التي تتبناها حملة ترمب راهنا ضد بايدن وهاريس.
يقول تشارلي بلاك، وهو مستشار انتخابي أسبق لدى جورج بوش الأب: «لا أعتبر نفسي من أبرز مؤيدي دونالد ترمب أو أكثرهم حماسة في العالم، ولكنني أبلغ أصدقائي بأن موقف الرجل ليس ميئوساً منه تماماً. فهناك بحوزة ترمب الكثير من الذخيرة التي يمكنه إطلاقها ضد معسكر بايدن. ولكن السؤال البارز في تلك الأثناء هو: هل لدى المعسكر الجمهوري مرشح يتسم بالقدر الكافي من الانضباط لمواصلة القتال؟».
وعليه، إن كان سباق عام 1988 الانتخابي يحمل دلالات تحذيرية لبايدن ومعسكره الديمقراطي، فإن هناك بعض الاختلافات الجوهرية الواضحة ما بين التجربة السابقة والحملة الجارية التي تقترب من بلوغ أعلى مستوياتها مع إنهاء المعسكر الديمقراطي لمؤتمره الانتخابي الأسبوع الماضي.
يعتبر بايدن معروفاً بصورة لم يحظ بها دوكاكيس قبل السباق، كما أنه برهن على تحليه بمرونة فائقة فيما يتعلق بالظهور الإعلامي بأكثر مما كانت عليه الأوضاع لدى دوكاكيس. أما بالنسبة إلى ترمب، فهناك شريحة من الناخبين تحمل حياله نظرة بالغة السلبية، ومرجع ذلك بدرجة كبيرة جائحة «كورونا» التي أتت على حياة أكثر من 175 ألف مواطن في الولايات المتحدة مع العصف الشديد بأركان الاقتصاد.
تعاني الأمة الأميركية حالياً من حالة شديدة من الإحباط بأكثر مما كانت عليه الأمور أثناء المواجهة الرئاسية بين مايكل دوكاكيس وجورج بوش الأب، والذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الأسبق رونالد ريغان بكل فعالية ومصداقية. وعكس استطلاع للرأي أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» بمشاركة من «سيينا كوليج» في يونيو (حزيران) الماضي أن نسبة 58 في المائة ممن شملهم الاستطلاع أفادوا بأن «الأمة تتحرك على المسار الخاطئ». وفي استطلاع آخر للرأي أجرته صحيفة «واشنطن بوست» رفقة شبكة «إيه بي سي» الإخبارية في خريف عام 1988، كانت نسبة أقل بلغت 46 في المائة من الناخبين المسجلين ترى الشيء نفسه.
وقالت سوزان استريتش، وكانت مديرة الحملة الانتخابية لدوكاكيس: «ستكون الأمور عسيرة للغاية بالنسبة لهم: فإن جوزيف بايدن شخصية معروفة لدى الجميع، والطريقة التي تنفجر بها البالونات تعتمد بالأساس على استغلال ضعف موقف الطرف المناوئ».
كما أن دوكاكيس المعتد بنفسه للغاية والمحتقر للألاعيب السياسية بشدة كان رافضاً لتصديق أن هذا النوع من هجمات المعسكر الجمهوري آنذاك سيُلحق به أدنى قدر من الأذى، ولم يسمع أو يستجب لنصائح مساعديه بالمقاومة ورد الهجوم بمثله، الأمر الذي أتاح لجورج بوش الأب أن يتجاوزه ويتفوق عليه.
وقال دوكاكيس في مقابلة أجريت معه مؤخراً: «لقد ارتكبت حماقة بالغة بعدم الرد عليهم وقتها. ولقد دفعت ثمن ذلك غالياً. وهذه التيمة ذات الصلة بعقوبة الإعدام تتعلق بنشأة كل واحد منا، فأنا من مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس وجورج بوش من هيوستون في ولاية تكساس. وولايتي بها أقل معدل لجرائم القتل في الولايات المتحدة بأسرها، حتى أن أغلب مواطني الولاية أنفسهم لا يعرفون ذلك».
وفيما يبدو أنه برهان على أهم الاختلافات ما بين عام 1988 والسباق الحالي، فإن ردود فعل بايدن تتسم بالعدائية الشديدة ضد هجمات ترمب ومعسكره الجمهوري. ويقول جون ساسو، وهو كبير المحللين الاستراتيجيين في حملة دوكاكيس: «لقد أداروا حملة انتخابية جيدة. كانوا يعرفون تماماً ما يأخذون وما يتركون. ويبدو أنهم يعرفون الأمور منزوعة المصداقية في هذا الخضم الهائل من الاتهامات ومحاولات التشهير والتشويه المرتبة، ولا يلقون لها بالاً».
ومع ذلك، كان أحد الدروس المستفادة من حملة جورج بوش الأب هو أن العديد من الناخبين لا يشرعون في إبداء الاهتمام الوثيق بالسباق الانتخابي الرئاسي حتى أواخر فصل الصيف. ولقد اختار بايدن رفيقته في السباق الانتخابي كامالا هاريس ذات السجل الليبرالي اللامع مع الخبرة القليلة في القضايا السياسية الوطنية، ما قد يثير شهية ترمب ومعسكره الجمهوري لشن المزيد من الهجمات. كما أن تفوق بايدن على ترمب لا يتوازى مع الميزة التي حققها دوكاكيس على بوش في منتصف صيف عام 1988، إذ أن الرئيس ترمب يعتبر قاب قوسين أو أدنى من الفوز بفترة رئاسية ثانية، لا سيما في بعض الولايات التي تحتدم فيها الصراعات الانتخابية منذ فترة ليست بالطويلة.
يقول تشارلي بلاك: «يكمن التشابه في أن بايدن ملتزم بكم هائل من الأفكار التقدمية والاشتراكية، وكل ما يمكن قوله عن ذلك، من أجل توحيد أواصر الحزب الديمقراطي». أما ترمب، من جهة أخرى، كما يقول «فيمكنه استغلال التحالف بين بايدن والسيناتور بيرني ساندرز في تصوير منافسه الديمقراطي على أنه سياسي ليبرالي أبعد ما يكون عن أرض الواقع، بنفس الوسيلة التي استعان بها بوش الأب في تصوير مايكل دوكاكيس من قبل، رغم الخلاف الواضح بين بايدن وساندرز بشأن الكثير من القضايا».
ومع ذلك أيضاً، وكما أضاف بلاك، «ينبغي أن يكون لدى المعسكر الجمهوري الكثير من الأمل. ومن شأن محترفي العمل السياسي أن يكونوا في موضع متقدم في هذه المرحلة الراهنة. فإن نقطة التحول الرئيسية هي المؤتمر الانتخابي».
كان جورج بوش الأب يكافح كفاحاً مريراً مع وصوله إلى مرحلة مؤتمر الحزب الجمهوري في مدينة نيو أورليانز في منتصف أغسطس 1988. وكان يحاول التغلب على التاريخ الحزبي القاتم من خلال قيادة الحزب إلى الولاية الثالثة على التوالي داخل عتبات البيت الأبيض.
تقول جانيت مولينز غريسوم، وكانت نائبة مدير السياسات الوطنية في حملة جورج بوش الأب الانتخابية: «كان بوش متأخراً عن الركب الانتخابي لأسباب عدة واضحة. فلقد أمضى ثمانية أعوام شاغلاً منصب نائب الرئيس رونالد ريغان، وكان رجال البيت الأبيض الأقوياء دوماً ما يشككون في أن جورج بوش الأب إذا تولى رئاسة البلاد لن يكون محافظاً بالقدر الكافي. كما أنه عانى من كم كبير من التغطية الصحافية والإعلامية السيئة في تلك الأثناء».
وأضافت غريسوم: «كانت نقطة التحول المهمة تتمثل في مؤتمر الحزب الجمهوري. فلقد كانت الفرصة الذهبية بالنسبة إلينا لإعادة تقديم شخصية جورج بوش الرئاسية على الملأ من دون مرشحات. ولقد رآه الناس من خلال المؤتمر ومن خلال الخطاب الذي ألقاه في المؤتمر، في صورة جديدة ولطيفة للغاية من دون ضرائب أو قيود جديدة من أي نوع».
كانت محاولة إعادة طرح شخصية بوش قد مهدت الأجواء تماماً للإعداد لشن الهجمات السياسية الجديدة. فلقد جرى الإعراب عن خطة الحملة الانتخابية لإطاحة دوكاكيس بين طيات خطاب مؤتمر الحزب الجمهوري بصورة لا تحتمل اللبس، ممتزجة ببراعة فائقة بالحديث المستمر عن الأمة الأميركية الأكثر لطفاً وهدوءاً. ولقد جال بوش في عجالة على المواقف كافة التي اتخذها دوكاكيس من قبل، مما قد عكف مساعدوه على مراجعته سطراً بسطر في غرفة فندق جيفرسون المغلقة في العاصمة واشنطن.
وقال جورج بوش الأب في خطابه: «هل ينبغي علينا أن نطلب من معلمي المدارس في بلادنا أن يقودوا أطفالنا على مسيرة عهد الولاء للعلم الأميركي؟»، وذلك في مثال واحد فقط كان يحاول من خلاله إبلاغ الجمهور الحاضر أن حاكم ولاية ماساتشوستس قد استخدم حق النقض «فيتو» في رفض مشروع قانون يتضمن هذا الشرط على وجه التحديد، وأضاف أن «خصمي قال كلا، ولكنني أقول نعم».
وعبر خطابات الحملة الانتخابية وفي الراديو والتلفاز والرسائل البريدية، وغيرها من وسائل الإعلام، استعان جورج بوش بسجل دوكاكيس كي يجعل منه خصماً مباشرا للطبقة الوسطى الأميركية. واستخدم كلمات خصمه نفسها في كيل الاتهامات ضده، مثل كونه يحمل عضوية كاملة لدى «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية».
كما أثار خصوم دوكاكيس التساؤلات بشأن لياقته العقلية، وذلك قبل أن يواجه بايدن الهجمات نفسها بعقود طويلة. وانطلقت جماعات الضغط المحافظة في بث الشائعات على أن دوكاكيس كان يُخفي حقيقة مفادها أنه قد تلقى علاجاً مسبقاً من الاكتئاب.
ومع وصول فصل الصيف في ذلك العام إلى نهايته، سُئل الرئيس الأسبق رونالد ريغان عما إذا كان ينبغي على دوكاكيس الإفصاح عن سجلاته الطبية الشخصية، فأجاب الرئيس وقتها قائلاً: «تعلمون أنني لن أُقدم أبداً على اختيار مرشح غير صالح لتولي المهام الرئاسية».
بيد أن ريغان صرح في وقت لاحق بأن تعليقه السابق كان مزحة سخيفة. ولكن سواء عن قصد أو عن غير قصد، نجحت تلك المزحة في تعزيز الشائعات الرائجة وقتها ونقلها إلى مركز اهتمام الرأي العام الأميركي آنذاك. وما كان من دوكاكيس إلا أن دعا إلى عقد مؤتمر صحافي عاجل ليعلن فيه أنه لم يكن يعاني من أي مرض عقلي في حياته.
لكن في أكثر هجماته السياسية تدميراً، استغل جورج بوش الأب قضية ويلي هورتون أيما استغلال، والتي كانت تُشكل الملحق الأول في القضية العامة التي طرحت بشأن دوكاكيس وسياسات العدالة الجنائية الليبرالية المعتمدة لديه. وتحول برنامج إجازات السجناء إلى أحد العناصر الأساسية التي ارتكز إليها بوش في هجماته على دوكاكيس، والتي أسهمت من نواحٍ عدة في تأطير هوية السباق الانتخابي الرئاسي في عام 1988.
وعمدت حملة جورج بوش الأب الانتخابية إلى إنتاج إعلان يهاجم برنامج إجازات السجناء في ولاية ماساتشوستس. وأظهر الإعلان سلسلة من السجناء الذين يمرون عبر الباب الدوار في السجن، غير أنه لم يذكر هورتون على الإطلاق. وجاء الإعلان الذي كان من إنتاج إحدى لجان العمل السياسي المستقلة ليعكس صورة مشؤومة للغاية لشخصية ويلي هورتون. وقال صوت المذيعة المصاحب للإعلان: «لا يعارض مايكل دوكاكيس عقوبة الإعدام فحسب، وإنما قد سمح لمرتكبي جرائم القتل من الدرجة الأولى بالحصول على إجازات من الدرجة الأولى خارج السجون».
ونفى السيد أتواتر أي صلة تُذكر بين حملة جورج بوش والحملة الإعلانية التي ظهرت فيها صورة المجرم ويلي هورتون. غير أن دوكاكيس لم يصدق ذلك على الإطلاق. وبصرف النظر تماماً عن حقيقة الأمر، دائماً ما أوضح أتواتر أن «حكاية» ويلي هورتون كانت بمثابة مفتاح النصر بالنسبة إلى جورج بوش الأب. ولقد قال عن ذلك: «إذا كان بإمكاني المزيد من الترويج لاسم ويلي هورتون فسوف نربح الانتخابات بكل تأكيد».
أما بالنسبة إلى حملة دونالد ترمب الانتخابية، يبدو أن دروس عام 1988 قد جرى استيعابها حتى قبل أن ينتهي الحزب الديمقراطي من مؤتمره الوطني. فيوم الخميس الماضي، وفي تصريحات صادرة من ولاية بنسلفانيا قبل ساعات من خطاب قبول بايدن لترشيح الحزب الديمقراطي، شن ترمب هجوماً جديداً على هاريس تحمل أصداء ذات صلات مباشرة تذكرنا بقضية ويلي هورتون القديمة.
وقال ترمب: «عندما كانت السيدة كامالا هاريس تشغل منصب المدعي العام في سان فرانسيسكو قامت بوضع مهرب للمخدرات يقيم في البلاد بصورة غير مشروعة ضمن برنامج للتوظيف بدلاً من أن تزج به في السجن. وبعد مرور أربعة أشهر على ذلك، قام نفس المجرم بسرقة امرأة تبلغ من العمر 29 عاماً، وصدمها بسيارة دفع رباعي، مما أسفر عن كسر جمجمة السيدة والقضاء على حياتها».
وخلال صيف 1988، كانت حملة دوكاكيس الانتخابية قد انتابها قدر من الهدوء الخادع إثر استطلاعات الرأي العام التي أظهرت أنه يسير على طريق الفوز لا محالة. كما علم رجال حملة جورج بوش من بعض المستشارين في ولاية ماساتشوستس، ممن كانوا يعملون في حملات مضادة للسيد دوكاكيس، أنه سيلتزم الصمت التام إذا ما تعرض للهجوم في الفترة المقبلة.
وقالت استريتش إن دوكاكيس قد رفض فكرتها القائلة بأن يقود مؤتمر الحزب الديمقراطي في قسم الولاء للعلم الأميركي، وهي الخطوة التي اعتبرت أنها ربما تخفف من حدة هجمات المعسكر الجمهوري آنذاك، وقال جون ساسو: «لقد سمح دوكاكيس لحملة بوش أن تحدد له موقفه ومجالات تحركه خلال تلك الفترة العصيبة وبطريقة مشوهة للغاية».
كان جورج بوش الأب يتمتع بقدر فائق من اللطف والكياسة، ولقد أخبر مستشاريه بأنه يرى الحملات الانتخابية السلبية من الأمور المقيتة للغاية. ولكن عندما حذروه من أن هذه هي الطريقة الوحيدة أمامهم للفوز بالانتخابات الرئاسية، شجعهم وأيد توجهاتهم بقوة لدرجة أنه لم يتخل عن دماثة أخلاقه عند اعتذاره عن فحوى حملته الانتخابية بعد فوزه برئاسة البلاد.
واستغرق الأمر أسابيع عدة من دوكاكيس ليصل إلى ذلك المستوى. وبحلول نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 1988، تبنى دوكاكيس ما كان يشكل خط جورج بوش الرئيسي في الهجوم. وقال: «إنني سياسي ليبرالي على خُطى فرانكلين روزفلت، وهاري ترومان، وجون كينيدي». غير أن الأوان كان قد فات على ذلك.
وفي حين أن ترمب يواجه منحدراً أكثر صعوبة، بيد أن هناك عدداً من السبل التي يراها الجمهوريون كوسيلة من وسائل إعادة إحياء مجريات حملة جورج بوش القديمة. ويحاول ترمب تصوير بايدن على أنه أسير من أسرى تيار اليسار. كما يحاول شيطنة شخصية هاريس. واستغل حلقات الاضطرابات المدنية في غير مكان مثل مدينة شيكاغو.
ولكن مع انتهاء مؤتمر الحزب الديمقراطي وتهيئة الأجواء لانطلاق مؤتمر الحزب الجمهوري باتت الفترة الزمنية المتبقية وجيزة للغاية. وتقول استريتش: «تكمن المشكلة لدى ترمب في أنه لم يعثر على شخصية ويلي هورتون بعد. ولكنه يواصل البحث».
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

الولايات المتحدة​ مؤسس شركة «أمازون» الأميركية العملاقة جيف بيزوس متحدثاً في لاس فيغاس (أ.ب)

عمالقة التكنولوجيا يخطبون ودّ ترمب… بالملايين

اصطف مليارديرات صناعة التكنولوجيا الأميركيون، وآخرهم مؤسس «أمازون» جيف بيزوس، لخطب ود الرئيس المنتخب قبل عودته للبيت الأبيض من خلال تبرعات بملايين الدولارات.

علي بردى (واشنطن)
الولايات المتحدة​ دونالد ترمب في ولايته الأولى رئيساً للولايات المتحدة يلوح بيده خلال اجتماع ثنائي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة زعماء مجموعة العشرين في أوساكا باليابان في 28 يونيو 2019 (رويترز)

ترمب ينتقد قرار بايدن إرسال صواريخ تستهدف العمق الروسي ويصفه بالأحمق

موسكو ترحب بانتقادات دونالد ترمب لقرار جو بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ أميركية بعيدة المدى ضد أهداف داخل عمق الأراضي الروسية

هبة القدسي (واشنطن)
المشرق العربي وزيرا الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال إفادة صحافية مشتركة بعد مباحثاتهما في أنقرة الجمعة (رويترز)

«توافق عام» تركي - أميركي على مستقبل سوريا ما بعد الأسد

سيطر ملفان رئيسيان على مباحثات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في أنقرة؛ أولهما مستقبل سوريا ما بعد بشار الأسد، والثاني التباين حول مكافحة الإرهاب.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

استطلاع: الأميركيون ليس لديهم ثقة كبيرة في اختيارات ترمب لأعضاء الحكومة

أظهر استطلاع جديد للرأي أن الأميركيين ليست لديهم ثقة كبيرة في اختيارات الرئيس المنتخب دونالد ترمب لأعضاء الحكومة، أو فيما يتعلق بإدارة ملف الإنفاق الحكومي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.