كتاب موسوعي بالفرنسية عن العلاقات بين اليهود والمسلمين

ساهم فيه مائة باحث تناولوا تاريخها منذ أكثر من ألف عام حتى اليوم

بنيامين ستورا  -  عبد الوهاب المؤدب
بنيامين ستورا - عبد الوهاب المؤدب
TT

كتاب موسوعي بالفرنسية عن العلاقات بين اليهود والمسلمين

بنيامين ستورا  -  عبد الوهاب المؤدب
بنيامين ستورا - عبد الوهاب المؤدب

ماذا يمكن أن نقول عن هذا الكتاب الموسوعي الذي يحاذي الألف ومائتي صفحة، والذي ساهم فيه أكثر من مائة باحث عربي ويهودي وأجنبي؟ هل يمكن عرضه أو استعراضه في مقالة صحافية واحدة؟ هل تفيه حقه؟ بالطبع لا، ولكننا سنحاول ما نستطيع. نلاحظ أن هذا الكتاب الضخم يستعرض تاريخ العلاقات منذ أن بدأت بين النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والقبائل اليهودية في الجزيرة العربية، قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، حتى انفجار الصراع العربي - الإسرائيلي بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948؛ أنه تاريخ طويل عريض: أربعة عشر قرناً من الزمن فقط! ولكن عرض الأمور على هذا النحو قد يوهمنا بأن هذه العلاقات كانت كلها حرباً ضروساً وعداءً مستحكماً. وعندئذ، سوف يطمس قروناً طويلة من التفاعل الحضاري الخلاق بين العرب واليهود. ونقصد بها قرون العصر الذهبي في بغداد أولاً، فقرطبة والأندلس الزاهرة ثانياً، بل وحتى على مستوى الفترة النبوية ذاتها، نلحظ أن النظرة إلى اليهود كانت إيجابية جداً في البداية، قبل أن تنقلب إلى سلبية.
وبالتالي، فمن يرد إقامة السلام والإخاء مع اليهود يمكنه أن يجد تبريراً إسلامياً تاريخياً، ومن يرد مواصلة العداء والصراع إلى ما لا نهاية يمكنه أيضاً أن يجد تبريراً. وهذا يعني أنه لا يوجد باراديغم واحد تجاه اليهود، وإنما باراديغمان اثنان (نقصد بالباراديغم هنا الموقف الفكري الأعلى أو النموذج اللاهوتي الأعظم الذي يعلو ولا يعلى عليه). ولكن الصراع الهائج الذي حصل بعد احتلال فلسطين، وتأسيس الدولة الإسرائيلية، عام 1948، قضى كلياً على باراديغم السلام، وغلب نهائياً باراديغم الحرب والعداء والصراع، ثم تحول هذا الباراديغم العدائي إلى حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس، انغرست كلياً ونهائياً في وعي الشعوب العربية على مدار الستين سنة الماضية، وأصبحت راسخة رسوخ الجبال. وتخيلنا، عندئذ، أن العلاقات بين العرب واليهود كانت دائماً هكذا عدائية صراعية على مدار التاريخ، ولم توجد نقطة ضوء واحدة فيها، ولكننا واهمون مخطئون، فمسيرة التاريخ الفعلية الواقعية تناقض ذلك، كما يشرح لنا المشرفان الكبيران على هذه الموسوعة التاريخية. فقد أشرف عليها من الجهة العربية المفكر التونسي التنويري الكبير عبد الوهاب المؤدب، وهو صاحب الكتاب الشهير باسم: مرض الإسلام (بالأصولية الظلامية). وأشرف عليها من الجهة اليهودية المؤرخ الأكاديمي المعروف بنيامين ستورا، وهو فرنسي من أصل جزائري لأنه من مواليد قسنطينة، حيث نشأ وترعرع، قبل أن يهاجر إلى باريس. وقد لمع اسمه مؤخراً لأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استقبله شخصياً في قصر الإليزيه، وعينه مسؤولاً عن ترميم الذاكرة الجريحة بين فرنسا والجزائر. وفي الوقت ذاته، عين الرئيس الجزائري المؤرخ عبد المجيد شيخي مسؤولاً عن هذا الترميم من الجهة الجزائرية؛ والهدف كله هو تعزيز المصالحة التاريخية بين الشعبين.
يشرح بنيامين ستورا مشروع الكتاب قائلاً: هذه الموسوعة التي نقدمها للقراء لا سابق لها ولا مثيل. صحيح أنه يوجد تاريخ للعرب، وتاريخ للمسلمين، وتاريخ لليهود، ولكن بشكل منفصل، كل على حدة. غير أنه حتى الآن، لا يوجد كتاب موسوعي ضخم يشرح لنا عمق العلاقات الإسلامية - اليهودية، وبالأخص العربية - اليهودية. هذا ما كان ينقص المكتبة الفرنسية، ولذلك شرعنا بسد هذا النقص. وكنا نهدف من وراء الكتاب إلى عدة أشياء: أولها ردم الهوة النفسية أو السيكولوجية السحيقة التي تفصل بين العرب واليهود في زمننا الحاضر. فقبل ذلك، لم تكن هذه الهوة عميقة أو سحيقة، على عكس ما نتوهم. قبل ذلك، كانت هناك علاقات طبيعية، بل وودية في أحيان كثيرة، على مدار التاريخ. من يصدق ذلك الآن؟ في الماضي، كان المؤلفون أو المفكرون يتحدثون عما يجمع بين المسلمين واليهود، لا عما يفرق، أو قل كانوا يتحدثون عما يجمع أكثر مما يتحدثون عما يفرق. كانوا يتحدثون عن القواسم المشتركة التي تتيح لهم أن يتعايشوا بعضهم مع بعض جنباً إلى جنب. فالإسلام أيضاً دين إبراهيمي، مثل اليهودية والمسيحية اللتين سبقتاه إلى الوجود... هذا وقد تحدث الأكاديميون الكبار عن هذه القضايا، وعن العصر الذهبي للعلاقات العربية - اليهودية في عهد الحضارة العباسية أو الأندلسية، حيث ازدهر اليهود ثقافياً آنذاك، وقدموا عطاءهم الخاص في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وفي المجالات كافة، أدبية وشعرية وفلسفية، بل وحتى فنية وموسيقية. ولكن كل هذا التفاعل الحضاري الإبداعي الخلاق أصبح نسياً منسياً بعد تأسيس دولة إسرائيل، والتراجيديا الفلسطينية الهائلة الناتجة عن ذلك مباشرة. كل هذا أصبح في خبر كان وأخواتها، وزال كلياً وكأنه لم يوجد قط، وأصبحت الأجيال تعتقد أن الصراع بين العربي واليهودي أبدي أزلي لا يحول ولا يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن الحقيقة التاريخية تقول لنا العكس تماماً، فالعلاقات الإنسانية والتفاعلية الحضارية بين العرب واليهود كانت قوية إبان الحضارات السابقة والعصور الذهبية. وبالتالي، فالشيء الذي سمم الأجواء كلها هو هذا الصراع الجهنمي المدمر الذي لا يزيد عمره على خمسين سنة، في حين أن عمر العلاقات العربية - اليهودية يزيد على الألف سنة. وهذا لا يعني إطلاقاً التقليل من خطورة المأساة الفلسطينية، وآلام شعب فلسطين التي تفوق الوصف، ولكننا نحاول موضعة الأمور ضمن منظورها التاريخي الأوسع.
وأما عبد الوهاب المؤدب، فيقول لنا ما فحواه: لقد كان هدفنا من الإشراف على هذا الكتاب الجماعي الضخم تذكير المسلمين، والعرب خصوصاً، بالحقيقة التالية: إن العلاقات بيننا وبين اليهود كانت خصبة كثيفة معطاءة على مدار التاريخ حتى عام 1948. ولا أهدف هنا إلى تجميل هذه العلاقات، أو المبالغة فيها، وإنما إلى التذكير فقط بلحظات التبادل الثقافي والحضاري. هل نسينا الحضارة الأندلسية؟ هل نسينا الموسيقى العربية - اليهودية؟ بل هل نسينا الفلسفة العربية - اليهودية؟ كلنا يعلم أن الفيلسوف اليهودي الكبير موسى ابن ميمون كتب رائعته الكبرى «دلالة الحائرين» باللغة العربية، لا العبرية. وبعدئذ، ترجمت إلى العبرية. وبالتالي، فهو نتاج الإطار الثقافي للحضارة العربية الإسلامية. وهو بهذا المعنى مثقف عربي لأن كل من كتب وأبدع بلغة الضاد فهو عربي، شاء أم أبى. وينبغي العلم بأن الإطار الحضاري العربي الإسلامي كان هو المهيمن على العالم آنذاك، مثلما أن الإطار الحضاري الأوروبي والأميركي الشمالي هو المهيمن على العالم حالياً. وكل من يريد أن يشتهر آنذاك كان ينسى لغته الخاصة، ويدبج كتاباته وإبداعاته باللغة العربية. فقد كانت لغة العولمة الثقافية آنذاك، تماماً مثل الإنجليزية حالياً. ولذلك، أبدع فيها المفكرون اليهود وغير اليهود. وينبغي العلم أيضاً أن كثيراً من وزراء وأطباء ومستشاري الخلفاء العرب المسلمين كانوا من اليهود، وكانوا يثقون بهم كل الثقة. وبالتالي، فلا ينبغي أن نشطب على كل هذا التراث التفاعلي الحضاري بجرة قلم بسبب الصراع الحالي الذي سيجد له حلاً مهما طال الزمن.
- القضية الفلسطينية في ضوء فلسفة التاريخ
ماذا نستنتج من كل ما تقدم؟ نستنتج أن لغة الرصاص والذبح والقتل ليست هي الوحيدة الممكنة بيننا وبين اليهود. فبما أن التعايش المثمر حضارياً قد حصل سابقاً، فلا أعرف لماذا لا يحصل لاحقاً؟ بما أنه قد حصل في ظل خلفاء عباسيين وأمويين وأندلسيين كبار، كعبد الرحمن الثالث وسواه، فلماذا لا يحصل حالياً؟ بمعنى آخر: لماذا لا نجرب لغة أخرى مع إسرائيل واليهود عموماً؟ بعد أن استنفدنا لغة الرصاص والعداء المطلق على مدار خمسين سنة متواصلة، لماذا لا نجرب لغة الحوار والتفاوض والتعارف وجهاً لوجه؟ لهذا السبب فإني لا أفهم كل هذه الإدانات والهجمات التي تتعرض لها الإمارات العربية المتحدة حالياً. فجأة، انفتحت عليها الأبواق الشعبوية والغوغائية الديماغوجية من كل الجهات، وتحول قسم من المثقفين العرب إلى صوت واحد يردد الشعارات نفسها والكلمات نفسها كالببغاوات. من يستطيع أن يقول إن الإمارات تخلت عن القضية العربية، وهي الدولة التي دعمت القضية الفلسطينية على مدار التاريخ، وحتماً ضخت فيها المليارات، وأعتقد أنها ستصبح أقدر على خدمتها بعد الصلح والاتفاق؟ وفجأة، تتحول إلى دولة «خائنة» لأنها ارتأت أن هناك طريقة أخرى لإدارة الصراع غير الطريقة المكرورة العقيمة السابقة التي لم توصل إلى نتيجة. ينبغي أن يعلم إخواننا من المثقفين الفلسطينيين أن جراحاتهم جراحاتنا وآلامهم آلامنا وقضيتهم قضيتنا، ليس فقط لأنها عربية، وإنما لأنها قضية حق وعدل، ولكن لا ينبغي بعد الآن استخدامها سيف ديموقليس المسلط فوق الرؤوس بتهمة «الخيانة». وهي كلمة مرعبة شائنة لا تنطبق حتماً على دولة رائدة كالإمارات. وينبغي العلم بأن غلاة اليهود في فرنسا يستخدمون أيضاَ تهمة معاداة السامية سيف ديموقليس، ويرعبون بها كل المثقفين الفرنسيين، ويسلطونها على رؤوسهم. وبالتالي، فلا ينبغي أن يقع إخواننا الفلسطينيون في الفخ نفسه أو الغلطة نفسها، فهذا يسيء إلى القضية ولا يفيدها. أخيراً، ربما عادت الأندلس مجدداً إلى فلسطين أو من خلال فلسطين. فإسرائيل مهما كبرت وعظم شأنها، تظل قطرة في بحر من العرب، والمنطقة عربية من المحيط إلى الخليج، وستبقى. ولكنها عربية بالمعنى الحضاري والإنساني، لا بالمعنى الشوفيني الطائفي الشعوبي. بهذا المعنى، فنحن نعيش الآن منعطفاً تاريخياً كبيراً، ليس فقط بالنسبة للقضية الفلسطينية، وإنما بالنسبة للقضية العربية ككل. أقصد أن القرون الوسطى العربية الإسلامية، أي عصور الانحطاط، سوف تنهار، وتحل محلها العصور العربية التنويرية الجديدة. وقد ساهمت الإمارات في ذلك مؤخراً، عندما تعانق على أرضها شيخ الأزهر وبابا روما، وأصدرت وثيقة «الأخوة الإنسانية». وقدمت بذلك خدمة كبيرة للعرب والمسلمين، عندما أبرزت الصورة المشرقة للعروبة والإسلام. ونقضت بذلك تلك الصورة الظلامية الداعشية التي شوهت وجهنا وتراثنا في شتى أنحاء العالم. وبالتالي، فبدلاً من أن نشكرها نرميها بحجر!


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا رجال الشرطة يقفون للحراسة مع وصول المسلمين لأداء صلاة الجمعة في مسجد جيانفابي في فاراناسي 20 مايو 2022 (أ.ف.ب)

الهند: قوانين مقترحة للأحوال الشخصية تثير مخاوف المسلمين

من المقرر أن تطرح ولاية هندية يحكمها حزب رئيس الوزراء ناريندرا مودي قوانين الأحوال الشخصية العامة الجديدة المثيرة للجدل والتي ستطبَّق على جميع الأديان.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
آسيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال حفل الافتتاح (رويترز)

مودي يفتتح معبداً هندوسياً بُني على أنقاض مسجد تاريخي

افتتح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليوم معبداً هندوسياً، بني على أنقاض مسجد تاريخي، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة في سياسته القومية المحابية للهندوسية.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.