كتاب موسوعي بالفرنسية عن العلاقات بين اليهود والمسلمين

ساهم فيه مائة باحث تناولوا تاريخها منذ أكثر من ألف عام حتى اليوم

بنيامين ستورا  -  عبد الوهاب المؤدب
بنيامين ستورا - عبد الوهاب المؤدب
TT
20

كتاب موسوعي بالفرنسية عن العلاقات بين اليهود والمسلمين

بنيامين ستورا  -  عبد الوهاب المؤدب
بنيامين ستورا - عبد الوهاب المؤدب

ماذا يمكن أن نقول عن هذا الكتاب الموسوعي الذي يحاذي الألف ومائتي صفحة، والذي ساهم فيه أكثر من مائة باحث عربي ويهودي وأجنبي؟ هل يمكن عرضه أو استعراضه في مقالة صحافية واحدة؟ هل تفيه حقه؟ بالطبع لا، ولكننا سنحاول ما نستطيع. نلاحظ أن هذا الكتاب الضخم يستعرض تاريخ العلاقات منذ أن بدأت بين النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والقبائل اليهودية في الجزيرة العربية، قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، حتى انفجار الصراع العربي - الإسرائيلي بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948؛ أنه تاريخ طويل عريض: أربعة عشر قرناً من الزمن فقط! ولكن عرض الأمور على هذا النحو قد يوهمنا بأن هذه العلاقات كانت كلها حرباً ضروساً وعداءً مستحكماً. وعندئذ، سوف يطمس قروناً طويلة من التفاعل الحضاري الخلاق بين العرب واليهود. ونقصد بها قرون العصر الذهبي في بغداد أولاً، فقرطبة والأندلس الزاهرة ثانياً، بل وحتى على مستوى الفترة النبوية ذاتها، نلحظ أن النظرة إلى اليهود كانت إيجابية جداً في البداية، قبل أن تنقلب إلى سلبية.
وبالتالي، فمن يرد إقامة السلام والإخاء مع اليهود يمكنه أن يجد تبريراً إسلامياً تاريخياً، ومن يرد مواصلة العداء والصراع إلى ما لا نهاية يمكنه أيضاً أن يجد تبريراً. وهذا يعني أنه لا يوجد باراديغم واحد تجاه اليهود، وإنما باراديغمان اثنان (نقصد بالباراديغم هنا الموقف الفكري الأعلى أو النموذج اللاهوتي الأعظم الذي يعلو ولا يعلى عليه). ولكن الصراع الهائج الذي حصل بعد احتلال فلسطين، وتأسيس الدولة الإسرائيلية، عام 1948، قضى كلياً على باراديغم السلام، وغلب نهائياً باراديغم الحرب والعداء والصراع، ثم تحول هذا الباراديغم العدائي إلى حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس، انغرست كلياً ونهائياً في وعي الشعوب العربية على مدار الستين سنة الماضية، وأصبحت راسخة رسوخ الجبال. وتخيلنا، عندئذ، أن العلاقات بين العرب واليهود كانت دائماً هكذا عدائية صراعية على مدار التاريخ، ولم توجد نقطة ضوء واحدة فيها، ولكننا واهمون مخطئون، فمسيرة التاريخ الفعلية الواقعية تناقض ذلك، كما يشرح لنا المشرفان الكبيران على هذه الموسوعة التاريخية. فقد أشرف عليها من الجهة العربية المفكر التونسي التنويري الكبير عبد الوهاب المؤدب، وهو صاحب الكتاب الشهير باسم: مرض الإسلام (بالأصولية الظلامية). وأشرف عليها من الجهة اليهودية المؤرخ الأكاديمي المعروف بنيامين ستورا، وهو فرنسي من أصل جزائري لأنه من مواليد قسنطينة، حيث نشأ وترعرع، قبل أن يهاجر إلى باريس. وقد لمع اسمه مؤخراً لأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استقبله شخصياً في قصر الإليزيه، وعينه مسؤولاً عن ترميم الذاكرة الجريحة بين فرنسا والجزائر. وفي الوقت ذاته، عين الرئيس الجزائري المؤرخ عبد المجيد شيخي مسؤولاً عن هذا الترميم من الجهة الجزائرية؛ والهدف كله هو تعزيز المصالحة التاريخية بين الشعبين.
يشرح بنيامين ستورا مشروع الكتاب قائلاً: هذه الموسوعة التي نقدمها للقراء لا سابق لها ولا مثيل. صحيح أنه يوجد تاريخ للعرب، وتاريخ للمسلمين، وتاريخ لليهود، ولكن بشكل منفصل، كل على حدة. غير أنه حتى الآن، لا يوجد كتاب موسوعي ضخم يشرح لنا عمق العلاقات الإسلامية - اليهودية، وبالأخص العربية - اليهودية. هذا ما كان ينقص المكتبة الفرنسية، ولذلك شرعنا بسد هذا النقص. وكنا نهدف من وراء الكتاب إلى عدة أشياء: أولها ردم الهوة النفسية أو السيكولوجية السحيقة التي تفصل بين العرب واليهود في زمننا الحاضر. فقبل ذلك، لم تكن هذه الهوة عميقة أو سحيقة، على عكس ما نتوهم. قبل ذلك، كانت هناك علاقات طبيعية، بل وودية في أحيان كثيرة، على مدار التاريخ. من يصدق ذلك الآن؟ في الماضي، كان المؤلفون أو المفكرون يتحدثون عما يجمع بين المسلمين واليهود، لا عما يفرق، أو قل كانوا يتحدثون عما يجمع أكثر مما يتحدثون عما يفرق. كانوا يتحدثون عن القواسم المشتركة التي تتيح لهم أن يتعايشوا بعضهم مع بعض جنباً إلى جنب. فالإسلام أيضاً دين إبراهيمي، مثل اليهودية والمسيحية اللتين سبقتاه إلى الوجود... هذا وقد تحدث الأكاديميون الكبار عن هذه القضايا، وعن العصر الذهبي للعلاقات العربية - اليهودية في عهد الحضارة العباسية أو الأندلسية، حيث ازدهر اليهود ثقافياً آنذاك، وقدموا عطاءهم الخاص في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وفي المجالات كافة، أدبية وشعرية وفلسفية، بل وحتى فنية وموسيقية. ولكن كل هذا التفاعل الحضاري الإبداعي الخلاق أصبح نسياً منسياً بعد تأسيس دولة إسرائيل، والتراجيديا الفلسطينية الهائلة الناتجة عن ذلك مباشرة. كل هذا أصبح في خبر كان وأخواتها، وزال كلياً وكأنه لم يوجد قط، وأصبحت الأجيال تعتقد أن الصراع بين العربي واليهودي أبدي أزلي لا يحول ولا يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن الحقيقة التاريخية تقول لنا العكس تماماً، فالعلاقات الإنسانية والتفاعلية الحضارية بين العرب واليهود كانت قوية إبان الحضارات السابقة والعصور الذهبية. وبالتالي، فالشيء الذي سمم الأجواء كلها هو هذا الصراع الجهنمي المدمر الذي لا يزيد عمره على خمسين سنة، في حين أن عمر العلاقات العربية - اليهودية يزيد على الألف سنة. وهذا لا يعني إطلاقاً التقليل من خطورة المأساة الفلسطينية، وآلام شعب فلسطين التي تفوق الوصف، ولكننا نحاول موضعة الأمور ضمن منظورها التاريخي الأوسع.
وأما عبد الوهاب المؤدب، فيقول لنا ما فحواه: لقد كان هدفنا من الإشراف على هذا الكتاب الجماعي الضخم تذكير المسلمين، والعرب خصوصاً، بالحقيقة التالية: إن العلاقات بيننا وبين اليهود كانت خصبة كثيفة معطاءة على مدار التاريخ حتى عام 1948. ولا أهدف هنا إلى تجميل هذه العلاقات، أو المبالغة فيها، وإنما إلى التذكير فقط بلحظات التبادل الثقافي والحضاري. هل نسينا الحضارة الأندلسية؟ هل نسينا الموسيقى العربية - اليهودية؟ بل هل نسينا الفلسفة العربية - اليهودية؟ كلنا يعلم أن الفيلسوف اليهودي الكبير موسى ابن ميمون كتب رائعته الكبرى «دلالة الحائرين» باللغة العربية، لا العبرية. وبعدئذ، ترجمت إلى العبرية. وبالتالي، فهو نتاج الإطار الثقافي للحضارة العربية الإسلامية. وهو بهذا المعنى مثقف عربي لأن كل من كتب وأبدع بلغة الضاد فهو عربي، شاء أم أبى. وينبغي العلم بأن الإطار الحضاري العربي الإسلامي كان هو المهيمن على العالم آنذاك، مثلما أن الإطار الحضاري الأوروبي والأميركي الشمالي هو المهيمن على العالم حالياً. وكل من يريد أن يشتهر آنذاك كان ينسى لغته الخاصة، ويدبج كتاباته وإبداعاته باللغة العربية. فقد كانت لغة العولمة الثقافية آنذاك، تماماً مثل الإنجليزية حالياً. ولذلك، أبدع فيها المفكرون اليهود وغير اليهود. وينبغي العلم أيضاً أن كثيراً من وزراء وأطباء ومستشاري الخلفاء العرب المسلمين كانوا من اليهود، وكانوا يثقون بهم كل الثقة. وبالتالي، فلا ينبغي أن نشطب على كل هذا التراث التفاعلي الحضاري بجرة قلم بسبب الصراع الحالي الذي سيجد له حلاً مهما طال الزمن.
- القضية الفلسطينية في ضوء فلسفة التاريخ
ماذا نستنتج من كل ما تقدم؟ نستنتج أن لغة الرصاص والذبح والقتل ليست هي الوحيدة الممكنة بيننا وبين اليهود. فبما أن التعايش المثمر حضارياً قد حصل سابقاً، فلا أعرف لماذا لا يحصل لاحقاً؟ بما أنه قد حصل في ظل خلفاء عباسيين وأمويين وأندلسيين كبار، كعبد الرحمن الثالث وسواه، فلماذا لا يحصل حالياً؟ بمعنى آخر: لماذا لا نجرب لغة أخرى مع إسرائيل واليهود عموماً؟ بعد أن استنفدنا لغة الرصاص والعداء المطلق على مدار خمسين سنة متواصلة، لماذا لا نجرب لغة الحوار والتفاوض والتعارف وجهاً لوجه؟ لهذا السبب فإني لا أفهم كل هذه الإدانات والهجمات التي تتعرض لها الإمارات العربية المتحدة حالياً. فجأة، انفتحت عليها الأبواق الشعبوية والغوغائية الديماغوجية من كل الجهات، وتحول قسم من المثقفين العرب إلى صوت واحد يردد الشعارات نفسها والكلمات نفسها كالببغاوات. من يستطيع أن يقول إن الإمارات تخلت عن القضية العربية، وهي الدولة التي دعمت القضية الفلسطينية على مدار التاريخ، وحتماً ضخت فيها المليارات، وأعتقد أنها ستصبح أقدر على خدمتها بعد الصلح والاتفاق؟ وفجأة، تتحول إلى دولة «خائنة» لأنها ارتأت أن هناك طريقة أخرى لإدارة الصراع غير الطريقة المكرورة العقيمة السابقة التي لم توصل إلى نتيجة. ينبغي أن يعلم إخواننا من المثقفين الفلسطينيين أن جراحاتهم جراحاتنا وآلامهم آلامنا وقضيتهم قضيتنا، ليس فقط لأنها عربية، وإنما لأنها قضية حق وعدل، ولكن لا ينبغي بعد الآن استخدامها سيف ديموقليس المسلط فوق الرؤوس بتهمة «الخيانة». وهي كلمة مرعبة شائنة لا تنطبق حتماً على دولة رائدة كالإمارات. وينبغي العلم بأن غلاة اليهود في فرنسا يستخدمون أيضاَ تهمة معاداة السامية سيف ديموقليس، ويرعبون بها كل المثقفين الفرنسيين، ويسلطونها على رؤوسهم. وبالتالي، فلا ينبغي أن يقع إخواننا الفلسطينيون في الفخ نفسه أو الغلطة نفسها، فهذا يسيء إلى القضية ولا يفيدها. أخيراً، ربما عادت الأندلس مجدداً إلى فلسطين أو من خلال فلسطين. فإسرائيل مهما كبرت وعظم شأنها، تظل قطرة في بحر من العرب، والمنطقة عربية من المحيط إلى الخليج، وستبقى. ولكنها عربية بالمعنى الحضاري والإنساني، لا بالمعنى الشوفيني الطائفي الشعوبي. بهذا المعنى، فنحن نعيش الآن منعطفاً تاريخياً كبيراً، ليس فقط بالنسبة للقضية الفلسطينية، وإنما بالنسبة للقضية العربية ككل. أقصد أن القرون الوسطى العربية الإسلامية، أي عصور الانحطاط، سوف تنهار، وتحل محلها العصور العربية التنويرية الجديدة. وقد ساهمت الإمارات في ذلك مؤخراً، عندما تعانق على أرضها شيخ الأزهر وبابا روما، وأصدرت وثيقة «الأخوة الإنسانية». وقدمت بذلك خدمة كبيرة للعرب والمسلمين، عندما أبرزت الصورة المشرقة للعروبة والإسلام. ونقضت بذلك تلك الصورة الظلامية الداعشية التي شوهت وجهنا وتراثنا في شتى أنحاء العالم. وبالتالي، فبدلاً من أن نشكرها نرميها بحجر!


مقالات ذات صلة

فانس يستشهد بمفهوم «أردو أموريس» الكاثوليكي دفاعاً عن سياسة ترمب في ملف الهجرة

الولايات المتحدة​ نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس يتحدث في قمة الحريات الدينية الدولية في فندق واشنطن هيلتون 5 فبراير 2025 (أ.ب)

فانس يستشهد بمفهوم «أردو أموريس» الكاثوليكي دفاعاً عن سياسة ترمب في ملف الهجرة

استشهد نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس، مؤخراً باللاهوت الكاثوليكي في العصور الوسطى لتبرير حملة الإدارة الأميركية ضد الهجرة في عهد الرئيس دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق جانب من كاتدرائية نوتردام دو باريس في باريس، بعد ترميمها، 29 نوفمبر 2024 (رويترز)

كاتدرائية نوتردام الفرنسية تتعافى من الحريق... وتكشف عن هيئتها الجديدة للعالم

بعد أكثر من خمس سنوات من أعمال ترميم واسعة، كشفت كاتدرائية نوتردام في العاصمة الفرنسية باريس عن هيئتها الجديدة للعالم اليوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف
TT
20

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

حين يقرر أحد رجال المال والأعمال العرب أن يكتب مذكراته، عادةً ينطلق من هدف مُعلن مفاده نقل خبراته وتجاربه للأجيال الأحدث، ما يظهر جلياً في مذكرات شخصيات مصرية مثل محمود العربي أو رؤوف غبور، أو حتى في نصائح وشذرات تركها طلعت حرب رائد الاقتصاد المصري. لكن رجل الأعمال المصري المعروف صلاح دياب ينطلق في تدوينه لسيرته الذاتية من بُعدٍ إضافي إلى جانب نقل الخبرة: الشغف.

ففي مذكراته الصادرة عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة تحت عنوان «هذا أنا»، في 2025، تبدو فكرة الشغف بالكتابة والرغبة في البوح هي المحرك الأساسي الذي دفعه لتسجيل مشوار حياته، عبر محطات متباينة بعضها يشكل قصصاً ملهمةً. أما البعض الآخر فأسماه «تجارب لم تكتمل»، وهي تجارب عدّها «دروساً مرتفعة التكلفة».

صلاح دياب هو صاحب ما يمكن اعتباره إمبراطورية من الأعمال المتشعبة، وبرغم ذلك يطرح تساؤلاً مبدئياً حول السبب الذي دفعه لكتابة مذكراته: «لست زعيماً سياسياً ملهماً، أو نجماً سياسياً يجتذب الأضواء، أو مصلحاً اجتماعياً يتأمل الناس سيرته، أو مجدداً يتتبع الجمهور مسيرته».

لكنه في الوقت ذاته يحرص على تعريف القارئ بنفسه في كلمات سريعة؛ فهو حلواني ومزارع ورجل بترول ومستثمر عقاري وناشر وكاتب. خاض الكثير من المعارك، خصوصاً حين بدأ عام 2012 في كتابة عموده اليومي بجريدة «المصري اليوم» تحت اسم مستعار «نيوتن»، وبعد 8 سنوات من كتابة المقال اليومي اضطُر للإفصاح عن شخصيته؛ إثر حملة تعرض لها بعد مقال نشره حول اللامركزية وسيلةً لإحداث طفرة اقتصادية، واجه بسببه اتهامات من أوساط صحافية بالترويج لأفكار «انفصالية».

ولد صلاح دياب في 4 فبراير (شباط) عام 1944 لعائلة من محافظة الشرقية في دلتا النيل، واختارت الأسرة له اسم خاله الذي رحل عام 1942 في حادث أليم.

وتحكي المذكرات عن الجذور البعيدة للعائلة، والدور الذي قام به جده في الثورة العرابية (1882) والحكم عليه بالإعدام، ثم تحديد إقامته في قريته بعد عفو من الخديو توفيق.

يتضح الشغف بالكتابة منذ مفتتح المذكرات برسالة يوجهها الكاتب إلى جده توفيق دياب (1886 - 1963)، صاحب جريدة «الجهاد»، التي كانت في فترة ما لسان حال حزب «الوفد»، وربما كان هذا الشغف، الذي تربى صلاح دياب في كنفه، هو ما دفعه لاستعادة تجربة جدّه (لأُمِّه) في إصدار جريدة يومية هي «المصري اليوم»، بمشاركة رجال أعمال آخرين، وحققت الجريدة صدى واسعاً في الأوساط الصحافية بمصر.

وإذا كانت بعض المذكرات، خصوصاً في الغرب تعتمد على «فلسفة الاعتراف» التي ركّزها جان جاك روسو (1712 - 1778) في مفهوم «الحب الشخصي»، بمعنى حب الذات والارتقاء بها عبر البوح بأدرانها سعياً للتخلص من عبئها، فإن هذه الفلسفة تكاد تكون محدودةً في العالم العربي، نظراً لخصوصية القيم التي تحكمه.

ورغم أن فلسفة الاعتراف حضرت في بعض الأعمال النادرة مثل مذكرات سعد زغلول، الذي لم تمنعه مكانته السياسية المرموقة، كرمز لثورة 1919 في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي، عن الاعتراف بإدمانه القمار، ومحاولته التخلص من هذه العادة السيئة، فقليلاً ما يظهر أنموذج مشابه.

وفي حين يجعل صلاح دياب في مذكراته «الاعتراف والصراحة من مبادئ البوح»، فقد قرر الكتابة بنفسه، مؤكداً أن من يعرفونه عن قرب «سيصدقون كل ما يكتبه»، لأنهم يدركون أنه يمتلك من العفوية أو «التهور» ما يجعله يقول كل شيء وأي شيء، حسب تعبيره.

مدفوعاً بالرغبة في الاعتراف، تحدث دياب عن فترة الشباب، ومخالفاته التي ارتكبها خلال التحاقه بالكلية الفنية العسكرية، حتى تعرضه للحبس والفصل منها، ومحاولة التوسط لدى المشير عبد الحكيم عامر لإعادته للكلية دون جدوى، ثم توجهه للدراسة في كلية الهندسة، ولا ينكر بعض الانفلات في سلوكه بمرحلة الشباب، وفي الوقت نفسه شهدت هذه الفترة أول عمل حقيقي يتولاه وهو طالب، ويحكي كيف نجح في هذا العمل، الذي كان دافعاً لنجاحات أخرى لاحقة.

لا ينفي صلاح دياب الأزمات التي تعرض لها منذ الصغر، بداية من تربيته في بيت جده بعيداً عن الأب والأم اللذين انفصلا، وصولاً إلى فترات شبابه الأولى من خلال ما يعرّفه بأنه مجموعة من الأرستقراطيات. لم يخلُ بعضها من أزمات وخسارات فادحة.

يبدأ بالأرستقراطية الاجتماعية التي انتمى إليها بحكم تعليمه الأساسي في المدرسة الإنجليزية، ثم الأرستقراطية الريفية في مزرعة جده، ثم الأرستقراطية العسكرية الأكاديمية، ثم أرستقراطية السجن.

وبجملٍ لا تخلو من المرارة، يحكي صاحب المذكرات عن تعرضه للسجن، ويشرح بالتفصيل طريقة القبض عليه ووضع الأصفاد في يديه وتصويره بهذه الهيئة، ويشير إلى أن «التهمة الباطلة التي كانت بانتظاره ظاهرياً» هي ضبط سلاح بدون ترخيص في منزله، في حين أن الرسائل التي وصلته قبلها ولم ينتبه لها كانت مرتبطة باتهامات للجريدة التي أسسها.

كما يحكي صاحب المذكرات عن ظروف الإفراج عنه، وعن لقاءين جمعاه بالرئيس المصري استمر أحدهما لثلاث ساعات، والجهود التي بذلها مع رجال أعمال آخرين في صندوق «تحيا مصر» الذي أنشأته الدولة لدعم الاقتصاد.

مغرم صاحب المذكرات بالمفارقات، فهو يرى في الصدفة فرصة تبحث عمن يحسن توظيفها، ويرى في المحنة منحة لمن يتمكن من الاستفادة منها في التعلم والتأمل، ومن هذا المنطق يحكي عن الكثير من المشروعات الكثيرة، التي خاض غمارها و«معظمها لم ينجح». وفي أكثر من موضع يبدو كأنه يرفع شعار مؤسس «علي بابا» جاك ما، في الكتاب الذي يضم خلاصة خبرته؛ وعنوانه «لا تستسلم أبداً» يشرح مقصده.

يعتقد دياب أن فكرة الكتابة لم تنبت لديه من الفراغ أو لمجرد التأثر بجدّه، بل تتصل بعلاقاته الوثيقة بكبار الكتاب مثل أنيس منصور ومصطفى أمين ويوسف إدريس وعلي سالم وغيرهم. وحكى كيف بدأت فكرة عمود «نيوتن» بالتعاون بينه وبين عبد الله كمال، فكان دياب يقدم الفكرة وكمال يصوغها بأسلوبه الرشيق.

وصاغ صلاح دياب أكثر من فكرة حول فلسفة الحياة وقوة الإرادة، والتعامل مع الدين بأريحية ونظرة فلسفية عميقة، من خلال شخصية «نيوتن»، وهي أفكار أعادها في مذكراته أيضاً بوصفها قناعات آيديولوجية تدفعه للبوح كتابة.